الخطابات الدينية وضرب المرأة

الثلاثاء 15/فبراير/2022 - 04:03 م
طباعة
 
الوقوف أمام الخطابات الدينية التي تناولت آية وأخبار ضرب المرأة يكشف لنا بوضوح عمق مشكلة الخطاب الديني التقليدي والتنويري، فيشعرك بالحيرة هل هو يتجمل أم يُخادع! هل يجتزأ عن عمد أم أنه وقع في الاجتزاء دون قصد! ويظل السؤال الذي يؤرق من يُطالع كتب المفسرين والفقهاء ومعاجم اللغة وأشعار العرب لماذا الخطاب الديني يُخفى أنه يقوم بعملية اختيار للمدلول وأنه يسكت عن مدلولات أخرى؟ لماذا يُغفل البعد الاجتماعي للآية القرآنية؟! 
أبدأ بتناول المدرسة الإخبارية أو مدرسة الحديث كما تحب أن تُسمّى نفسها، فسنجدها أكثر صراحة وأكثر إيلاما في طرحها، فسنة الله في كونه من منظورهم أنّ للرجال قوامة بمعنى ولاية وسلطة وإمارة على النساء، ويمتنع أن تكون للمرأة مثل ذلك على الرجل، وعلة ذلك من منظورهم أن الله فضل جنس الرجال بقوة الجسم والعقل والإنفاق بقدرة على السعي للكسب لا تستطعها النساء لضعف قدرة الجسمية والعضلية، وهذا من منظوري صحيح إذا كنا سنتكلم عن مجتمع عرب الجزيرة العربية الأول حيث كان الرجل لا المرأة هو الذي يُحارب ويأتي بالغنيمة وهو الذي يخرج للصيد وفي رحلات تجارية تخترق الصحارى المقفرة وليست المرأة لكن حركة الاجتماع انتقلت بنا إلى مكان آخر ينبغي أن تتغير معه مفهوم القوامة التي تحمل مدلولا اجتماعيا وليس دينيا كما حاول الفقهاء والإخباريين، فالرجل والمرأة في مجتمع اليوم يستويان أمام القانون كلاهما مواطن تتولى الدولة حمايته، كما أنه لم يعد الكسب قاصرا على ما كان شائعا في البيئة العربية الأولى بما يمنح الرجل تفوقا، فالقوامة الاجتماعية التي تُؤسس لتفوق ذكوري حلّ بدلا منها قوامة المشاركة.
وإذا عدنا إلى تناول مدرسة الحديث لقضية ضرب المرأة فسنجدها ترى المرأة أمّا قانتة طائعة لزوجها أو ناشزة غير طائعة لزوجها، وأن النشوز داء دواؤه ثلاث: عظة ثم هجر في المضاجع ثم ضربٌ، فتُضرب ضربا يحصل به تأديبها، ولا يحصل به جُرح امتثالا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم "اتَّقوا اللهَ في النِّساءِ؛ فإنَّكم أخذتُموهنَّ بأمانِ اللهِ، واستحلَلْتُم فُروجَهنَّ بكَلِمةِ الله، ولكم عليهنَّ أنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تَكرَهونَه، فإنْ فعَلْنَ ذلك فاضرِبوهنَّ ضَربًا غيرَ مُبَرِّحٍ". [أخرجه مسلم ١٢١٨]. ويتوقف الزوج عن الضرب التأديبي إذا حصلت الطّاعة الظاهرة. وإذا انتقلنا إلى المدرسة الأصولية/ الفقهية فسنجد المذاهب السنية الفقهية الأربعة متفقة على أن علاج نشوز المرأة هو الضرب إذا لم ترجع بالوعظ والهجر، واشترطوا باتفاق بينهم ألا يكون الضرب مبرِّحا.
نخلص من ذلك إلى أن المدرسة الإخبارية/مدرسة الحديث، والمدرسة الأصولية/ الفقهية وأقوال المفسرّين الأوائل اتفقت على أن الضرب غير المبرّح بغرض تأديب الزوجة الناشز مشروع ومأمور به، على ألا يكون الضرب على الوجه والمهالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت". [أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة في سننهم]. 
