مبادرة الرباعية الدولية.. أمل جديد في نفق الحرب السودانية
السبت 13/سبتمبر/2025 - 10:48 ص
طباعة

في خضم صراع متصاعد يهدد استقرار السودان ووحدة أراضيه، جاءت خطوة جديدة في الاتجاه الصحيح عبر بيان مشترك صدر عن أربع دول فاعلة في الساحة الإقليمية والدولية، مصر، المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية.
هذا البيان لم يكن إعلانًا بروتوكوليًا بقدر ما كان ثمرة أسابيع من المشاورات المكثفة، ضمن إطار الرباعية الدولية التي تسعى جادة لوضع حد للحرب الدامية التي تشهدها البلاد منذ أكثر من عام، وإيجاد مخرج سياسي يحقق تطلعات الشعب السوداني في السلام والاستقرار والتحول المدني.
بيان الرباعية عكس إدراكًا عميقًا بأن استمرار الحرب في السودان لا يهدد فقط وحدة البلاد وسلامتها الإقليمية، بل يفتح الباب أمام تفاقم الكارثة الإنسانية، ويهدد بانهيار الدولة ومؤسساتها، مما قد يؤدي إلى تحول السودان إلى بؤرة للفوضى وعدم الاستقرار الإقليمي، وهو سيناريو لا يمكن لأي من الأطراف المعنية القبول به.
في هذا السياق، كانت مشاركة مصر في هذه المبادرة نابغة من قناعة راسخة لديها أن السودان ليس فقط دولة جارة وشقيقة، بل عمق استراتيجي وأمني لا يمكن تجاهله.
الموقف المصري كان واضحًا ومتسقًا مع سياساتها السابقة تجاه السودان، وهو يقوم على ثلاثة مبادئ أساسية: احترام سيادة السودان، الحفاظ على وحدة أراضيه، وصون مؤسساته الوطنية من الانهيار.
من هذا المنطلق، لم تكن القاهرة شريكًا صامتًا في المبادرة، بل فاعلاً رئيسيًا، يُسخّر ما لديه من أدوات دبلوماسية وخبرة تاريخية في الملف السوداني لتوجيه الجهود نحو تسوية سياسية عادلة ومستدامة.
فقد كان لمصر دور ملموس في رعاية الحوار بين القوى المدنية والسياسية السودانية، حيث استضافت ملتقى القاهرة في يوليو 2024، في محاولة لتقريب وجهات النظر وبناء أرضية مشتركة تؤسس لحل وطني شامل.
البيان المشترك الصادر عن الرباعية لم يكتفِ بتأكيد المبادئ العامة، بل تضمّن خارطة طريق عملية وواضحة، تتضمن عدة نقاط مركزية تؤشر إلى بداية مسار تفاوضي جديد.
أولى هذه النقاط كانت الدعوة إلى هدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر، وهي خطوة أولى نحو وقف دائم لإطلاق النار.
وهذه الهدنة تهدف إلى فتح المجال أمام تقديم المساعدات الإنسانية العاجلة، وتهيئة الظروف لمفاوضات جادة تفضي إلى تسوية سياسية شاملة.
لكن أهمية هذه الهدنة لا تقتصر على الجانب الإنساني، بل تكمن في دلالتها السياسية أيضًا، إذ تمثل اختبارًا لمدى التزام أطراف النزاع بإعطاء أولوية للسلام على المكاسب العسكرية.
فالبيان يربط صراحة بين الهدنة المؤقتة وبدء عملية انتقالية خلال تسعة أشهر، عملية يفترض أن تكون جامعة وشفافة، تُفضي في نهاية المطاف إلى تشكيل حكومة مدنية مستقلة، تمثل تطلعات جميع مكونات الشعب السوداني، وتحظى بشرعية وطنية ودولية.
الأطراف الأربعة التي أصدرت البيان لم تكتفِ بإعلان النوايا، بل اتفقت على إنشاء آلية متابعة على مستوى وزاري ودون وزاري، لضمان تنفيذ الالتزامات، ومواصلة التنسيق عبر الاجتماعات الدورية.
كما أعلنت عزمها عقد اجتماع وزاري خلال الشق الرفيع المستوى للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، مما يشير إلى إصرار المجتمع الدولي على ألا يظل الملف السوداني في الهامش، بل في صدارة الأجندة الدولية.
