التَّسامح بين الأديان من منظور الدّبلوماسية الرُّوحية في كتاب جديد

الخميس 03/ديسمبر/2020 - 10:53 ص
طباعة التَّسامح بين الأديان روبير الفارس
 
صدر للكاتب والمفكر المغربي  الدكتور خالد التُّوزاني مؤخرا كتاب " التَّسامح بين الأديان من منظور الدّبلوماسية الرُّوحية "
        وقال الدكتور خالد في مقدمة الكتاب إنَّ التَّسامح بين الأديان سيكون أكثر إلحاحاً في المستقبل، حيث تجري في عصرنا أحداث تطرّف دينيّ بمسمَّيات عِدَّة، وبتوظيفٍ لعدد من الإيديولوجيات والأفكار، التي تروم فرض الهيمنة وتحقيق السّيطرة على الشُّعوب واقتصاديات كثير من دول العالَم، وباتَ الأمن العالَمي في مهبِّ الرّيح مع انتشار بُقَعِ التَّوتُّر، واستمرار النّزاعات، وتزايد وتيرة الحُروب على ضِفاف العديد مِن حُدود الدّول ومناطق العُبور، وهي أحداثٌ تجري باسم الدّين، وباسم الحقّ، وترفع شعارات دينية برّاقة، فالعُنف باسم الله، من أخطر ما يهدِّد عالمنا المعاصر، لأنَّ المتطرّف الدِّينيّ يرى نفسه صاحب الحقّ المطلق في تمثيل الله وتنفيذ شرع الله عُنوة.
     والمؤكد أنَّ استمرار هذا الوضع قد يقود لحروب عالمية جديدة تهدم بُنيان الحضارة المعاصرة، وتَقضي على المدَنية وتشلّ حركة التَّواصل، "فالكراهية والتَّعصّب، يستهدفان أوّلاً، الجُسور والقناطر والمعابر، فهي أوّلُ ضحايا الحُروب والنِّزاعات، ومعلومٌ دورها وأهميتها في الوصل والتَّفاعل بين جهات ومُكوّنات أيّ مجتمع أو دولة، وما يحدث أنها تستهدف قبل ذلك ومعه المدارك والهويات الجمعية والروابط المشتركة" ، ولذلك كانت الأديان – في أصلها وجوهرها- سبيلاً لتحقيقِ انعتاق الإنسان من سيطرة أخيه الإنسان، ليخضع المرء لخالقه وحده، فيحقّق الخلاص المأمول، والحُرّية المنشودة، وينخرط في إعمار الأرض وصناعة الحضارة، غيرَ أنَّ بعض أتباع الدِّيانات سَعوا في الاتجاه المضادّ، فبدل التسامح والحوار وقبول الاختلاف، نراهم يصمّون آذانهم، ويمنعون الآخر من ممارسة حريته الدينية، في اختيار العقيدة التي يراها مناسبة له، إلى جانب توظيف الكثيرين للدِّين في المجالات السياسية والاقتصادية، فالدّين بالنسبة لأصحاب المصالح والمشاريع بمثابة بترول عائم، سهل الاستخراج، وبالتكلفة الأرخص ، وله فعالية مضمونة وتأثير بالغ على المتلقين وحشود الجماهير التي تنجذب بسبب عاطفتها وانفعالها أمام الخطاب الدِّيني، مما خَلق بيئة عالمية مُشَوَّهة على مستوى التَّدين وحوار الثقافات والأديان، وأفرغَ الكثير من القيم من محتواها النبيل؛ كالتسامح والوسطية والمساواة والعدل.. وغيرها من القيم الإنسانية الكونية، التي أصبحت تعني الانهزام والتطرف والضعف والاستسلام، بعدما كانت سُلّماً ترتقي به البشرية في درجات الإنسانية.
