مالي ومبادرة أكرا.. حوار براغماتي وتحالف مرن لمحاربة الإرهاب

الجمعة 03/أكتوبر/2025 - 08:46 ص
طباعة مبادرة أكرا مبادرة أكرا محمود البتاكوشي
 
تعيش منطقة الساحل الأفريقي لحظة تحولات دقيقة تتداخل فيها الأبعاد الأمنية والسياسية والاقتصادية وفي قلب هذا المشهد، تبرز مالي بوصفها فاعلًا إقليميًا يعيد هندسة موقعه الجيوسياسي انطلاقًا من تطورات غير تقليدية، لعل أبرزها مبادرة أكرا للحوار التي أطلقتها غانا مؤخرًا.

رغم أن المبادرة استهدفت تخفيف التوتر الحدودي مع بوركينا فاسو، فإن قراءتها بعين مالي تجاوزت البعد الأمني المباشر إلى اعتبارات استراتيجية أوسع، تتعلق بإعادة بناء شبكة التحالفات الإقليمية بعد الانسحاب الجماعي لكل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر من منظمة الإيكواس، في خطوة أظهرت حجم الانقسام المتنامي داخل فضاء غرب إفريقيا.

منصة حوار إقليمي

ما يحسب للقيادة المالية، وتحديدًا الجنرال آسمي غويتا، هو التقاطها السريع لإشارات التحول التي بعثتها أكرا، وتحويلها إلى منصة حوار إقليمي جديدة تعيد الاعتبار لمنطق "السيادة التشاركية" خارج الأطر التقليدية للمنظمات القارية.

لقد فتحت المبادرة الغانية نافذة غير متوقعة لباماكو، ليس فقط لاستثمار التقارب مع بوركينا فاسو، بل أيضًا لإعادة صياغة علاقاتها مع الدول الساحلية المجاورة، على أساس مبدأ "تحالف الساحل+" الذي يدمج المرونة السياسية مع الطموح الأمني.

وماليًا، يمثل هذا التقارب فرصة لإنهاء التبعية اللوجستية التي أرقتها طيلة العقود الماضية، من خلال بناء مسارات تجارية بديلة تربطها بالموانئ الغانية، وهو ما يعزز مفهوم الاستقلال الاقتصادي الذي رفعه غويتا في خطابه الأخير، فالرهان هنا لم يعد فقط على مواجهة الإرهاب، بل على كسر حلقات العزلة الإقليمية عبر شراكات مدروسة تؤمن المصالح المشتركة وتعزز القوة التفاوضية الجماعية.

فراغات قاتلة

أما أمنيًا، فقد أدى ضعف التنسيق التاريخي بين دول الساحل إلى فراغات قاتلة استغلتها الجماعات المسلحة العابرة للحدود، لكن الانتقال من التنسيق الثنائي إلى منطق المصالح الأمنية الجماعية، كما تقترحه مبادرة أكرا، يظهر تحولًا في فهم طبيعة التهديد، ويعيد ترتيب الأولويات بعيدًا عن الصراعات الشكلية داخل الكتل التقليدية.

ولعل ما يجعل المبادرة الغانية ذات طابع استراتيجي مزدوج هو أنها تدار خارج العباءة الفرنسية أو الغربية التقليدية؛ ما يفسر حرص باماكو على استثمارها بحذر، واحتواء احتمالات الانجراف نحو تكتلات تعيد إنتاج التبعية السابقة.

في المقابل، تدرك مالي أن حساسية المرحلة تقتضي الانفتاح بشروطها، وتفادي الخطأ في التوقيت أو الانحياز، خاصة أن المشهد السياسي في بوركينا فاسو والنيجر لا يزال هشًا، ما يجعل أي تحرك أحادي قابلًا للتأويل السلبي داخليًا وخارجيًا.

قواعد اللعبة

في هذا السياق، اعتبر الخبراء أن "السيادة هنا لا تعني الانغلاق، بل القدرة على اختيار الشركاء وتحديد شروط اللعبة"، وهو ما يتجلى بوضوح في سعي باماكو إلى بناء تحالف متعدد الوظائف: أمني، لوجستي، سياسي.

أما الممرات اللوجستية، فهي تمثل عصب هذا التحول فبدلًا من تكرار اعتماد مالي على موانئ الدول الأطلسية التي غالبًا ما تغلق عند كل أزمة سياسية، فإن الانفتاح على غانا، عبر البوابة البوركينابية، يعيد رسم خريطة النقل والتجارة لمصلحة دول "تحالف الساحل"، مما يحول التحالف من تكتل دفاعي إلى منصة للتكامل الاقتصادي.

ولعل أهم ما يميز هذا التوجه أنه ليس مجرد رد فعل على انسحاب مالي من "الإيكواس"، بل هو محاولة لصياغة واقع إقليمي بديل، يعترف بتعقيد المشهد، ويتعامل مع المبادرات من خارج الأطر المعتادة بوصفها فرصًا استراتيجية لا يجب إهدارها.

لحظة مفصلية

في ضوء ما سبق، يمكن القول إن مبادرة أكرا شكلت لحظة مفصلية، أعادت تموضع مالي كلاعب إقليمي لا يسعى فقط للبقاء، بل للتأثير وتشكيل البيئة المحيطة بما يخدم مصالحه الاستراتيجية، ويمنح تحالف الساحل هوية سياسية متكاملة تتجاوز مجرد التنسيق العسكري، إذ لم تعد معركة مالي ضد الإرهاب مجرد مسألة أمنية، بل أصبحت معركة سيادة ذكية، تخاض بالدبلوماسية الهادئة، واستغلال اللحظات الرمادية في النظام الإقليمي لإعادة بناء تحالفات جديدة، أكثر واقعية واستقلالًا.

شارك