خطابان ومشروع واحد مكسور: الإخوان بين مرشد طهران وثأر السوريين

الجمعة 20/يونيو/2025 - 03:52 م
طباعة خطابان ومشروع واحد حسام الحداد
 
الإخوان في حضن خامنئي.. بين بيانات العزاء ورسائل البراءة
في ذروة التصعيد العسكري المتبادل بين إسرائيل وإيران، خرجت جماعة الإخوان المسلمين ببيانين متناقضين في الشكل والمضمون، الأول صادر من فرعها في سوريا، والثاني من قيادتها في مصر، ليكشفا عمق التباين السياسي، بل والانقسام الأيديولوجي داخل الجماعة ذاتها، إزاء قضايا الإقليم الكبرى، وعلى رأسها الصراع الإيراني-الإسرائيلي.

بيان دمشق: براءة من "طرفي الجريمة"
بيان الإخوان المسلمين في سوريا جاء صارمًا وواضحًا في لغته، معلنًا البراءة من أي موقف يبرر أو يدافع عن إيران، مهما كانت الظروف. لم يكتف البيان بإدانة "العدوان الإسرائيلي"، بل وضع طهران وتل أبيب على قدم المساواة، واصفًا إياهما بـ"طرفي الجريمة". وذهب أبعد من ذلك حين اعتبر أن كليهما يسعيان للهيمنة على المنطقة، وأن المشروع الإيراني لا يقل خطرًا عن المشروع الصهيوني.
البيان السوري يعكس في جوهره موقفًا "ثورياً قوميًا سنّيًا" يرفض الانضواء تحت أي راية إقليمية غير وطنية، مستفيدًا من عداء شعبي عميق في أوساط السوريين تجاه إيران بسبب دورها الدموي في دعم نظام الأسد، وهو موقف يعكس انغماس فرع الجماعة في الواقع السوري المحلي، حيث النزيف المستمر والمأساة الوطنية المرتبطة مباشرة بالمشروع الإيراني.

بيان القاهرة: وحدة الأمة في مواجهة "العدو المشترك"
في المقابل، جاء بيان جماعة الإخوان المسلمين في مصر، موقّعًا من القائم بأعمال المرشد العام الدكتور صلاح عبد الحق، في صيغة خطاب مفتوح إلى المرشد الإيراني علي خامنئي، محمّلًا بألفاظ التعاطف والدعاء والمؤازرة. اعتبر البيان أن العدوان الإسرائيلي على إيران هو "امتداد للعدوان على فلسطين"، واصفًا إيران بأنها "حاضنة المقاومة"، وداعيًا إلى تجاوز الخلافات المذهبية لتوحيد الصف الإسلامي ضد "العدو الصهيوني".
يرتكز هذا البيان على قراءة جيواستراتيجية ترى في إيران - رغم خلافاتها مع الإخوان - جزءًا من محور المقاومة ضد إسرائيل، ويعكس خطابًا "أمميًا إسلاميًا" يغلب عليه طابع المظلومية الجماعية للأمة الإسلامية، ويتبنى خطاب التقريب مع القوى "الرافضة للهيمنة الغربية" وإن كانت ذات توجه شيعي سياسي.

