ليبيا بين أطماع الغاز وحرب النفوذ.. اتفاقية أنقرة تعود وسط مخاطر الإرهاب والصراع الإقليمي

الثلاثاء 08/يوليو/2025 - 02:13 م
طباعة ليبيا بين أطماع الغاز أميرة الشريف - فاطمة عبدالغني
 
تتجه الأنظار مجددًا نحو ليبيا مع تصاعد النقاشات داخل البرلمان الليبي بشأن إعادة فتح ملف اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع تركيا، والتي وقعتها حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج في نهاية عام 2019. 
هذه الاتفاقية المثيرة للجدل ظلت طوال السنوات الست الماضية معلقة بسبب الخلافات الحادة التي أحاطت بها داخليًا وخارجيًا، إلا أن البرلمان الليبي يستعد اليوم لوضعها مجددًا على طاولة النقاش في ظل اشتداد النزاع مع اليونان، وتصاعد حمى التنقيب عن الغاز والنفط في شرق المتوسط، في منطقة تحولت إلى بؤرة للصراعات الإقليمية ومحورًا جديدًا لصراع النفوذ والطاقة والإرهاب.
التحرك الليبي لإعادة النظر في الاتفاقية يأتي في توقيت بالغ الحساسية، فاليونان فتحت الباب مؤخرًا أمام صفقات جديدة للتنقيب عن الغاز والنفط قبالة جزيرة كريت، وهي المنطقة التي تؤكد السلطات الليبية أنها تقع ضمن نطاق مياهها الإقليمية، مما زاد من التوترات بين طرابلس وأثينا، ورفع حدة الصراع الإقليمي حول شرق المتوسط.
 ووسط هذا المشهد المعقد، برزت تصريحات النائب الليبي عبد المنعم العرفي، الذي كشف عن وجود بند خطير في الاتفاقية ينص على أن ليبيا لا تستطيع إبرام أي صفقات أو اتفاقيات تتعلق بترسيم الحدود البحرية أو استغلال الموارد الطبيعية إلا بعد موافقة تركيا، وهو ما اعتبره كثيرون انتقاصًا مباشرًا من السيادة الليبية، وإقرارًا صريحًا بوجود وصاية تركية على القرار الوطني في واحد من أكثر الملفات حساسية.
العرفي دعا إلى مراجعة هذا البند تحديدًا، مشددًا على حق الدولة الليبية في عقد اتفاقيات مع أي طرف دون الحاجة إلى موافقة أنقرة، وأكد أن هناك رغبة برلمانية في تعديل بعض البنود بما يحفظ المصلحة الليبية قبل التصديق عليها، في وقت يرى فيه البرلمان أن الاتفاقية، رغم كل شيء، تصب في مصلحة ليبيا لحماية حقوقها البحرية وثرواتها الطبيعية، بعيدًا عن أي اعتبار لمواقف الدول المجاورة أو الأطراف المتصارعة في الإقليم. 
غير أن الحقيقة تبدو أكثر تعقيدًا، إذ إن ليبيا باتت اليوم في صلب صراع جيوسياسي معقد بين القوى الكبرى في شرق المتوسط، خصوصًا تركيا واليونان، وهو صراع لم يعد محصورًا في ملفات الغاز والنفط، بل تجاوز ذلك إلى حسابات النفوذ العسكري والسيطرة على الممرات البحرية، وسط اتهامات متبادلة باستخدام ملف الطاقة كغطاء لتحركات أمنية وعسكرية مشبوهة.
المثير أن توقيت إعادة فتح ملف الاتفاقية لم يأتِ من فراغ، فالوضع الإقليمي تغير بصورة متسارعة، وهناك تحولات لافتة في مواقف الأطراف الليبية ذاتها، لا سيما بعد تحسن العلاقة بين تركيا وبعض الأطراف في شرق ليبيا، خصوصًا مع بنغازي، وهو ما انعكس في تبدل مواقف البرلمان الليبي، الذي كان يرفض الاتفاقية في السابق، قبل أن يسارع الآن إلى مراجعتها والتعجيل بالمصادقة عليها، كرد فعل على التحركات اليونانية الأخيرة.
