تريندز للدراسات يناقش: إشكالات تصور الأمة عند الإسلام السياسي والتطرف العنيف

الخميس 06/مايو/2021 - 07:33 ص
طباعة تريندز للدراسات يناقش: حسام الحداد
 
الدراسة الجديدة لمركز تريندز للدراسات والمعنونة بـ "في الموقف من الأوطان والوطنية.. إشكالات تصور الأمة عند الإسلام السياسي والتطرف العنيف" للدكتور هاني نسيرة الكاتب والخبير السياسي المصري، مؤلف لعدد  من الكتب منها: الأيدولوجيا والقضبان: نحو أنسنة للفكر القومي العربي، والليبراليون الجدد في مصر إشكالات الخطاب والممارسة، وأزمة النهضة العربية وحرب الأفكار، والحنين إلى السماء والمتحولون دينيا ومذهبيا، " واالقاعدة والسلفية الجهادية" و" السلفية في مصر: تحولات ما بعد الثورة" و" محمود عزمي رائد حقوق الإنسان في مصر" و" الليبراليون الجدد في مصر إشكالات الخطاب والممارسة" صدر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية.
تفترض الدراسة أن تصور الإسلام السياسي لمفهوم الأمة تحديداً، يفسر كثيراً من مواقفهم تجاه الأوطان، ويشرح أسباب اتساع تأثيراتهم أممياً في بعض الفترات نحو بلدان ودول أخرى، وممارساتهم في إعاقة مسار النهضة العربية الحديثة، وفي إرهاق دول المنطقة ومجتمعاتها، لما احتوته هذه التصورات من أزمة وقصر نظر يعادي حركة التاريخ ويرهق منجزاته إن تحققت – كما سنوضح.
كما تتناول الدراسة تصور الإسلام السياسي لمفهوم الأمة في صراعه ضد مفهوم الوطن الحديث، بل ازدرائه أحياناً، كما يتكرر عند منظري السلفية الجهادية وبعض قادة جماعة الإخوان المسلمين، حين يتحدثون عن الوطن باعتباره مرحلة ووسيلة نحو الخلافة ليس إلا.
يقول هاني نسيرة:  خلافاً لمفهوم "الدولة" بالمعنى المعاصر، لم يرد في القرآن ولا في السنة النبوية مفردة "الدولة" مطلقاً بأي معنى يقارب أو يقترب من مفهومها الحديث بالمعنى المؤسساتي والتشريعي.
وهنا يعادي تصور الإسلام السياسي التاريخ ويرفض الصيرورة التاريخية والحقيقة الاجتماعية والسياسية، فقد كان من أركان بيعة "الإخوان"، حسبما يوصي مؤسس الجماعة حسن البنّا في "رسالة التعاليم" في توظيف الأمة لصالح الخلافة بقوله: "إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية بتحرير أوطانها وإحياء مجدها وتقريب ثقافاتها وجمع كلمتها حتى يؤدي ذلك كله إلى إعادة الخلافة المفقودة والوحدة المنشودة".
وهنا يصطدم تصور الأمة بمفهوم الوطن، وحضور غير المسلمين فيه. كما يتباين استعمالياً مع استخدام مفاهيم الدولة والوطن في العصر الحديث، مما يجعل ولاء عناصر الجماعة وتنظيماتها وارتباطاتها الدولية لغير الوطن أو الدولة، وهو ما كان محل التحفظ دائماً من كل الوطنيين والأنظمة على حد السواء.
نعم، لا يمكننا نفي أو رفض كون أحد تصورات "الأمة" أنها رابطة دينية وإيمانية تربط بين المؤمنين بدين أو اعتقاد معين أياً كان هذا الدين أو الاعتقاد، ولكن تأويل هذا التصور سياسياً وأيديولوجياً وشمولياً الذي يتجاوز الوطن والواقع والسياق، يبقى هو المشكلة الرئيسية فيه، خاصة أن تسييس لفظة "الأمة" بشحناته الإيمانية والوجدانية يعيق التفكير فيه والتعاطي معه، ويضع مفهوم الوطن في حرج، يفصل مع تطويره ويميز بين مواطنيه.
ويلاحظ أن تجاهل الخطاب الأصولي لتنوع مفهوم الأمة صاحبه اكتفاء بترديد شعار الأمة والدولة الواحدة، معتبراً الدولة القطرية المعاصرة سبة تاريخية وصنيعة استعمارية، سواء تلك التي أنتجها اتفاق سايكس بيكو سنة 1916، أو تلك التي لم ينتجها هذا الاتفاق، وبقيت كما هي – مثل مصر وإيران – واعتبارها نشازاً تاريخياً يستحق الرفض والتعالي والعمل على استعادة نموذج الدولة الواحدة للأمة الواحدة في صدر الإسلام وما قبل فتنه الصغرى والكبرى.