المقارنة: بين براجماتية القاهرة وهواجس دمشق
الخطاب السياسي: بين رؤية صدامية ومقاربة توفيقية
يطرح بيان جماعة الإخوان المسلمين في سوريا خطابًا صداميًا مزدوجًا يرفض الاصطفاف خلف أي من المعسكرين المتحاربين، سواء إيران أو إسرائيل. فالبيان يرى في الطرفين مشروعين متنازعين على الهيمنة والنفوذ في المنطقة، ويحمّلهما مسؤولية مشتركة في زعزعة أمن الشعوب وقمع تطلعاتها. هذه المقاربة تعكس رفضًا جذريًا لأي شكل من أشكال الاستقطاب الإقليمي، وتأتي في سياق وطني محمّل بالتجربة المريرة للسوريين مع النفوذ الإيراني، خاصة دوره المباشر في دعم نظام الأسد طيلة سنوات الحرب، وقمع الثورة السورية. لذا، فإن خطاب البيان السوري يستند إلى منطق "العدالة التاريخية" أكثر من أي اعتبارات سياسية أو عقائدية.
في المقابل، يتبنى بيان الجماعة في مصر مقاربة سياسية أكثر براغماتية، تسعى إلى توسيع معسكر "أمة المقاومة" عبر مدّ الجسور مع إيران، وتغليب معركة مواجهة إسرائيل على باقي الصراعات. يتحدث البيان بلغة توفيقية تدعو إلى تجاوز الخلافات المذهبية وتوحيد الجهود، ويرى في إيران شريكًا طبيعيًا في "مقاومة المشروع الصهيوني". هذه المقاربة تتجاهل بالكامل دور طهران في تغذية الحروب الأهلية بالمنطقة، وتركّز على الصراع مع إسرائيل باعتباره القضية الجامعة، حتى وإن جاء ذلك على حساب سردية حقوق الشعوب العربية في سوريا أو اليمن. وهو خطاب يعكس إما غياب حساسية سياسية حقيقية تجاه ضحايا المشروع الإيراني، أو رغبة في إعادة تموضع الجماعة ضمن محور إقليمي بعد تراجع حظوظها.

 الهوية المذهبية والمظلومية الوطنية: بين وعي طائفي ومراوغة وحدوية
بيان إخوان سوريا ينطلق من قراءة مذهبية ضمنية لكنها حادة، تتعامل مع إيران لا فقط كخصم سياسي، بل كمهدد لهوية الأغلبية السنّية في سوريا والمنطقة. فالمظلومية الوطنية السورية متشابكة تمامًا مع الجرائم التي نُسبت إلى ميليشيات شيعية مدعومة من إيران، وبالتالي فإن أي محاولة لتصوير طهران كطرف مقاوم تبدو في نظر السوريين تزييفًا للحقائق. وهذا ما يجعل البيان يتسم بلغة صارمة وغير تصالحية، تنبع من ذاكرة جمعية لا تزال تنزف، وتجعل من الحديث عن وحدة الأمة مع إيران، نوعًا من الخيانة أو التواطؤ ضد الشعب السوري.
أما بيان الجماعة في مصر، فهو يتجاهل كليًا هذا البعد المذهبي أو الوطني. فالمجازر التي وقعت في سوريا والعراق واليمن، والتي وثقت دور إيران فيها، لا تحضر في الخطاب لا تصريحًا ولا تلميحًا. بل يَظهر الإيراني كطرف مقاوم مشفوع بدعاء وعزاء، دون أي تفكير في السياقات الدموية التي تجعل "التحالف مع إيران" ضربًا من الانفصام عن واقع الشعوب. وهذه المقاربة، رغم اتكائها على مقولة "وحدة الأمة"، تبدو أقرب إلى مراوغة أيديولوجية تُبرر التحالفات الظرفية باسم العقيدة، دون مراعاة للعدالة أو لحق الشعوب في مقاومة الاستبداد، أيًا كان لونه أو مذهبه.

 المرجعيات الأيديولوجية: من الإمام البنا إلى ميدان الثورة
بيان القاهرة يعود إلى الإرث التقليدي للإخوان عبر استدعاء مقولات الإمام حسن البنا حول وحدة الأمة الإسلامية، وتجاوز الخلافات المذهبية. هذا الاستدعاء للمرجعية "الوحدوية" التاريخية يعكس رغبة الجماعة في تقديم نفسها كجسر جامع بين مكونات الأمة، حتى لو تعارضت سياسات تلك المكونات أو تورط بعضها في ممارسات عدوانية. ويبدو هذا الخيار الأيديولوجي محاولة لتجديد شرعية الجماعة عبر تبني خطاب جامع، يقوم على التماهي مع "محور المقاومة"، وتحييد الخلافات المذهبية لحساب مشروع أكبر يواجه إسرائيل. إلا أن هذه الرؤية تغفل التغيرات الجذرية في وعي الشعوب بعد الثورات العربية، وتبدو أقرب إلى خطاب الماضي منها إلى مقاربة سياسية فاعلة في الحاضر.
أما بيان إخوان سوريا، فينهل من مرجعيات مغايرة، أقرب إلى أدبيات الربيع العربي ومنطق "التحرر الوطني". فالجماعة في سوريا لم تعد ترى في "الأمة" كيانًا دينيًا مجردًا بل كمسار تحرري يمرّ عبر بوابة السيادة الوطنية، والتحرر من الهيمنة، سواء أتت من نظام الأسد أو داعميه الإيرانيين أو المحتل الإسرائيلي. البيان السوري يعبّر عن انزياح واضح عن الخطاب الأممي التقليدي للإخوان، لصالح خطاب واقعي يتبنى أجندة وطنية صريحة، ترفض الاصطفاف الأيديولوجي وتعلي من شأن التجربة المحلية. وهو ما قد يعكس تحولًا داخل بعض فروع الجماعة التي خرجت من رحم الثورة، مقارنةً بالفروع الأخرى التي لا تزال تحتمي بشعارات الوحدة الإسلامية التقليدية.؟