من اللافت أن البيان شدد أيضًا على ضرورة وقف تدفقات السلاح إلى السودان، في إشارة واضحة إلى أحد أبرز العوامل التي تُغذي استمرار الصراع. فالسوق السوداء للسلاح، والدعم الخارجي غير الرسمي لأطراف النزاع، يشكلان تحديًا كبيرًا أمام أي محاولة لإقرار السلام.
ومن هنا تأتي أهمية التنسيق الدولي لفرض رقابة أكثر صرامة على الحدود والمعابر، وفرض عقوبات على الجهات التي تنتهك الحظر المفترض.
وفي هذا الإطار، أتى ذكر جهود المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة في عملية جدة، التي كانت طوال عام 2023 و2024 محورًا أساسيًا لمحاولات وقف إطلاق النار، لكنها واجهت صعوبات ميدانية وسياسية حالت دون تحقيق نتائج حاسمة.
الإشادة بتلك الجهود لم تكن مجاملة دبلوماسية، بل اعترافًا بضرورة البناء على ما تحقق، وعدم البدء من نقطة الصفر.
فالبيان يسعى لتجميع خيوط المبادرات المختلفة في إطار واحد، يُنسّق فيه بين مختلف الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة، بدلًا من تعدد المسارات الذي غالبًا ما يؤدي إلى تضارب الأولويات وتشتت الجهود.
أما التعاون مع جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي، فهو يعكس إدراك الرباعية لأهمية البعد القاري والإقليمي في حل الأزمة السودانية.
فالسودان ليس دولة معزولة، بل عضو فاعل في محيطه العربي والأفريقي، وأي تسوية سياسية لا يمكن أن تكتسب مشروعية كاملة ما لم تكن مدعومة من مؤسسات العمل الجماعي الإقليمي.
كما أن إشراك الجامعة والاتحاد الأفريقي يضمن أن تُطرح التسوية في سياق يحترم الخصوصيات الثقافية والسياسية للمنطقة، بعيدًا عن الإملاءات أو الرؤى المفروضة من الخارج.
من الجانب المصري، فإن هذه الخطوة تأتي استكمالًا لدور تقليدي تلعبه القاهرة في السودان منذ عقود، ليس فقط بوصفها وسيطًا، بل كشريك حقيقي في التنمية والاستقرار.
فعلى مدار السنوات الماضية، كانت مصر من أبرز الدول التي استقبلت النازحين السودانيين، وقدّمت تسهيلات واسعة لهم، سواء في مجال التعليم، أو الصحة، أو الإقامة، في ظل نزوح ملايين السودانيين من مناطق القتال إلى دول الجوار.
وبهذا، لم يكن البيان مجرد موقف سياسي، بل امتدادًا لسياسات واقعية على الأرض تعكس عمق الروابط بين الشعبين.
ما يميز هذه المبادرة الجديدة أنها لا تركز فقط على وقف إطلاق النار بوصفه هدفًا نهائيًا، بل تضعه في سياق عملية أشمل تهدف إلى بناء نظام سياسي جديد في السودان، يتجاوز منطق الغلبة العسكرية ويؤسس لحكم مدني مستقر.
هذه الرؤية تتماشى مع تطلعات الشارع السوداني الذي خرج في ثورتي 2019 و2021 مطالبًا بالحرية والعدالة والكرامة، لكنه وجد نفسه محاصرًا مجددًا في دائرة العنف والانقلابات والحرب الأهلية.
رغم ما تحمله هذه المبادرة من آمال، فإن التحديات على الأرض لا تزال هائلة. الأطراف المتحاربة تملك حساباتها الخاصة، وهناك مصالح إقليمية متشابكة، فضلًا عن هشاشة الثقة بين القوى السياسية والمدنية، وهو ما يتطلب دعمًا دوليًا متواصلًا، ووساطة فعّالة تضمن التنفيذ، وتردع من يُعرقل المسار السلمي.
في النهاية، فإن ما جرى الإعلان عنه في 12 سبتمبر ليس نهاية المطاف، بل بداية لمرحلة جديدة، تحتاج إلى الإرادة السياسية، والتنسيق الدولي، والاستماع لصوت الشعب السوداني نفسه.
ومصر، بما لها من علاقات تاريخية وثقافية وإنسانية مع السودان، تبدو مؤهلة لأن تلعب دورًا محوريًا في هذه المرحلة، ليس فقط كوسيط، بل كضامن لاستمرار الزخم السياسي، وكجسر يربط بين الأطراف المختلفة على أرضية المصالح المشتركة والمصير الواحد.