عملية “قسد” في دير الزور: بين ضرب الإرهاب وتعميق الاحتقان المحلي

الخميس 16/أكتوبر/2025 - 11:51 ص
طباعة عملية “قسد” في دير حسام الحداد
 
تشير العملية الأمنية الأخيرة التي نفّذتها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بدعم من التحالف الدولي في ريف دير الزور الشرقي، إلى استمرار حالة التوتر الأمني والسياسي المعقد في تلك المنطقة التي باتت أحد أكثر معاقل خلايا تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) نشاطًا منذ انهيار “الخلافة” عام 2019.
اعتقلت وحدات خاصة تابعة لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وبدعم من التحالف الدولي، في عملية أمنية نفذتها يوم أمس الأربعاء، 3 عناصر من خلايا تنظيم “الدولة الإسلامية” في قريتي بريهة والصبحة بريف دير الزور الشرقي.
ووفقاً للمعلومات، فإن المعتقلين متهمون بتنفيذ عمليات ضد المدنيين والعسكريين في مناطق سيطرة “قسد”، والمساهمة في إثارة الفوضى الأمنية في المنطقة. كما تم العثور على كميات من الأسلحة والذخائر بحوزتهم.
وشهد ريف دير الزور الشرقي، يوم أمس الأربعاء، تحركات عسكرية واسعة النطاق بالتزامن مع انطلاق عملية أمنية مشتركة بين وحدات خاصة تابعة لقوات سوريا الديمقراطية وقوات “التحالف الدولي” تستهدف خلايا تنظيم “الدولة الإسلامية” وعناصر ما يُعرف بـ”جيش العشائر”.
وفي هذا السياق، سُمع دوي انفجارات متتالية في بلدة الشحيل، نتيجة بدء العملية الأمنية ضد خلايا تنظيم “الدولة الإسلامية”. كما نفّذت القوات حملة مداهمات في بلدة أبريهة، واعتقلت أحد عناصر جيش العشائر، تزامنًا مع انتشار أمني واسع في البلدة.
وقد جاءت العملية عقب وصول رتل عسكري كبير لقوات سوريا الديمقراطية إلى أطراف الريف الشرقي لدير الزور، وتحديدًا في محيط بلدة الشحيل. حيث تشير المعلومات إلى أن الحملة ستستهدف خلايا التنظيم في مناطق العتال، الشحيل، والطيانة.
وتُعد مناطق دير الزور من أكثر المناطق في شمال وشرق سوريا نشاطًا لخلايا تنظيم “الدولة الإسلامية”، التي تواصل تنفيذ هجمات متفرقة ضد المدنيين والعسكريين على حدّ سواء.
تلك العملية، التي أسفرت عن اعتقال ثلاثة عناصر من التنظيم في قريتي بريهة والصبحة، تأتي في إطار حملة أوسع ضد خلايا التنظيم وعناصر ما يُعرف بـ"جيش العشائر"، وتكشف عن تشابك المشهد الأمني وتعدد الفاعلين المحليين والإقليميين داخل الرقعة الجغرافية الأكثر اضطرابًا في شرق الفرات.

