من "طظ في مصر" إلى "القطيع": خطاب الإخوان المهين للشعوب... والمهووس بالسلطة

الإثنين 30/يونيو/2025 - 01:32 ص
طباعة من طظ في مصر إلى حسام الحداد
 
نشرت جماعة الإخوان المسلمين عبر قنواتها على تطبيق تيليجرام الأحد 29 يونيو 2025، ما يشبه البيان أو التعليق السياسي، جاء بلهجة هجومية جارحة تجاه الشعوب العربية. البيان لم يحمل سوى نبرة لوم واتهام، وكأن الجماعة تنأى بنفسها عن الواقع وتلقي بكامل المسؤولية على الشعوب التي لم تعد تعبأ بخطابها ولا تستجيب لنداءاتها. ففي وقتٍ يُفترض فيه أن تكون الجماهير حليفًا وشريكًا في الوعي والتغيير، اختارت الجماعة أن تستخدم لغة تُقابل بالازدراء والنفور، مما يعكس انقطاعًا واضحًا عن المزاج العام وسوء تقدير لطبيعة التحولات التي مرّت بها المجتمعات العربية.
هذا الخطاب لا يُعد جديدًا، بل يأتي امتدادًا لسلسلة طويلة من مواقف متكررة عُرفت بها الجماعة، إذ كثيرًا ما لجأت إلى إهانة الجماهير كلما شعرت بأنها خذلت مشروعها في العودة إلى السلطة. فقد سبق لمرشد الجماعة الأسبق أن تلفّظ بعبارات مثل "طظ في مصر"، في إشارة واضحة إلى استخفافه بالشعب والدولة معًا، كما كرر قياديون منهم، بمن فيهم حسن البنا وسيد قطب، مواقف تنزع عن الأوطان أي قيمة مستقلة، وتعتبرها مجرد وسائل لا تساوي شيئًا ما لم تكن خاضعة لحكم الجماعة أو تعمل لصالح مشروعها.
البيان الأخير استخدم عبارات متعالية، واصفًا الشعوب بـ"القطعان التي تأكل وتنام ولا تحتج إلا بإيعاز"، كما حمّلها المسؤولية الكاملة عن استمرار التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي وسكوت الأنظمة عن سياسات "الصهاينة"، متجاهلًا تمامًا تعقيدات الواقع السياسي، وتوازنات القوة،. يظهر من هذا الخطاب أن الإخوان لا يرون في الشعوب شركاء حقيقيين، بل أدوات عليهم أن يتحركوا بأمر التنظيم، وفي حال لم يفعلوا، يتحوّلون في نظرهم إلى جُناة ومتواطئين. هذه النظرة التسلطية تكشف عن جوهر العلاقة التي تسعى الجماعة لفرضها: علاقة طاعة لا مشاركة، ووصاية لا شراكة.

جلد الشعوب بدلًا من نقد الذات
يبدو أن بيان جماعة الإخوان الأخير لم يكن سوى محاولة جديدة للهروب من نقد الذات، عبر توجيه اللوم الكامل للشعوب العربية. فبدلًا من أن تمارس الجماعة أي قدر من المراجعة لمسارها أو خطابها أو تحالفاتها، اختارت مجددًا سلوك الطريق الأسهل: جلد الجماهير. البيان جاء محمّلًا بكم هائل من التلميحات المهينة والاتهامات المغلّفة بالدين، وكأنه لا سبيل لفهم الواقع سوى من خلال تخوين الناس وتكفير نواياهم. فقد تحوّلت خيبة الجماعة في الشارع العربي إلى غضب أعمى يُصبّ على الشعوب بدلًا من مساءلة النفس.
من أبرز مظاهر هذا الخطاب، استدعاء الجماعة لآيات قرآنية في غير موضعها، كما في ختام البيان الذي تضمن الآية: "فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين". هذه الآية، التي تتحدث عن فرعون واستخفافه بقومه، استُخدمت هنا في غير سياقها لتُسقِط صفة "الفسق" على الشعوب العربية، بحجة أنها لم تتحرك وفق ما تريده الجماعة: لم تخرج إلى الحدود، لم تتظاهر أمام السفارات، ولم تفتح المعابر بالقوة. هذا التوظيف التعسّفي للنصوص الدينية ليس جديدًا في أدبيات الجماعة، لكنه يعكس بوضوح مدى تعاليها الأخلاقي ورفضها للاعتراف بأن للناس أولويات ومخاوف تختلف عن شعاراتها الثورية.
اللافت أن البيان لم يتضمّن أي إشارة إلى مسؤولية التنظيم عن ما آلت إليه الأوضاع، سواء على مستوى خطابه أو خياراته أو إخفاقاته السياسية والاجتماعية. وكأن الجماعة لا تعيش في العالم نفسه، ولا علاقة لها بفقدان الناس للثقة في مشروعها. هكذا تتحوّل الجماهير في خطاب الإخوان من ضحايا الاستبداد والقمع إلى متهمين بالفساد والفسق، في ظل تجاهل تام لحجم المعاناة التي يعيشها المواطن العربي. إن هذا النوع من الخطابات لا يعبّر عن حزن صادق على الواقع، بقدر ما يفضح عقلية الوصاية والتبرؤ من الفشل، التي لطالما اتسم بها نهج الجماعة في كل لحظة خسارة.