هذا عن التراث فإذا عدنا إلى الخطاب الديني المعاصر فسنجده في مأزق بين التراث ومدلول الآية من جانب وما انتهت إليه العرف الإنساني الذي يُبشّع أي شكل من أشكال العنف ضد المرأة، ويراه انتهاكا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، وأمام الخطاب الإنساني العام وحركة الاجتماع المندفعة للإمام وجدت الخطابات الدينية نفسها مضطرة إلى اتّخاذ موقف من التراث والآية القرآنية بين متجاهلٍ يقفز إلى الأمام.. وبين مجتزئ يُحاول أن يُخفي جانبا من المدلولات والأخبار ويستدعى بحماسة جانب من تلك المدلولات والأخبار بما يتسق مع واقعه، وليس لديه مانع أن يلوى عُنق اللغة.
فدار الإفتاء المصرية على صفحتها اكتفت بنشر هذه العبارة: "الرجال لا يضربون النساء"، وهي عبارة تحمل إشكالية أكثر منها حلا؛ لأنها تتعارض مع الأمر القرآني للمؤمنين في سورة النساء بضرب الزوجة اللاتي يخافون نشوزهن، فما فعلته دار الإفتاء المصرية أنّها قفزت إلى الإمام حيث انتهى الخطاب الإنساني، فإذا كان المجتمع الدولي ومواثيق حقوق الإنسان ترى ضرب الزوجة ضد معاني الإنسانية فالمسلمون قفزوا إلى هذا المكان يقفون معهم على خط واحد، ولن تدخل في جدال مع النّص القرآني الكريم.
ومن أمثلة القفز إلى الأمام المادة الإعلامية التي قدّمها الداعية الشاب الأستاذ مصطفى حسني، فعند حديثه عن ضرب الزوجة لم يقترب من الآية لكن تناول الموضوع من منظور الإحصائيات والدراسات الاجتماعية فآليات خطابه يختارها بما يُناسب ذوق جمهوره، فتجاهل الآية القرآنية، والتراث المصطدم مع الواقع وانطلق إلى الآثار العلمية والاجتماعية لضرب الزوجة، مؤكدا أن ضرب الزوجة الحامل يُفقد جنينها كثيرا من وزنه، كما أن الأولاد يتوارثون العنف.
والقفز إلى الأمام ليس الطريقة الوحيدة المتّبعة لمواجهة إشكالية اصطدام التراث الفقهي والآية القرآنية مع حركة الاجتماع، فهناك تأويليات للنص القرآني من أشهرها ما بدأه الدكتور طه علواني الذي أوّل فاضربوهن بمعنى فأبعدوهنّ، وهذا يتنافى مع الاستعمال العربي، فإفادة "ضرب" معنى الإبعاد يرتبط بالفعل "ضرب" اللازم الذي لا يتعدى إلا بحرف جرّ مثل "يضربون في الأرض" بمعنى يتنقلون ويبتعدون، أما ضرب المتعدي إلى مفعول عاقل بلا حرف جرّ فلا يُفيد سوى الضرب وهو كما قال ابن منظور صاحب لسان العرب: "الضرب معروف" به جاءت لغة العرب ونطقت أشعارهم. 