 ويذهب مراقبون إلى أن هذه التحولات تعكس حجم النفوذ التركي المتزايد داخل ليبيا، ليس فقط عبر الاقتصاد ومشاريع الطاقة، بل أيضًا من خلال دعم ميليشيات وقوى مسلحة ترتبط مباشرة بأنقرة، والتي تلعب دورًا محوريًا في ترجيح كفة بعض الأطراف داخل ليبيا، ما يجعل الاتفاقية أكثر من مجرد وثيقة لترسيم الحدود، بل ورقة ضغط سياسي وأمني قد تجر البلاد إلى مواجهات داخلية وخارجية أكثر خطورة.
وفي خضم هذا التصعيد، تبرز المخاوف من تحول الاتفاقية إلى غطاء قانوني لتحركات الجماعات المتطرفة وشبكات التهريب في المنطقة، حيث تتزايد التقارير حول استغلال ممرات الغاز والنفط البحرية في عمليات تهريب السلاح والمقاتلين، تحت ستار مشاريع التنقيب والاستثمار. 
وفي هذا السياق، يحذر خبراء أمنيون من أن بعض بنود الاتفاقية، إذا لم تُضبط بدقة، قد تفتح المجال أمام استغلالها لأغراض مشبوهة، وهو ما قد يجعل السواحل الليبية عرضة لعمليات تهريب مكثفة تهدد الأمن الإقليمي وتُفاقم الأزمات الداخلية، خاصة في ظل ضعف الرقابة البحرية والانقسام السياسي الحاد في البلاد.
المعادلة اليوم لم تعد مجرد نزاع حدودي أو خلاف قانوني حول حقول الغاز والنفط، بل تحولت إلى معركة متعددة الوجوه، تتقاطع فيها مصالح الدول الكبرى مع أهداف التنظيمات المسلحة، التي تجد في الفوضى الليبية أرضًا خصبة للتمدد، مستفيدة من الغطاء السياسي الذي توفره مثل هذه الاتفاقيات المثيرة للجدل.
 ومع تصاعد التوتر في المنطقة، يرى محللون أن ليبيا باتت أمام خيارين أحلاهما مر، فإما أن تواصل الارتهان للتحالفات الخارجية وتقبل بسياسات الأمر الواقع التي تفرضها أنقرة وأثينا وغيرها من القوى الإقليمية، أو تدخل في صدام مباشر مع هذه الأطراف في معركة طويلة ومعقدة لحماية سيادتها ومياهها الإقليمية، وهي معركة قد تدفع ثمنها باهظًا سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا.
وفي ظل هذا التشابك، تبدو المصادقة على الاتفاقية الليبية التركية خطوة محفوفة بالمخاطر، إذ قد تمنح ليبيا على المدى القصير مكاسب متعلقة بتثبيت حقوقها البحرية وتوسيع نفوذها الإقليمي، لكنها في المقابل قد تضعف قرارها الوطني وتزيد من اعتمادها على تركيا، بما يحولها إلى ساحة صراع بالوكالة في واحدة من أكثر المناطق اشتعالًا في العالم، حيث تختلط حسابات الطاقة بالنفوذ العسكري وبملفات الإرهاب والهجرة والتهريب.
ويري مراقبون أن القرار الليبي بشأن الاتفاقية ليس مجرد مسألة تقنية أو قانونية، بل هو جزء من معركة بقاء في منطقة تزداد تعقيدًا يومًا بعد آخر، ومع كل خطوة في هذا الملف، تزداد ليبيا غرقًا في شبكة الصراعات الإقليمية والدولية، حيث يتحول النفط والغاز إلى أدوات حرب، وتصبح الحدود البحرية خطوط تماس بين قوى متناحرة، فيما يظل المواطن الليبي، كما هو دائمًا، الخاسر الأكبر في لعبة المصالح الكبرى.

شارك