   واضاف الدكتور خالد قائلا  إنَّ ما نراه اليوم في وسائل الإعلام مِن مشاهد دموية، وأجساد تنفجر طوعاً واختياراً طلباً للجنّة والتَّقرب إلى الله ونيل رضاه عبر التَّضحية بالجَسد لقتل المرتدّين أو العُصاة أو مَنْ هو بعيد عن الله، دليل على خطورة سِلاح العُنف الدّيني وسهولة امتلاكه والتحكّم فيه وتوجيه، بل إنَّ هذا السِّلاح "الجسدي" لا يُكلّف شيئا سوى بعض الكلمات الدينية التي يُشْحَنُ بها المتديّن "المتطرّف"، فيسعى مباشرة إلى التنفيذ، ويتحوّل هو نفسه لسلاح فتّاك، يبدأ بنفسه ليقتل كل مَنْ يوجد بجواره أو في محيطه، وتتناثر أشلاء البشر ، في مشهدٍ لم تألفه البشرية، ولكنها اليوم اعتادت عليه بسبب تزايد حجم هذه الظاهرة، وارتباطها في الغالب بمبررات دينية وعقدية وطائفية، والمؤسف والخطير في الآن نفسه، أنَّ المستهدفَ بهذا العنف هو المجتمع برمّته، لأنه يصبح في نظر المتطرّف الديني خارجاً عن حُكم الله وبعيداً عن شريعة الله، وفي الحقيقة يتعلق الأمر بشريعة المتطرّف أو مَنْ يقف وراءَه مِن المنتحلين لصفات المتدينين، لأسباب تطرق إلى بعضها  هذا الكتاب.
     والظاهرة اللافتة للانتباه في كثير من وسائل الإعلام الدّولية ومواقف بعض الزعماء السياسيين في العالَم، هي ربط التّطرّف الدّيني بالإسلام، فقد قُتِلَ في الحربين العالميتين الأولى والثانية ما يزيد عن ستّين مليون إنسان، ولم يكن للمسلمين أيّ دور فيها، ولم تثر في وسائل الإعلام ما أثاره التطرف الديني عند المسلمين، مما يدلّ على أنَّ المشكلة التي يعاني منها العالم اليوم هي استعلاء بعض الدول وشعورها بالتفوّق على غيرها، وهذا نوع من التطرّف ورافد من روافده، يؤدي إلى مزيد من العنف والعنف المضّاد، وعلى الرّغم من الشّعارات البرّاقة التي يتمّ رفعها في الدّبلوماسية الرّسمية وصور المصافحة الحارّة والاستقبال الملكي أو الأسطوري بين الزعماء مما يوهم الرأي العام بالوصول إلى تفاهم أو اتفاق ووئام، فإنَّ تلك المشاهد والمشاعر سرعان ما تذوب بمجرد مغادرة الطرفين وغياب عدسات المصوّرين، وهذا يدفعنا للحديث عن أزمات النظام السياسي الدولي المعاصر، والذي يشكو من أزمة قيم بالدرجة الأولى، حيث غياب ثقافة الاعتراف وعدم التسليم بالاختلاف ومحاولة فرض الائتلاف، والعمل بسياسة الأمر الواقع والكيل بمكيالين وتحكّم أفكار الصّراع والمنافسة والهيمنة.. بدلاً من التَّعارف والتَّعاون والتَّضامن والتَّسامح والتّفاهم.
    وإذا كانت الدّبلوماسية الرّسمية لم تفلح في مدّ جسور تعاون حقيقي بين الشعوب، وعجزت عن تحقيق التسامح بين الحساسيات الدّينيّة وترسيخ التعايش بين مختلف التيارات، فقد كان لابدّ للأنماط الأخرى من الدِّبلوماسيات الموازية أن تُسْهِم بدورها في محاولة ردم الهوة بين الشعارات التي يتم رفعها والأعمال التي يتم إنجازها، وتأتي الدِّبلوماسية الدينية على رأس أهم الاستراتيجيات التواصلية الكبرى التي يمكن أن يكون لها تأثير واضح وفعّال في مجالات تدخّلها، فهذه الدّبلوماسية ترتكز على جملة من القواسم المشتركة بين المؤمنين عبر العالم ومن مختلف الديانات، و في هذا الكتاب اقترح الدكتور خالد تكوين دبلوماسية أخرى تنهل من العِرفان الصُّوفيّ  مادّتها المعرفية ومن التَّزكية الرُّوحيّة منهجها الإصلاحيّ والتنويريّ، لاقتراح ما نطلق عليه "دبلوماسية التسامح"، كما أسّسها الكتاب المؤسِّس للمفاهيم الكبرى وهو القرآن الكريم، في عدد من آياته، مثل قوله تعالى: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ" ، وفي آية أخرى قوله تعالى: "وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ" ، إلى جانب ما تحفل به سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من مظاهر التسامح ومكارم الأخلاق، إنها نمط من الدبلوماسية الرُوحيّة التي تتجاوز المظاهر الشّكلية للعبادات وطقوس التقرّب من الله في مختلف الأديان، إلى ما هو أكثر عمقاً في الدّين، وهو الجانب العَقَديّ والأخلاقيّ الذي تقابله سلوكات عملية في الحياة وفي مواقفها، خاصّة وأنَّ "الأخلاق هي المؤهّل الحقيقي الذي يتجاوز كل العقبات، وهو فوق الشّهادات والمؤهِّلات" ، فلا يحتاج المرء للكثير من الكلام بقدر ما يحتاج للمزيد من تصفية العمل وإتقانه والوفاء بالمبادئ والقيم والشِّعارات، ذلك أنَّ الاحتجاج بالعمل أقوى من الاحتجاج بالنُّصُوص، لأنَّ العملَ لا يقبلُ تأويلاً.