وفي محاولة لنزع فتيل الأزمة بين التراث والآية القرنية من جانب والحاضر والخطاب الإنساني المعاصر الرافض لضرب المرأة مهما كان الدافع من جانب آخر أكّد شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب أن ضرب الزوجة مباح مقيد أو استثناء من أصل ممنوع، فالضرب ممنوع إلا أنه يُباح للزوج كدواء لمرض النشوز، فالشيخ سكت عن قول الإخباريين والفقهاء بمشروعية الضرب بغية التأديب بضابط ألا يكون مبرّحا، وميّز فضيلته بين فقه صحيح وفقه غير صحيح، وقال إنّ ضرب الزوجة لا يعدو عن كونه ضرب الضرورة أو الاستثناء ثم عاد، وجعله تأديبا عندما ضرب مثالا بضرب الأم لابنتها وضرب المربّي اليتيم الذي يحتاج تأديبه إلى الضرب إلا أنه اشترط أن تكون النية التأديب وليس العدوان، فعاد مرة أخرى إلى معنى التأديب في لغة الفقهاء، ثمّ سكت فضيلة الإمام عن الماضي، وانطلق من الواقع متمنيا أن يُجرّم الضرب في حياته، وأكّد على أن الإنسانية لا تقبل أن يضرب إنسان إنسانا، والإسلام بوصفه دين الفطرة لابد أن يتسق مع الإنسانية، يذهب معها حيث ذهبت.. إلا أنه عاد وقال بمشروعية الضرب فـ"هو الدواء لعلة النشوز، فالمرأة الناشز هي المرأة المتكبرة، والضرب هو رمز لجرح كبرياء تلك المرأة، حتى لا ينهدم المعبد/ الأسرة فنلجأ إلى أخف الضررين، وهو الضرب حفاظا على الأسرة، فالضرب على إطلاقه لأي سبب من الأسباب لا يُمكن أن تأتي به الشريعة أو نظام يحترم الإنسان، فضرب الزوجة استثناء من أصل ممنوع وُضع له شروط من أهمها النشوز، أما المرأة غير الناشز فلا يجوز ضربها، حتى لو وصل الخلاف إلى شتمها الزوج". وجانب من طرح الإمام يُمكن أن يُبنى عليه فحركة الاجتماع والإنسانية حكَمٌ على نتاج الفقهاء وأقوال الإخباريين الذين شرّعوا ضربَ المرأة ضربا غير مبرّح تأديبا لها، فيقول فضيلة الإمام صراحة "من يُشرّع لضرب الزوجة على الإطلاق فقد ظلم للقرآن الكريم والفقه الإسلامي الصحيح". ويحذر القائمين على الفتوى من إباحة ضرب الزوجة على إطلاقية الحكم.
وتعليقا على ما قاله شيخ الأزهر جاء ردّ الأستاذ إسلام البحيرى، بأنّ النشوز في الآية بمعنى الخيانة، فهو ميل الزوجة عن زوجها، فيكون الضرب في هذا السياق الاجتماعي مشروعا، وليس النشوز بمعنى الاستعلاء عن طاعته، ويؤكد قوله بسياقات الآية السابقة واللاحقة، ويرى أن رأيه على نقيض ما وصفه بأقوال التراثيين التي تُرددها المؤسسة الدينية.. والواقع أن ما طرحه البحيري هو قول تراثي هو الآخر حملته بعض مرويات ابن جرير الطبري في تفسير الآية، فتفسير ابن جرير الطبري جمع العديد من المرويات المتناقضة، فمن يريد أن يتحدث عن اللطف والرقة في الضرب سيختار مروية ابن عباس عن الضرب بالسواك التي تستدعيها الخطابات الدينية كثيرا. ومن يريد أن يتحدث عن العنف فسيختار ما روي عن الزّهري بأن الرجل لا يقتصّ منه لزوجته في ضرب ونحوه فلا قصاص منه إلا إذا قتلها، وما دون ذلك لا قصاص فيه، وإلى جوارهم مروية ابن جرير الطبري في تفسيره رواية أبي جعفر والسدي الشارحة لقوامة الرجال بأنّها سلطة تأديب النساء، ورواية لقتادة تقول إن الآية نزلت لأن رجلا من الأنصار لطم امرأته فجاءت تلتمس القصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص، فنزلت الآية "الرجال قوامون على النساء" لتمنع النبي صلى الله عليه وسلم من القصاص، وإن كانت هذه مروية مرسلة لا يعتد بصحتها، فتفسير الطبري موسوعة جمعت بين الصحيح وغير الصحيح والمتطرف والمعتدل من الآراء.