ولم يتحول مفهوم "الأمة" ويحضر بهذا الإشكال الكبير إلا بعد ظهور الدول الوطنية بعد اتفاق سايكس بيكو، وسقوط خلافة العثمانيين، حيث تم استخدامه رفضاً لمفاهيم مدنية ملتصقة بفكرة الدولة الوطنية كالمجتمع والشعب، وصار هو وحدة التنظيم الإنساني في التصور الأصولي المضاد للحداثة أو الداعي لأسلمتها، وهو تصور مختلف وبعيد عن تصور الدولة-الأمة القومية الحديث الذي يعد مفهوماً سياسياً وقانونياً يرادف مفهوم الشعب والوطن.
وعليه، بدأ الطرح الإسلاموي المعاصر في العصر الحديث، مقطوعاً ومنفصلاً عن أحداث التاريخ وتفاصيله وعن الواقع الحديث لدوله ومجتمعاته، وكان كثير من منظريه – مثل سيد قطب – يهربون من التاريخ وتفاصيله مركزين على العقيدة في تسويق وتمكين إيمانهم بأفكار الحاكمية أو الدولة الإسلامية أو الخلافة، والاستئناس – فقط – بمقتطفات تمجيدية عاطفية في الغالب.
ويبدو الاصطدام بين مفهومي الأمة والوطن لدى تيار الإسلام السياسي واضحاً، حيث يجعل هذا التيار الأمة هي الإطار الأوسع ويرفض مفهوم الوطن، فيما أن هذا الأخير يرتبط بمفهومي الجنسية والسيادة الوطنية في فضاء جغرافي سياسي محدد، حيث يُنتج المفهوم الأول قيمة المواطنة، فيما ينتج الثاني هوية تحمي حدود الوطن ومواطنيه. ويحصر الوطن بهذا المعنى تصور الأمة فيه، أو يجعله متدرجاً ويكون للوطن الأولوية الرئيسية فيه، مع عدم معاداته الروابط الثقافية أو الدينية الأخرى ما لم تكن ضداً أو خطراً على الوطن أو مواطنيه.
وتحدد الدراسة مجموعة من المخاطر التي تترتب على توظيف التيار السياسي لمفهوم "الأمة" ومن أهمها ما يلي:
1-مساواة الوطنية بالكفر:
يساوي الإسلاميون المتطرفون بين الوطنية والكفر، كجزء من حملتهم عليها، حيث تنازع الوطنية ومفهوم الوطن الحديث مفهومهم للأمة وللخلافة، خاصة وأن الوطن والوطنية ترسختا، وكانتا محل قبول عام منذ نشأة الدول الوطنية خلال القرن العشرين وقبله في بلدان العالم الإسلامي.
2-اختزال التاريخ والاجتماع في العالم العربي والإسلامي:
حيث يختزل الأصوليون التاريخ الإسلامي في الخلافة الواحدة، متجاهلين حضور الخلافات والممالك المستقلة فيه، حيث يختزلون تنوعاته الاجتماعية والطائفية والدينية في وحدة واحدة تحتكر الحديث باسم الأمة ذي الصبغة الدينية فقط.
3-تقديم الولاء لمصلحة الجماعات على الأوطان:  
برغم رفض الإسلام السياسي وخطابه لمفاهيم الوطنية والقومية العربية كما يفهمها أصحابها، إلا أنه حاول أسلمتها وتوظيفها، وذلك كجزء وتكتيك مرحلي يحقق أهدافه، فهو يستوعبها ويتجاوزها في آن واحد، فيكون الوطن والدولة الوطنية حلقة تقود للقومية التي يتم استيعابها في دائرة الأممية الإسلامية الأكبر ككل.
4-نزع الشرعية عن الأوطان والحكومات:
كان توظيف تصور الأمة لدى تيار الإسلام السياسي أساساً من أجل حشد الجماهير، وتفعيل الولاءات والسلطة والدعاية الدينية، لكن الأهم والأخطر هو نزع الشرعية عن الأوطان وأنظمتها، من أجل التمكين لنموذجه الديني السياسي، أو استعادة الخلافة والدولة الإسلامية الواحدة التي تشمل الأمة الواحدة حسب تصوره.
5-تغليب العقيدة والغاية الدينية على سواها:
حيث يعرف سيد قطب "الأمة" اعتماداً على الرابطة الدينية والعقيدة فقط، حيث لا تكون الأمة إلا بهما، رافضا أي رابطة أخرى، قائلاً: "الأمة هي المجموعة من الناس تربط بينها آصرة العقيدة. وهي جنسيتها. وإلا فلا أمة، لأنه ليست هناك آصرة تجمعها... والأرض، والجنس، واللغة، والنسب، والمصالح المادية القريبة، لا تكفي واحدة منها، ولا تكفي كلها لتكوين أمة، إلا ان تربط بينها رابطة العقيدة".