الدلالات الخفية والرسائل المسكوت عنها
انقسام تنظيمي لا يمكن إخفاؤه
تكشف المقارنة بين بياني الإخوان في سوريا ومصر عن انقسام تنظيمي حاد داخل الجماعة، لم يعد ممكنًا التستّر عليه تحت عناوين مثل "تعدد وجهات النظر" أو "الاجتهاد السياسي". ففرع سوريا يتبنى خطابًا محليًا متجذرًا في السياق الثوري السوري، يركّز على الهوية الوطنية وحقوق الشعب السوري في مواجهة كل أشكال الاحتلال والهيمنة، سواء كانت إسرائيلية أم إيرانية. في المقابل، يتمسّك فرع مصر بخطاب أممي تقليدي، يُفضّل الحفاظ على تحالفات رمزية مع أطراف مثل إيران، ولو على حساب القيم التي يدّعي الدفاع عنها، مثل العدالة والحرية وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
هذا الانقسام لا يعكس فقط اختلافًا في المقاربة، بل ربما يشير إلى شرخ عميق في بُنية الجماعة نفسها، بين من يرى أن زمن الشعارات العابرة للحدود قد انتهى، ومن لا يزال يتمسّك بوهم المشروع الإسلامي الجامع رغم انهيار أدواته وشرعيته. وهو ما يضع الإخوان أمام اختبار وجودي حقيقي: هل بإمكانهم التكيّف مع واقع ما بعد الربيع العربي حيث السيادة الوطنية والمظلومية المحلية تتفوق على سرديات "الخلافة"، أم أنهم سيظلون عالقين في سرديات سبعينيات القرن العشرين؟

صراع على تمثيل "الشرعية الثورية"
يحاول بيان دمشق تقديم الجماعة في سوريا بوصفها الامتداد الطبيعي للشعب السوري الثائر، محاطة بضمير الثورة، وتعبّر عن مواقفه الرافضة لكل تدخل أجنبي، سواء جاء من طهران أو تل أبيب. اللغة التي استخدمها البيان تنطوي على نَفَس استقلالي واضح، يعلن أن "البوصلة الوطنية" هي الوحيدة التي يمكن أن توجّه مستقبل الجماعة، وأن زمن التبعية لأجندات إقليمية قد ولّى. في هذا السياق، تبدو الجماعة أقرب إلى حركات التحرر الوطني منها إلى تنظيم أممي إسلامي، ما يشير إلى محاولة لإعادة تعريف موقعها في الخريطة السياسية السورية.
أما بيان القاهرة، فيسعى للتموضع ضمن معسكر "المقاومة" الذي تقوده إيران، متجاهلًا التحولات الكبرى التي عرفها الوعي العربي بعد انتفاضات 2011. هذا التموضع لا يبدو أنه يعبّر عن قراءة ثورية أو تفاعل مع نبض الشارع، بل أشبه بمحاولة لاستعادة مشروعية مفقودة بعد انكسار الجماعة في مصر، من خلال التماهي مع محور لا تزال بعض قواعد الإخوان ترى فيه "قلعة الصمود" في وجه المشروع الصهيوني. إنها محاولة لإعادة بناء شرعية الجماعة من الخارج، بعدما فقدتها في الداخل.