ازدراء الشعوب... نهج متجذر
لم يكن ازدراء جماعة الإخوان المسلمين للشعوب والأوطان مجرد انفعال عابر أو خطاب ظرفي نتج عن الهزيمة أو الإقصاء، بل هو جزء متجذّر في بنيتها الفكرية منذ لحظة التأسيس. هذا الازدراء لم يتوقف عند مستوى التلميحات، بل صيغ بوضوح في أدبيات قادتها ومقولاتهم الشهيرة، التي ترسّخت في وجدان التنظيم كمسلمات فكرية لا تقبل النقاش. ففكرة الوطن، التي تعد حجر الزاوية في تشكيل الهوية والانتماء، كانت دومًا في أدبيات الإخوان قيمة هامشية لا تستحق الدفاع عنها إلا إذا خضعت بالكامل لمشروع الجماعة.
من أبرز ما يوضح هذا التوجّه، ما كتبه مؤسس الجماعة حسن البنا، حين قال بوضوح: "الوطن حفنة من تراب عفن"، وهي عبارة بالغة الدلالة، لأنها تختزل رؤية الجماعة للأوطان باعتبارها بلا معنى إن لم تكن في خدمة ما يسمونه بـ"الدعوة" أو "المشروع الإسلامي"، وهو الاسم الحركي للسلطة الدينية والتنظيمية التي يسعون لفرضها. هذه العبارة نفسها أعاد تكرارها سيد قطب، مُبرزًا مدى تجذّر هذه النظرة داخل المدرسة الفكرية للإخوان، حيث يُنظر للوطن كمجرد وسيلة لا غاية، وساحة للصراع لا مجالًا للمواطنة والانتماء.
هذا الموقف لم يتغير مع تطورات الزمن أو تغير القيادة داخل الجماعة، بل بقي ثابتًا يتكرّر كلما سنحت الفرصة. فقد سجّل المرشد العام السابق، محمد مهدي عاكف، موقفًا صادمًا حين قال: "طظ في مصر وأبو مصر، أنا أنتمي إلى المشروع الإسلامي لا إلى الوطن!"، في تعبير صارخ عن عقيدة الإخوان العابرة للحدود والتي تُقدّم الولاء للتنظيم على حساب الدولة والشعب. هذه التصريحات لم تكن زلات لسان كما يحاول البعض تبريرها، بل هي تعبير واضح عن عقل جمعي يرى في الوطن مجرد محطة للتمكين، فإن لم تخدم السلطة الدينية للإخوان، فلا قيمة له ولا ولاء له.