      إنَّ دبلوماسية التسامح وفق المنظور العرفاني تسعى لتأسِيس تعارف روحيّ يحترم الاختلاف ويؤسس لتسامحٍ يخلق الائتلاف، وليس من غايات هذا التَّعارف الإقناع أو دفع الآخر للتخلِّي عن معتقداته ومواقفه، لأنَّ التسامح وفق هذه الرؤية ينطلق من بعض المسلَّمات، منها: أنَّ هداية الناس، ليست من اختصاص البشر، وإنَّما هي من تفضّل الله على مَنْ يشاء من عباده، ومنها أيضاً: أنَّ الصَّواب أو الخطأ أو السَّير على الهُدى لا يعلمه إلا الله، فالحقيقة المطلقة لا يملكها إلا خالق البشر، وهذه الأسس الأخلاقية والمنطلقات العَقدية يستمدها أهل العِرفان الصُّوفي من القرآن الكريم باعتباره روح الكون ومعراج التعرّف إلى الله، حيث يقول الله تعالى: "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" ، ويترتب عن هذه الحقيقة الكونية أمور كبيرة في حياة الإنسان، وخاصّة في تواصله مع ذاته ومع الآخرين، وفي رؤيته للحياة والكون والوجود وما بعد الحياة والموت، ولا شكّ أنَّ الذي يحمل هذه العقيدة لا يمكن أبداً أن ينتقم أو يعتدي على الغير أو يزدري الناس أو يسيء إلى خلق من مخلوقاته.
       ولعل من أهم القضايا التي لها تأثير عميق في مسار الإنسان على الأرض هو سعيه للتعرّف إلى الله، والعجيب أن تكون وسيلته في هذا التعّرف هو التَّعارف، فالإنسان يميل بفطرته إلى الاجتماع البشريّ، ولذلك خُلِقَت أرواح الناس لتلك الغاية، على ائتلافٍ واختلافٍ بقصد إنتاج التَّكامل المعرفيّ في طريق السّير إلى الله تعالى، وهذا من أعجب السُّنن الإلهية في الخلق البشريّ وألطفها ، وهو مفهومٌ من آية قرآنيةٍ وحديثٍ نبويٍّ شريف، فأمَّا الآية فقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" ، وأمَّا الحديث فهو قوله عليه الصَّلاة والسلام: "الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ" ، ولذلك فإنَّ التَّعارف العُمرانيّ ضروريّ للإنسان، ليس فقط لأنه لا يمكن أن يعيش بصورة انفرادية اعتزالية، فهذا أمر بديهيّ، ولكن ليكون ذلك مُقَدِّمة لإنتاج حوار في المجال الرُّوحيّ، والتَّداول المعرفي بحقيقة المعرفة بالله في طريق السّير إلى الله ، وهذه عينُ الدِّبلوماسية الرُّوحية التي ننشدها.
      قد تشتركُ الدِّبلوماسية الرُّوحية في بُعدها العِرفاني مع كثيرٍ من الفلسفات الإنسانية والقيم السَّامية العليا، كما قد تتقاطع مع ما هو موجود في بعض الدّيانات المسيحية واليهودية، وهذا أمر بديهيّ ما دامت هذه الدِّبلوماسية خِطاباً موجهاً للأرواح والضَّمائر وللنُّفوس السّليمة في فطرتها، تسعى لتبادل المعرفة بالله، ومَدّ جُسور الإخاء في الله، ورأب الصَّدع، وتأليف القُلوب، وبتعبير آخر، إن هذا النمط من الدبلوماسية يتجاوز البعد الدنيوي المصلحي المحدود في الزمان والمكان، ليحقق نفعاً أخروياً أزلياً يستمر تأثيره ويبقى مفعوله حيّاً دائماً، لأنَّ الأصل في الروح البقاء لا الفناء، فقد يغيب الجسد، ولكن الأعمال والنّوايا تبقى في الأثر بصمة لا تزول، ومن الواضح أنَّ هذه الخصوصيات التي تطبع الدبلوماسية الروحية يمكن أن تؤثر في الكثير من العلاقات الإنسانية، وتغيّر مجرى كثير من الأحداث والمواقف، بطريقة عفوية، سلسلة، عذبة، ناعمة، لدقّتها لا تظهر ولا تُرى، ولكن أثرها هو الذي يظهر وينمو، ويثمر الخير في كل مكان، فتُرى جنّة غنّاء، وبساطاً من المحبة يسع الجميع، إنها دبلوماسية تسامحٍ وجبر للخواطر، تؤدي دورها انطلاقاً من منظور عِرفانيّ يرى في الإنسان مركز الكون، تطوف حوله الموجودات ويطوف حولها، في حركة دائرية كلما اتَّسع مُحيطها زاد عُمْقُ المحبَّة التي يكنّها العارفون بالله لكلِّ مخلوقات الله، وبهذا المعنى يُصبح الحديث عن التّسامح بين الأديان حامِلاً كلّ هذه القيم والمعاني والدلالات ومنتجاً لقيم أخرى تُسْهِمُ في بناء حضارة الإنسان وحمايتها.