دلالات العملية الأمنية
من الزاوية العسكرية، تكشف العملية الأخيرة التي نفذتها “قسد” بدعم من التحالف الدولي أن التهديد الذي تمثله خلايا تنظيم “داعش” ما زال حاضرًا بقوة في المشهد الأمني لدير الزور. فالتنظيم، رغم فقدانه السيطرة الميدانية على المدن والقرى منذ عام 2019، لا يزال يمتلك شبكات سرية مرنة قادرة على الحركة في مناطق وعرة وصحراوية تمتد بين دير الزور والرقة والبادية السورية، حيث يستغل الطبيعة الجغرافية الصعبة لتلك المناطق للتمويه والتنقل، وشنّ هجمات خاطفة ضد مواقع “قسد” والعناصر الأمنية والمدنيين المتعاونين معها.
في الوقت ذاته، تؤكد هذه العملية أن البيئة المحلية ما زالت هشّة أمنيًا واقتصاديًا، وهو ما يوفر للتنظيم فرصًا مستمرة لإعادة التموضع. فالفقر، والبطالة، وغياب الخدمات الأساسية، كلها عوامل تُسهم في تغذية بيئة عدم الاستقرار، وتمنح خلايا التنظيم القدرة على تجنيد عناصر جدد مستغلّة مشاعر التهميش والغضب الاجتماعي. ويبدو أن “داعش” يدرك أن الصراع لم يعد عسكريًا بحتًا، بل هو صراع على النفوذ داخل مجتمع يشعر بالخذلان من جميع الأطراف.
لكن، ورغم تكرار الحملات الأمنية ضد خلايا التنظيم في دير الزور والرقة والحسكة، فإن غياب نتائج ملموسة على صعيد الاستقرار يثير تساؤلات جوهرية حول جدوى المقاربة الأمنية وحدها. فالمداهمات والاعتقالات، وإن كانت ضرورية لردع التنظيم، إلا أنها لا تمسّ الجذور العميقة للمشكلة، المتمثلة في الفراغ السياسي والإداري وضعف الحوكمة المحلية. من دون إصلاحات شاملة تدمج المجتمع المحلي وتعيد الثقة بين السكان والقوى المسيطرة، ستظل هذه العمليات مجرد إجراءات مؤقتة تؤجل الانفجار الأمني بدل أن تمنعه.

البعد العشائري في الصراع
تبرز أهمية البعد العشائري في دير الزور بوصفه أحد المفاتيح الأساسية لفهم تعقيدات المشهد الأمني والسياسي هناك. فالمنطقة ذات تركيبة اجتماعية قبلية متماسكة، والعشائر فيها لا تمثل فقط مكوّنًا اجتماعياً، بل تشكّل عامل توازن في السلطة والنفوذ. وفي هذا السياق، يثير استهداف “قسد” لعناصر من “جيش العشائر” إلى جانب خلايا تنظيم “داعش” الكثير من الحساسية، لأن مثل هذه العمليات تُفسَّر في الوعي المحلي على أنها اعتداء على مكوّن اجتماعي بأكمله، وليس فقط على أفراد متهمين. هذه النظرة تخلق شعورًا جماعيًا بالاستهداف، يُترجم سريعًا إلى توتر واحتقان بين الأهالي والقوة المسيطرة.
من جهة أخرى، يشعر الكثير من أبناء العشائر بأن “قسد” تمارس نوعًا من الهيمنة المفروضة بقوة السلاح والدعم الدولي، دون أن تتيح للعرب في المنطقة تمثيلًا سياسيًا حقيقيًا داخل مؤسساتها الإدارية والأمنية. هذا الشعور بالإقصاء، إلى جانب ما يعتبره السكان تهميشًا متعمّدًا لدور الوجهاء والقيادات التقليدية، يدفع فئات من المجتمع إلى اتخاذ مواقف عدائية أو متحفظة من “قسد”. وهنا يجد تنظيم “داعش” ثغرة خطيرة للعودة مجددًا، إذ يستغل التنظيم هذا الغضب الشعبي والشرخ بين العشائر و"قسد" لتجنيد عناصر جديدة، مستخدمًا خطاب المظلومية والانتقام كوسيلة لإعادة بناء شبكاته المحلية.
ويُخشى أن استمرار “قسد” في اعتماد القبضة الأمنية دون مراعاة البنية الاجتماعية العشائرية سيؤدي إلى نتائج عكسية. فكل عملية مداهمة لا تراعي أعراف العشائر أو تجرح مكانة زعمائها قد تخلق سلسلة من ردود الفعل الانتقامية، تضعف شرعية “قسد” وتضاعف من احتمالات الفوضى. الحل لا يمكن أن يكون عبر المزيد من القوة، بل عبر بناء شراكة حقيقية مع المجتمع العشائري، تقوم على احترام التوازنات المحلية، وإشراك وجهاء العشائر في إدارة الأمن والخدمات، بما يحد من تأثير التنظيمات المتطرفة ويعيد للمنطقة شيئًا من استقرارها المفقود.