6- غائية الحاكمية وازدراء الوطن:
كان أبو الأعلى المودودي (1903- 1979م) أكثر اهتماماً بالدولة من الأمة على العكس من حسن البنّا الذي بدأ دعوياً حركياً، فالأول في السياق الهندي والباكستاني، اهتم بالدولة بشكل أكبر، حيث اخترع "الحاكمية" وأحيا مفهوم وحكم (الدار) الفاصل والحاكم على الحكومات، وصاغ الحاكمية كديمقراطية إلهية، يبقى سيف اختيارها محدوداً تماماً بما تحدده شريعة الله، في مقابل السيادة الشعبية أو الديمقراطية والمواطنية.
وفي خاتمة الدراسة يناقش نسيرة صراع الوطن والتطرف فيقول: تمايز المتطرفون بمعاداتهم لفكرة الوطن والدولة الوطنية، فالوطن مقولة وثنية عندهم! وقومية مقيتة، والدول الوطنية صنائع استعمار، إذ كان إيمانهم بمفهوم الأمة الديني فقط، كرابطة سياسية ووحيدة، وتوظيفه تمهيداً لإعادة الخلافة الإسلامية الواحدة المتوحدة في التاريخ الإسلامي، رغم أنها لم تكن كذلك في فترات التاريخ المختلفة، التي عرفت الخلافات المتنازعة وإمارات المؤمنين والطوائف والممالك المستقلة
فالخلافة ودار الإسلام التي تمثلها الدولة الإسلامية هي المعبرة وحدها عن الأمة وشرط استئناف حياتها الصحيحة وإيمانها الصريح، وفق مفهوم الولاء والبراء، كما يجب على المسلم في هذه الحالة الهجرة إليها، وقد شاهدنا ذلك مجسداً قبل سنوات قليلة في هجرات المقاتلين الأجانب لأرض تنظيم داعش في سوريا والعراق، حتى بلغ عددهم 40 ألف مقاتل، كان ربعهم على الأقل من المتحولين الجدد للإسلام، أصحاب الإيمان الغض والعفوي الحماسي الذي شدتهم فكرة دار الإسلام المحاصرة من مختلف دور ودول الكفر والطاغوت.
وفي سبيل ذلك يعادي هذا التيار- حسب درجات تطرفه- مفاهيم الوطن والوحدة الوطنية، لتكون عنده كفراً محضاً ووثنية معاصرة ينبغي قتالها، وهو ما يعبر عنه أيمن الظواهري بقوله: "إن تقديس الوحدة الوطنية ثمرة خبيثة من ثمرات سايكس بيكو التي قسّمت الأمة المسلمة لأسلاب متفرقة نهباً لتركة الدولة العثمانية، ثم عشّشت هذه السياسة الغازية المجرمة في عقولنا، حتى أصبحت صنماً مقدساً فيجب على المسلم طِبقاً لها في كل قُطر أن يتحد مع أبناء قطره وبلده حتى لو كانوا من أعدى أعداء الإسلام وأخبث خلق الله من الخونة وبائعي المبادئ والقيم".
والفارق بين هذا التصور الديني السياسي وغيره من تصورات الأمة الوطنية أو اللغوية أو العرقية، أنه يتوسع في توظيف معتقداته الراديكالية عملياً وسياسياً، في وعي لا تاريخي، لا يقنع بغير المفاصلة الإيمانية عبر وظيفة "الولاء والبراء" وعلى الإيمان السياسي المحبوس في التفكير التآمري والصراعات والحروب الدينية والطائفية، وغير الصراعي المتعايش والمتصالح مع التاريخ والاجتماع وسياقاتهما الجديدة أو الحديثة، ويزيح من الوعي وينزع الشرعية عن كل الدول المؤسسات والمفاهيم الوطنية عند الجماهير، وقد يتطور الأمر لمحاربتها والهجوم عليها متى سنحت له الفرصة.
ومن خطورة توظيفاته كذلك، اصطدام خطاب الإسلام السياسي، نتيجة تصوره الماهوي والعاطفي للأمة، بفكرة السلم الأهلي والهويات الوطنية لمجتمعاتها، عبر كل أنواع التكفير، الديني والسياسي والوطني، فكل ما هو سواه، ويخالف رؤيته أو مرجعيته، مدنس ومرفوض، وهو ما ينتج خاصة النظرة الدونية للأقليات، ويهدد مبادئ التعايش المدني والاجتماعي.
 ونتيجة هذا التصور المنغلق والتمييزي يكتفي الإسلام السياسي هوياتياً بـ" الجماعة المسلمة" كبديل ومضاد معاد لمفاهيم الوطن والمواطنة، رغم أن الاجتماع تحمل ويتحمل دائما تعدد جماعاته داخل المجتمع الواحد، ورغم أن التاريخ عرف الدول القطرية والإمارات والطوائف وكل التنوعات داخل الأمة منذ القديم.

شارك