  ويهدف  الكتاب كما يقول الدكتور خالد  هو أن يضيف لبنة جديدة لدائرة التّعارف الإنساني المنسجم مع حركة الكون السَّيّار في التعرّف إلى الله، بدوام الإحسان إلى مخلوقاته، وعلى رأسها  قداسة الإنسان الذي ينبغي أن لا يُهان، فكان لابدّ من تأصيل معاني التسامح وفق رؤية متوازنة تنهل من الأديان جوهرها وهو تتميم مكارم الأخلاق، ولا ندّعي أبداً إبداع أيّ شيء في هذا المجال، فالمعاني مطروحة في الطريق، ولكن جهاز الاستقبال ينبغي أن يكون مستعداً لالتقاط الإشارات، وإنَّ موضوعاً كهذا الموضوع المتشعّب، لا يكفي فيه كتاب واحد، .
نصوص التسامح
قال الدكتور خالد في ختام كتابه أنه على الرّغم من شُهرة بعض النصوص المُؤسِّسَة لفكرة التسامح، وخاصَّة تلك النُّصوص التي مصدرها التّراث الإسلامي العرفاني، مثل مؤلفات ابن عربي الحاتمي وجلال الدين الرومي، والتي تداولَها العَالَمُ على نطاق واسعٍ من خلال التَّرجمات المتعددة لها، إلا أنَّ عناصرَ القوّة في العِرفانيات الإسلامية لم يتم استثمارها بعد، خاصةً وأنَّ هناك تيّارات غير إنسانية في اختياراتها وغاياتها، تسعى لتجريد الإنسان من إنسانيته، ليتحوّل إلى شبيه بالآلة؛ يعمل ويتحرّك دون أن يعي ما يقوم به، ويقضي في ذلك سنوات عمره، دون أن تكون له أيّ رسالة في الحياة، تلك التّيارات التي تعتبر الأخطر على الإنسانية، ومع ذلك تزعُمُ أمامَ الملأ أنها تتحرّك بدوافع إنسانية وترفعُ شِعار الدِّفاع عن حقوق الإنسان وحقوق البيئة وحقوق الحيوان.. ولكنها في الواقع تخفي وراءها مشروعاً سياسياً مُتعالياً يريد أن يُهيمن على البشرية، ويُحوّل الآخرين إلى عبيد، فيُعامِلُ المخالفين على أنهم درجة ثانية من الإنسانية، وهي الرؤية التي تهيمن اليوم على كثير من نُظُم السّياسة والاقتصاد والإعلام، وتقفُ عائقاً أمام كلّ حِوارٍ جادّ ودعوة صريحة للتَّعايش، وقد أفرز هذا الوضع اختلالاً في موازين القِيم، حيث نجدُ تبخيس قيمة الحياة  في كثير من مناطق العالَم، ولا يتحرّكُ المجتمعُ الدّوليّ عندما يُباد شعبٌ ما بالكامل، أو تُحتلّ أرضٌ ما بالقوّة والعنف، أو عندما يموتُ الأبرياء في حربٍ لا يد لهم فيها، بل المؤسف حقّاً، أن نجد هذا التحرّك يتمّ في الاتجاه المضاد بإعانة الظالم وتقويته ودعمه، مع توظيف آلة الإعلام الدولي في قلب الحقائق وإخفاء البيانات، أو تسخيرها في تشويه صورة بعض الدول والمجتمعات، وصناعة زعامات وهمية وقيادات جوفاء لا تمثل شعبها بقدر ما تخدم مصالح تلك التّيارات العالمية.