التحالف الدولي ومحدودية الاستراتيجية
يُعد الدعم الجوي والاستخباراتي الذي يقدمه التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الركيزة الأساسية التي تعتمد عليها قوات سوريا الديمقراطية في تنفيذ عملياتها ضد خلايا تنظيم “داعش”. فالتغطية الجوية، والمراقبة عبر الطائرات المسيّرة، والمعلومات الدقيقة حول تحركات الخلايا، كلها عوامل تمنح “قسد” تفوقًا ميدانيًا يصعب تحقيقه بقدراتها الذاتية. هذه المساندة مكّنتها من تجنّب خسائر بشرية كبيرة وتنفيذ عمليات دقيقة في مناطق معقدة مثل دير الزور، حيث يمتزج الوجود العشائري الكثيف بتضاريس تسهّل التخفي لحساب التنظيم.
غير أن هذا الاعتماد الكثيف على الدعم الخارجي يكشف عن هشاشة البنية العسكرية والأمنية لقسد، التي لم تستطع حتى الآن بناء منظومة أمن ذاتية مستقلة. فالقوة التي تعتمد على تحالف خارجي في تأمين مجالها الجوي، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتنسيق العمليات، تظل قوة مقيّدة بحدود الدعم السياسي والعسكري الخارجي. بمعنى آخر، فإن قدرتها على التحرك والردع ترتبط بمدى التزام التحالف بمواصلة دعمه، لا بقدرتها الذاتية على فرض الأمن أو إدارة مناطقها بفعالية. هذا الواقع يجعل من الأمن في شرق الفرات أمنًا هشًّا مؤقتًا، يمكن أن يتزعزع سريعًا إذا تغيّرت أولويات أو سياسات واشنطن.
وفي ضوء التطورات الإقليمية والدولية، هناك مؤشرات واضحة على تراجع اهتمام التحالف بالساحة السورية تدريجيًا، مقابل تركيزه على ملفات أكثر سخونة مثل العراق وأوكرانيا. هذا التراجع يضع “قسد” أمام تحدٍ وجودي حقيقي، إذ إن فقدان الغطاء الأمريكي سيكشف محدوديتها ويعرّي ضعفها أمام خصومها، سواء خلايا “داعش” أو القوى المحلية الرافضة لوجودها. وبالتالي، فإن استمرار الوضع الحالي دون بناء قدرات ذاتية حقيقية ودون صياغة استراتيجية بديلة، يجعل مستقبل الأمن في دير الزور وشرق الفرات رهينًا بالتقلبات السياسية الدولية، لا بموازين القوة المحلية.

مأزق الحوكمة والفراغ الإداري
يُعدّ غياب مشروع حوكمة فعّال في مناطق دير الزور أحد أبرز التحديات التي تواجه قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، إذ لم تستطع حتى الآن بناء نموذج إداري يحقق توازنًا بين السلطة الأمنية والمشاركة الشعبية. فالمجالس المحلية القائمة تخضع في الغالب لإشراف مباشر من “الإدارة الذاتية” في الحسكة، دون أن تمتلك صلاحيات حقيقية أو قدرة على اتخاذ قرارات مستقلة. هذا النمط من الإدارة المركزية خلق شعورًا عامًا بالإقصاء لدى السكان العرب، الذين يرون أن القرارات تُتخذ خارج منطقتهم ولا تعبّر عن أولوياتهم أو حاجاتهم الفعلية، لا سيما في ظل غياب التنمية والخدمات الأساسية.
في الوقت نفسه، يبرز فشل “قسد” في إشراك النخب المحلية والعشائرية في مؤسسات الحكم كعامل أساسي في تفاقم الأزمة. فالنخب التقليدية التي كانت تمثل حلقة وصل بين الدولة والمجتمع قبل عام 2011، باتت اليوم على هامش المشهد، فيما تملأ الفراغ شخصيات تفتقر إلى الشرعية الاجتماعية. هذا الإقصاء دفع بعض العشائر إلى التمرد على سلطة “قسد” أو التعامل مع أطراف منافسة، سواء النظام السوري أو خلايا “داعش”، بحثًا عن توازن جديد في النفوذ المحلي. ومع غياب قنوات تواصل فعالة بين “قسد” والمجتمع المحلي، أصبح الاحتقان الاجتماعي أحد مصادر عدم الاستقرار الأكثر خطورة في المنطقة.
أما أخطر ما في هذا الفراغ الإداري فهو أنه يوفر بيئة مثالية لإعادة تشكل خلايا تنظيم داعش. فالتنظيم يجد في ضعف الحوكمة وانعدام العدالة الاجتماعية فرصة للتغلغل مجددًا عبر شبكات التهريب والابتزاز الاقتصادي، مستغلًا الانقسامات المحلية والصراعات العشائرية. وهكذا، تتحول كل حملة أمنية إلى إجراء مؤقت، إذ يعاود التنظيم نشاطه بعد انقضائها بفترة قصيرة، في حلقة مفرغة من الفوضى والعنف. إن غياب مؤسسات إدارة فعّالة وشفافة لا يهدد فقط الأمن، بل يقوّض أي إمكانية لبناء استقرار دائم في شرق الفرات.