 وكما اختار الأستاذ إسلام البحيري من مرويات تفسير بن جرير الطبرى، اجتزئ الشيخ عبدالله رشدي هو الآخر فالضرب عنده بالسواك فحسب، وكأننا أمام مروية واحدة وليس عشرات المرويات والأخبار، فالضرب بتعبير الشيخ رشدي "ضرب على أطراف الأصابع كما تفعل مع ابنك الصغير وتقول له هذا كخ.. الضرب كده حاجه لطيفه ليس بالمعنى الذي يتبادر إلى ذهنكم". فهو فرّغ الضرب من ملوله اللغوي ومدلوله الفقهي، وابتعد به عن أجواء البيئة العربية التي قال الرسول صلى الله عليه وسلم مستنكرا: "لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم". [أخرجه البخاري ٥٢٠٤، مسلم ٢٨٥٥]. 
 من ناحية ثانية لا يخلو تناول الشيخ عبدالله رشدي من الهجوم على المختلف معه، فلسنا أمام اختلاف تأويلات وإنما هو من منظوره شغبٌ على القرآن الكريم، فالمخالف له في مواجهة مع القرآن وليس معه، وينطلق من استعلاء بالتراث الذي يُدخله في بنية المقدس، فيقول عن التراث الفقهي "نُظمٌ لا وجود لها إلا في الدين الإسلامي"، ولا يخفى ما في هذا من مغالطة خلط المقدس بغير المقدس؛ لذا يُخفى ويجتزئ ليصل إلى نتيجة مقررة عنده سلفا وهي أن "من يقول: بإباحة الضرب هذا خبل وجنون وضحك على العقول". وكأننا لسنا أمام طرح مستقر في بنية خطابنا التراثي الفقهي والإخباري لضرب الزوجة الناشزة تأديبا لها ضربا غير مبرّح، ويكرر الشيخ عبدالله رشدي الخلط بين المقدس وغير المقدس بتكراره لتعبير "الشرع الشريف" إشارة منه إلى كلام الفقهاء، وهذا على خلاف طرح فضيلة الإمام الأكبر الذي جعل الفطرة الإنسانية ضابطا في الفهم وأداة في نقد الفقه لمعرفة الصحيح منه وغير الصحيح، وكما قدّم الأستاذ إسلام البحيرى وجها في كلمة ناشز حملته آراء التراث إلا أنه بعيد عن المعجمية العربية والذاكرة الشعرية، فعل الشيخ رشدي الأمر نفسه فالنشوز عنده ليس تكبرا عن الطاعة ولا خيانة زوجية لكنه على حد تعبيره: "فقدان المرأة لمعاني الأدب بتطاولها على زوجها بالسبّ والضرب"، وهذا بعيد عن المعجمية العربية.
أخيرا يظل المدخل اللغوي المعاصر والمدخل المقاصدي الأكثر علمية والأقدر على تفكيك إشكالية آية الضرب مع الواقع الاجتماعي المعاصر، فالطرح المقاصدي يتحدث عن زوال الحكم بزوال علته، فالضرب لا يحقق غايته من إصلاح بل يؤدى إلى نقيضه مما يؤدي إلى زوال حكم الآية، ويرى المدخل اللغوي أن الآية خطاب له سياقات تاريخية وثقافية لمجتمع عربي ما زالت حديث عهد بجاهلية على حد قول النبي صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة وجعلت لها بابين" فالآية لا تقدم مقاربة لأحكام سيكون لها صفة الديمومة كالمعنى الإنساني في آية "وجعلنا بينكم مودة ورحمة" لكنها خطاب يشتبك مع واقع اجتماعي في أول سلم الإنسانية يحاول ترشيده وفق آليات الاجتماع وثقافة العرب في تلك اللحظة التاريخية، فلا نقيس حركة اجتماع المندفعة نحو التغيير وتعزيز القيم الإنسانية بما كانت عليه المجتمعات الأولى، ولا نطالبها بأن تفكر بعقلية إنسان اليوم، فالإسلام لا يتعجل الإصلاح الاجتماعي، وإن حثهم وحثنا على أن نمضي في طريق تعزيز المعاني الإنسانية والأفكار العقلانية، فتلك الغاية التي ينبغي أن ينطلق نحوها المسلمون في تشريعهم المتغير استجابة لحركة الاجتماع، المستفيد من كل الطروحات الإنسانية أيا كان مصدرها.

شارك