     فهل تستطيعُ الدبلوماسية الروحية أن تفرض سُلطتها الجديدة، وخاصّة أمام مستجدات العلوم المعاصرة التي أقرّت بوجود العوالم الأخرى الغيبية؟
    إذا كان التصوف العِرفاني قد نجح في تسويق رؤيته للوجود والكون، ونشر فكرته الدّينية القائمة على ترسيخ التسامح بأبعاده النظرية والعملية، من خلال محبّة المخلوقات واحترام المخالف، ودرء آفتي التكبّر والغلوّ، وهي القيم الإنسانية التي تحاول الأمم المتقدمة بَثَّها في الناس، مستمدةً أُسسها من روح ديانات الكتاب، وهي سِماتٌ طَبعت التصوّف وخَلَقَتْ منه خطاباً تجديدياً وإقناعياً مؤثّراً وفاعلاً في الآخر، فظلّ محطّ اهتمام المفكرين والعلماء في الغَرب وباقي أرجاء العالَم، الذين تبنّوا بعض أفكاره واعتنقوا معالم منهجه، وهكذا يتبيّن أنَّ توظيف العِرفانيات في السّياق المعاصر، وخاصَّة في ظروف الصِّراع والتّوتر والحروب التي تشهدها بعض المناطق، يمكن أن يخدم مساعي السَّلام ويعزّز الدّبلوماسية الموازية، فلا شكّ أن استحضار الأبعاد الإنسانية والروحية في التواصل والحوار، يأتي في الغالب بثمار وارفة الظلال.
     وبما أنَّ العِرفانيات لها صلة وثيقة بالجوانب الروحية في الدّيانات وخاصة في الإسلام، فإنَّ التَّفاعل العربي الإسلامي مع الحضارة الغربية لم يكن في اتجاهٍ واحدٍ ووحيدٍ، وهو تأثّرنا بتلك الحضارة وانبهارنا بمبتكراتها ومنجزاتها الفكرية والتّقنية فحسب، وإنما كان للفكر العربي المعاصر تأثيرٌ في الغرب أيضاً، على الأقل في الجانب الرّوحي، إذا كُنَّا بعيدين عن التفوّق عليه في الجوانب الأخرى المادّية والتّكنولوجية، مما يعزّز الثقة في العَقلِ العِرفانيّ وقدرته على حلّ المشكلات المعاصرة، والإسهام في مُعالجة القضايا الإنسانية المستعصية، وخاصة قضية التطرّف والحاجة إلى ترسيخ التسامح، مادام هذا العقلُ يمتلك رؤية للكون والحياة تتجاوز ظاهر الأشياء إلى باطنها، وتركّز على الجوهر لا الشَّكل، وعلى الأرواح لا الأشباح، وعلى المعاني لا الأواني، أي الدلالات لا الألفاظ، فهو عقلٌ قلبيٌّ، أو قلبٌ له عقلٌ، حسب التعبير القرآني، في قوله تعالى: "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا" ، وهذا هو التَّوازن المطلوب، ليحقق المرء الانسجام مع ذاته أولاً قبل أن ينخرط في إصلاح العالَم، ولذلك يجوز أن نقول إنَّ التّزكية العرفانية حركة إصلاحية تبدأ من النفس؛ فتغيير الذّات وسيلة لتغيير العالَم، ومَنْ انتصرَ على نفسه كان قادراً على مواجهة المخاطر الأخرى.
    وأكد الدكتور خالد  إنَّ التسامح من منظور الدبلوماسية الروحية، يتجاوز التّقليد إلى الإبداع والتّجديد، فيصعب حصره معانيه في العفو والصفح، وفي الجود والكرم، وفي التزكية والإصلاح، كما يصعب حصر مجاله في نطاق معين، مثل حوار الديانات أو الثقافات أو تواصل الأجيال والمجتمعات، وإنما ينبغي أن يصبح التسامح برنامج حياة، ومنهج تربية، وطريقة تدبير، وفوق كل ذلك رؤية للآخر: باعتباره شريكاً في الحياة وليس منافساً، الشيء الذي يجعلنا نؤكد أننا في حاجة إلى خطاب تسامح فاعل وممتد، يتواصل مع الآخر ولا يقصيه، يحاوره ولا يرفضه، يناقشه ولا يشتمه، يتكامل معه ولا ينعزل، يعترف بالجهود ولا يبخس الناس أشياءهم، بذلك يتحقق السّلام ويصفو العيش المشترك بأمان، ويكون مقدّمة لتقارب وجهات النظر في الأمور الأخرى الأقل خطراً.

شارك