 بين الواقع الأمني والحل السياسي
تُظهر العملية الأمنية الأخيرة أن أزمة دير الزور تتجاوز البعد العسكري المتمثل في مكافحة خلايا تنظيم "داعش"، لتصل إلى عمق الأزمة السياسية والاجتماعية التي تعصف بالمنطقة منذ سنوات. فالعنف المتكرر ليس سوى نتيجة لتراكمات بنيوية تشمل غياب الثقة بين القوى المسيطرة والسكان المحليين، وتنازع الولاءات بين العشائر والمكونات المختلفة، فضلاً عن التنافس بين القوى الإقليمية والدولية على النفوذ. إن دير الزور اليوم ليست مجرد ساحة لعمليات أمنية، بل مسرح مفتوح لتقاطع المصالح بين التحالف الدولي من جهة، والنظام السوري وحلفائه الروس والإيرانيين من جهة أخرى، ما يجعل أي تسوية داخلية رهينة بقرارات قوى خارجية لا تعبّر بالضرورة عن مصالح السكان.
من هنا، يصبح السؤال الجوهري: كيف يمكن بناء سلام محلي مستدام في منطقة تُدار من الخارج؟ فغياب السيادة المحلية على القرار الأمني والسياسي جعل من المجتمع في دير الزور مجرد طرف متلقٍ للأوامر، لا فاعلًا في صناعة مستقبله. هذا الواقع يضعف أي إمكانية لتحقيق استقرار حقيقي، لأن السكان يشعرون بأنهم مجرد أدوات ضمن صراع القوى الكبرى. إن استمرار إدارة المنطقة بهذه الطريقة لا يؤدي إلا إلى ترسيخ الانقسام بين "قسد" والمجتمعات العشائرية، ويغذي النزعات الانفصالية أو الانتقامية التي يستغلها "داعش" لإحياء نفسه من جديد.
وعليه، فإن الحل في دير الزور لا يمكن أن يُختزل في العمليات الأمنية والمداهمات، مهما كانت دقتها، بل يجب أن يتأسس على مقاربة سياسية وتنموية متكاملة. ذلك يشمل إعادة دمج المجتمع المحلي في إدارة مناطقه من خلال تمكين المجالس المدنية العشائرية، وإطلاق مشاريع تنموية تقلّص اعتماد الشباب على السلاح أو الاقتصاد غير المشروع، إلى جانب صياغة تفاهمات سياسية تعيد التوازن بين “قسد” والعشائر. فقط عبر مثل هذا المسار يمكن تحويل الأمن من حالة طارئة إلى استقرار مستدام، يعيد إلى المنطقة قدرتها على إنتاج سلام حقيقي نابع من داخلها لا مفروض من الخارج.

خلاصة
عملية “قسد” الأخيرة ليست سوى حلقة جديدة في دورة العنف المفرغة في شرق الفرات:
نجاح تكتيكي أمني مقابل فشل استراتيجي في تحقيق الاستقرار.
فان لم تُراجع “قسد” والتحالف الدولي مقاربتهما القائمة على “الأمن أولًا”، وتُفتح قنوات حوار مع القوى المحلية، فإن دير الزور ستبقى نقطة ارتكاز لعودة “داعش” ومرتعًا دائمًا للفوضى التي يستفيد منها الجميع إلا أهلها.

شارك