النساء تدفع ثمن الإرهاب في الساحل الإفريقي
الجمعة 12/سبتمبر/2025 - 10:09 ص
طباعة

في مشهد إنساني يتجاوز أرقام الضحايا وخطابات السياسة، تتكشف في منطقة الساحل الإفريقي مأساة صامتة تعيشها النساء والفتيات، وسط تصاعد غير مسبوق للهجمات الإرهابية وتدهور الأمن العام، ففي مالي والنيجر وبوركينا فاسو، تجد آلاف النساء أنفسهن في قلب العاصفة: مقصيات من التعليم، معرضات للعنف، فاقدات لأبسط حقوقهن، بينما يبقى المجتمع الدولي منشغلاً بالتحليلات الاستراتيجية وصراعات القوى الكبرى، إنها أزمة أمنية تتقاطع مع أزمة هوية وكرامة، تدفع ثمنها النساء أولاً وبقسوة مضاعفة.
حذر مسؤولون كبار في الأمم المتحدة مؤخرًا، في جلسة لمجلس الأمن، من أن النشاط الإرهابي في منطقة الساحل لا يتوسع جغرافيًا فحسب، بل يزداد تعقيدًا وجرأة، ويحول حياة السكان المدنيين، وخصوصًا النساء والفتيات، إلى جحيم دائم الممثلة التنفيذية لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، سيما بحوث، أوضحت في إحاطة أمام المجلس أن هذه المنطقة تعد اليوم أكثر مناطق العالم تأثرًا بالإرهاب من منظور النوع الاجتماعي فحياة النساء تحت سيطرة الجماعات المتطرفة ليست فقط مهددة، بل مشلولة بالكامل، تسلب منها كل الحقوق الأساسية، وتُعاد صياغتها وفق قواعد العزلة والإقصاء والقهر.
ميلون فتاة خارج التعليم
تشير الأرقام الأممية إلى أن أكثر من مليون فتاة في دول الساحل الثلاث – مالي، النيجر، بوركينا فاسو – قد خرجن من المنظومة التعليمية بسبب العنف، 60% منهن لم يدخلن المدرسة قط وهذا الرقم لا يعكس فقط حرمانًا تعليميًا، بل انهيارًا للمنظومة الاجتماعية التي توفر للمرأة الحد الأدنى من الحماية والتنمية الذاتية ومع تصاعد وتيرة النزوح القسري، تتآكل سبل العيش التقليدية للنساء، وتجبر العديد منهن على خوض رحلات يومية مرهقة بحثًا عن المياه والحطب في بيئات محفوفة بالخطر، وسط تزايد أعمال العنف الجنسي والاستغلال الاقتصادي، وصمت مطبق من قبل السلطات والمجتمع الدولي.
لا ترى الجماعات الإرهابية في الساحل في المرأة شريكًا في بناء المجتمعات، بل هدفًا لإخضاعها وتحويلها إلى رمز للهيمنة الأيديولوجية تمنع النساء من العمل والتعليم، وتُجبر الفتيات على الزواج المبكر، وتستخدم أجسادهن أحيانًا كأدوات للدعاية والترويع، في انتهاك صارخ لكل المواثيق الإنسانية كما أن انتشار الفكر المتشدد ساهم في عسكرة الفضاء الخاص، بحيث لم يعد المنزل ملاذًا آمنًا، بل ساحة عنف نفسي واجتماعي دائم.
فجوة التمثيل والاهتمام
ورغم سيطرة الخطاب الرسمي على مفردات "الأمن القومي" و"مكافحة الإرهاب"، إلا أن هذه الاستراتيجيات غالبًا ما تفشل في إدماج مقاربة النوع الاجتماعي ضمن خططها فالنظر إلى النساء كـ"ضحايا هامشيين" أو "تابعين للضحايا" يتجاهل أنهن في كثير من الأحيان، أول من يدفع ثمن الصراع، وآخر من يحظى بالحماية أو المساعدة كما أن انعدام وجود نساء في مراكز القرار الأمني والسياسي يعمّق من فجوة التمثيل والاهتمام، ويكرس سياسات لا تعبّر عن أولويات نصف المجتمع.
وتكتمل مأساة نساء الساحل مع الانهيار المؤسسي الذي تعاني منه دول المنطقة، حيث تعجز الحكومات عن فرض سلطتها في المناطق الحدودية، وتغيب فيها منظومات العدالة، والخدمات الأساسية، والمراقبة الحقوقية وقد أفضى هذا الانهيار إلى نشوء بيئة فوضوية تستغل فيها النساء من قبل جماعات مسلحة، وشبكات إجرامية، ومراكز قوى محلية، دون رادع حقيقي وتُشير التقارير الميدانية إلى تنامي العنف الجنسي كسلاح ممنهج ضد النساء في سياق النزاع، وسط غياب قوانين فعالة لحمايتهن أو ملاحقة الجناة.
تحولات جيوسياسية
في خلفية هذا المشهد، تبرز تحولات جيوسياسية فاقمت من معاناة النساء فانسحاب القوات الفرنسية من مالي والنيجر، وتراجع الانخراط الدولي في مشاريع التنمية المحلية، وظهور قوى جديدة مثل روسيا عبر مرتزقة "فاغنر"، لم يُسهم في تحسين الواقع الأمني، بل زاد من هشاشة البيئة المدنية كما ساهم تفكك الدولة الليبية في تدفق السلاح على المنطقة، ما ضاعف التهديدات التي تتعرض لها النساء، في ظل عسكرة متزايدة للمجتمعات المحلية.
ولا يمكن فصل ما تعانيه النساء عن السياق الأوسع للتمرد الجهادي في الساحل، الذي يتغذى على الفقر، والتهميش، والتمييز، وغياب العدالة بل إن الأزمة الراهنة تُظهر بوضوح أن التهميش المزدوج للنساء – أولًا كمواطنات في دول هشة، وثانيًا كنساء في مجتمعات أبوية – يجعل من تمكين المرأة ليس فقط ضرورة تنموية، بل شرطًا جوهريًا لأي حل سياسي أو أمني مستدام في المنطقة.
لا تقتصر الاستجابة المطلوبة على عمليات عسكرية ضد الجماعات المسلحة، بل تتطلب إدماجًا فعليًا لقضايا النساء في استراتيجيات إعادة الإعمار، والتعليم، والعدالة الانتقالية يجب أن تتصدر النساء المجهودات المحلية والدولية لإعادة بناء المجتمعات، باعتبارهن الأكثر وعيًا بتفاصيل الألم، والأكثر قدرة على نسج نسيج اجتماعي مقاوم للعنف.