تناقض أخلاقي وسياسي
يطرح التباين بين البيانين سؤالًا أخلاقيًا كبيرًا حول صدقية الخطاب الإخواني: كيف يمكن لجماعة تدّعي مناصرة الشعوب المقهورة أن تغضّ الطرف عن الجرائم الموثقة التي ارتكبتها إيران وميليشياتها في سوريا والعراق واليمن؟ بل كيف يمكن لها أن تُرسل رسالة تعزية وتبجيل إلى المرشد الإيراني علي خامنئي، وتصفه بـ"سماحة السيد"، في الوقت الذي يُنظر إليه في الضمير السوري (والعربي الأوسع) بوصفه أحد رموز العدوان الطائفي والاستبداد القاتل؟ هذا الانفصام بين الخطاب والواقع لا يمكن تبريره سياسيًا، وهو ما يُفقد الجماعة كثيرًا من مصداقيتها لدى قطاعات واسعة من الشارع العربي.
في المقابل، يأتي بيان فرع سوريا ليمارس نقدًا ضمنيًا لهذا الانحراف، عبر التأكيد على رفض "التبعية المذلة للأدعياء والمجرمين". فالكلمات هنا ليست عبثية؛ إنها تشير بدقة إلى تلك الجهات التي تتخفّى وراء شعارات دينية أو مقاومة، بينما تمارس على الأرض قمعًا طائفيًا وقتلًا ممنهجًا. هذا الخطاب يُعيد الاعتبار إلى البعد الأخلاقي في الموقف السياسي، ويكشف في الوقت نفسه مدى التناقض بين خطاب الإخوان المصري الذي يغازل إيران، وخطاب فرعها السوري الذي يتّهمها ضمنيًا بالخيانة والعدوان.

 ازدواجية في فهم "العدو"
من أخطر ما تكشفه المقارنة بين البيانين هو التناقض الجذري في تعريف العدو. ففي حين يرى بيان الإخوان في سوريا أن إيران وإسرائيل وجهان لمشروعين متصارعين على حساب الشعوب، يضع بيان القاهرة إيران في موقع "الحليف"، بل "الضحية" التي يجب أن تُعزّى وتُدعم، ويصوّر الصراع معها كامتداد للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. هذا التضارب لا يمكن تفسيره فقط باختلاف السياقات المحلية، بل يُبرز خللًا مفاهيميًا عميقًا في بنية الخطاب الإخواني، الذي يفتقر إلى بوصلة واضحة تحدد مَن هو العدو ومَن هو الصديق، وفقًا لمعايير ثابتة لا تتبدل بحسب التموضع الجيوسياسي.
هذه الازدواجية تُفقد الجماعة القدرة على بناء سردية متماسكة تُقنع جمهورها أو تفتح لها حلفاء جدد. فبينما تسعى إلى تقديم نفسها كمدافع عن الأمة، تقع في فخ الاصطفافات المصلحية، متجاهلة السياقات الدموية التي صنعتها قوى مثل إيران. إنها إذن أزمة إدراك بقدر ما هي أزمة خطاب: هل الصراع مع إسرائيل وحده يكفي لإضفاء الشرعية على أي طرف؟ ومتى يصبح التورط في دماء العرب والمسلمين كافيًا لسحب تلك الشرعية؟ هذه أسئلة لا تملك الجماعة اليوم إجابات واضحة عنها، مما يفتح المجال لمزيد من التآكل في مشروعها السياسي والأخلاقي.

خاتمة: مشروع يتآكل تحت وطأة التناقضات
تكشف المقارنة بين البيانين أن جماعة الإخوان لم تعد تمتلك مشروعًا موحدًا أو خطابًا سياسيًا متماسكًا في مواجهة التحولات الإقليمية. وبينما يتغلب المنطق الوطني في فرع سوريا، يظل فرع مصر أسير سرديات ماضوية وتحالفات فقدت بريقها وفاعليتها. لقد أصبح الانقسام داخل الإخوان تجليًا لأزمة أعمق: غياب مشروع متجدد قادر على التعامل مع عالم ما بعد الربيع العربي، حيث لا تنفع خطابات التقية الأيديولوجية ولا التذاكي السياسي أمام مشهد دموي وواقعي يتطلب وضوحًا لا لبس فيه.

شارك