هل الجماهير هي المسؤولة حقًا؟
يتغاضى بيان جماعة الإخوان عن الظروف المعقدة التي تعيشها الشعوب العربية، متجاهلًا أن الواقع لا يسمح دائمًا بالتحرك الجماهيري أو الاحتجاج العلني. فليس من المنطقي اختزال غياب الحراك الشعبي في ضعف الوعي أو تقصير الشعوب، دون فهم حقيقي للضغوط السياسية والاجتماعية التي تجعل كثيرين يفضّلون السلامة والاستقرار على المغامرة بمصيرهم الشخصي أو مستقبل أسرهم. تحميل الجماهير كامل المسؤولية فيه قدر كبير من التجنّي، ويتجاهل حقيقة أن المجتمعات ليست دائمًا قادرة على التغيير من خارج المؤسسات، أو دون وجود بيئة آمنة ومُهيأة لذلك.
إضافة إلى ذلك، فإن موقف الجماعة يبدو بعيدًا عن أي مراجعة ذاتية، وكأنها لا تتحمل أي قدر من المسؤولية عمّا آلت إليه الأمور. فحين سنحت لها فرصة الحكم، سواء في مصر أو غيرها، لم تلتزم بما ترفعه اليوم من شعارات، ولم تقدم نموذجًا يرسخ الثقة في خطابها. بل بدا أن أولوياتها في تلك المرحلة كانت تتركّز على تثبيت وجودها السياسي وبناء نفوذها داخل مؤسسات الدولة، دون أن تعطي اهتمامًا كافيًا للقضايا الكبرى التي تعود اليوم لتضعها في مقدمة خطابها.
هذا التناقض بين ما ترفعه الجماعة من مواقف اليوم، وما قدّمته في تجربتها العملية، يضعف قدرتها على إقناع الجمهور، ويجعل خطابها أقرب إلى تسجيل المواقف منه إلى دعوة صادقة للمراجعة أو الإصلاح. إن تقييم واقع الشعوب يجب أن يكون نابعًا من تفهّم عميق لظروفها وتعقيداتها، لا من موقع الوصاية أو الإدانة، خصوصًا عندما تصدر من جهة لم تثبت في تجربتها السابقة أنها كانت البديل الأفضل.

أين المشروع؟ أين البديل؟
تكمن خطورة خطاب جماعة الإخوان في أنه لا يكتفي بلغة الاتهام واللوم، بل يكشف أيضًا عن فراغ فكري واضح. فالبيان الأخير لا يتضمن أي ملامح لمشروع بديل أو خطة عملية للخروج من الأزمات التي يشكو منها، ولا يطرح سبيلًا لبناء وعي جماهيري أو تفعيل أدوات سلمية للتعبير والتغيير. يغيب عنه أي دعوة حقيقية للتنظيم المجتمعي أو التثقيف أو العمل التراكمي، وكأن الغاية الوحيدة منه هي تسجيل موقف غاضب دون أي أثر يُذكر على الأرض.
هذا الغياب للمضمون يعكس حالة من الانفصال عن الواقع، حيث يبدو البيان وكأنه صدى لأزمة داخلية يعانيها التنظيم أكثر مما هو تعبير عن قراءة ناضجة للمرحلة. فبدلًا من أن يقدم رؤية تتجاوز التذمر وتفتح أفقًا للأمل أو التغيير، يكتفي بإلقاء التهم وتحميل الشعوب كامل العبء، دون أن يراجع أدواته أو يسائل ذاته. إنه خطاب لا يسعى إلى إقناع أو بناء، بل يصرخ في فراغ، عاجزًا عن التفاعل مع التحولات التي طرأت على المجتمعات العربية.
بهذا الشكل، يتحول البيان إلى مرآة مكسورة لا تعكس الحقيقة بل تشوّهها، فيزيد من حالة الإحباط والانقسام بدلًا من أن يساهم في تجاوزها. وبدل أن يكون عنصر إلهام أو تحفيز، يصبح عبئًا على الوعي العام، يعمّق الشعور بالعجز، ويُكرّس فقدان الثقة في قدرة الجماعة على تقديم أي أفق مختلف أو مسؤول.

خلاصة
الجماعة التي أسّست خطابها على نفي الوطنية، ووثّقت تاريخها بإهانة الشعوب، لم تتغيّر اليوم. لا تزال ترى الناس مجرد "أتباع"، والوطن مجرد محطة، والحكم غاية تتجاوز كل الاعتبارات. ومن ثمّ، فخطابها ليس فقط عديم الفعالية، بل عديم الأخلاق.
إن الشعوب لا تُستنهَض بالتحقير، بل بالاحترام والتنوير والتشاركية. أما من ينظر إلى الناس كقطيع، فلا يحق له أن يطلب منهم السير خلفه، بل أن يتساءل: لماذا لم يعد أحد يصدّقه؟

شارك