السلفيون والسياسة

الأحد 13/أبريل/2014 - 09:47 م
طباعة السلفيون والسياسة
 
اسم الكتاب: السلفيون والسياسة
المؤلف:  دكتور حافظ دياب
دار النشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب
سنة النشر: 2014
لا أحد يستطيع اليوم إنكار دور التيار السلفي في المشهد السياسي المصري والذي ظهر أعقاب ثورة يناير 2011، حتى يومنا هذا، كما لا نستطيع تجاهل قاعدته الشعبية الواسعة في الشارع المصري، تلك القاعدة التي جعلت منه فاعلا في الأحداث وليس مفعولا به، ليتنامى دور التيار السلفي في الصعود، في غضون ثلاثة أعوام، حتى أصبح من الصعب تجاهله أو التقليل من شأنه في التأثير على الرأي العام المصري، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه كيف لتيار سلفي أن يتخذ السياسة مسلكا؟ على الرغم من أن الدور الأساسي له هو العمل الدعوي، وكيف يستطيع أن يفك هذا الاشتباك بين الدعوة والسياسة؟
في كتاب "السلفيون والسياسة"، الصادر مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وهي باكورة إصدارات سلسلة «المكتبة السياسية» الجديدة، لمؤلفه الدكتور حافظ دياب، أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجي، الباحث في شئون جماعات الإسلام السياسي، عرض فيه المؤلف نشأة الحركة السلفية وأصلها منذ القرن الثامن الهجري، وتطوراتها وأيديولوجياتها، وأهم مراحل تطورها الفكري حتى الآن، الكتاب يقع في 240 صفحة من الحجم المتوسط.
ويخصص الدكتور دياب في كتابه بابا كاملا عن التيار السلفي النشأة والتاريخ، كما يتطرق لمفهوم السلفية وتطور مفهومها حتى واقعنا الحالي، أيضا يستعرض في الباب الثاني ميلاد الحركة السياسية للتيار السلفي، على يد محمد بن عبد الوهاب، مؤسس الفكر الوهابي في السعودية، كما يتناول تطور التيار السلفي في عدد من الدول العربية هي السعودية، مصر، والمغرب.

نشأة السلفية كمفهوم ديني

يبدأ المؤلف بطرح إشكالية لتقديم كتابه حول "فهم معنى السياسة ومنطقها لدى السلفيين"؛ وذلك للتعرف على طبيعة العلاقة بينن السلفيين والسياسة، وتفنيد تلك العلاقة حتى وصلت إلى أقسى وأخطر أشكالها متمثلة في السلفية الجهادية.. ويعرف دياب السلفية في الباب الأول قائلا: إن نشأة مفهومي «السلفية» و«الأصولية» في الفكر الإسلامي لم تتم بلورتهما إلا في القرن الثامن الهجري، حيث استخدم ابن تيمية مفهوم «السلفية» إشارة إلى منهج الالتزام بالقرآن والسنة. بينما أوضح أن الفكر الأصولي الإسلامي هو إصلاح وضع فاسد، وتقريبه إلى نموذج الخلافة الراشدة ومجتمع السلف الصالح، وذلك من خلال الالتزام بسياسة شرعية مع ضرورة مراعاة الواقع، ولكن تلك الرؤيا أو المفهوم بدأ يتجرد من ملامحه الفكرية الفكر في القرون التي تلت نشأة الفكر الأصولي، خاصة مع ازدحام علم أصول الفقه بالشروح والهوامش التي حولته إلى "باترون"، مع افتقاد الاجتهاد وفق منهج شامل، ما أدى به أن يزداد تراجعاً وانفلاتاً وانسحابا من دائرة التوجيه، الأمر الذي كرسته الظروف السياسية السائدة آنذاك، في إحداث جدل سجالي صاخب، ومع تزايد الصراع حول السلطة ظهرت الفرق السياسية، التي ما لبثت أن تحولت بدورها إلى فرق مذهبية، وفي محاولة من الفقه السني احتواء هذا الصراع، قام باعتماد الإجماع كمصدر من مصادر التشريع، كما أضحى التعامل مع النص قرآنًا وسنة، من خلال سلف ما أشبه بعادة سلفية مستقرة، يتحول فيها السلف إلى مصدر للتشريع، والانقياد إلى الأنظمة الحاكمة- هو دليل الحكم بجواز ذلك الانقياد، وهو ما يفسر امتلاك الماضي في الرؤية السلفية حولتها من مجرد نزوع وجداني إلى مرجعية حجية ملزمة.
ويستطرد المؤلف بأنه يمكن اعتبار السلفية نزعة احتجاجية على التطورات التي طرأت على المستويين الفكري والتعبدي للدين، لتصبح على المستوى الأول، نمطا محصورا في استخدام المعجم الإسلامي الأصلي، متخذا من قيم الإسلام وأحكامه معيارا وحيدا في النظر والحكم، ومن النص الأصلي مرجعا نهائيا في التدليل والإثبات، أما على المستوى التعبدي فقد حاوت السلفية إعادة تقنين الشعائر الدينية بتوحيد نماذجها وكلماتها وإشاراتها وإجراءاتها؛ لكي تحافظ على النشاط الشعائري الأصلي لمواجهة البدع المستجدة.

عوامل تطور الفكر الأيديولوجي للسلفية

ويقر الدكتور دياب بأن مفهوم السلفية أضحى وثيق الصلة بالمذهب الحنبلي؛ وذلك لأن أغلب المذاهب الأخرى آثرت المنهج الأشعري في قضايا العقيدة، في حين ظل الحنابلة على المنهج السلفي في تأويل الصفات، الأمر الذي أدى إلى تماسك الأيديولوجيا السلفية وانسجامها مع منطلقاتها العقائدية؛ وذلك لأنها تنحصر في مجموعة منغلقة من الواجبات والممنوعات، تقاس عليها شرعية كافة التصرفات والمواقف والأفعال والمقولات، حتى ولو لم تكن بالضرورة دينية، بما يضع أمام المسلم طريقين لا ثالث لهما، فإما أن يكون سلفياً أو لا يكون مسلماً بإطلاق، وهو ما يفسر ميل النزعة السلفية إلى الظاهر والتزامها الصارم بحرفية النصوص، ووقوفها عند حدود الألفاظ دون نظر إلى سياق ورودها ودلالاتها القريبة والبعيدة، واعتبارها أن إجماع السلف هو بمثابة السلطة التي تمنح النصوص الدينية قوتها التشريعية، وهو ما يعني تصلبها مع نتاج المدارس العقائدية الإسلامية المخالفة لها (الأشعرية، المعتزلة، المرجئة، الباطنية۔۔)، وصرامتها في مواجهة التراث الفقهي المعاصر.
ولدى المفكر المغربي محمد عابد الجابري، يكمن معاينة ثلاث فصائل سلفية: أولها سلفيون رافضون لكل نظم العصر ومؤسساته وفكره وثقافته باعتباره عصر الجاهلية، ومن ثم يجب تركه جملة وتفصيلاً والعودة إلى النهج الأصيل، وثانيها سلفيون معتدلون يمكنهم أن يقبلوا من حضارة العصر ومؤسساته ما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية، أو ما يمكن تبريره داخلها، وفي ذات الوقت يوسعون من دائرة السلف الصالح لتشمل كل العصور الإسلامية المزدهرة، وثالثها سلفيون يدعون إلى البحث في نظم الحضارة العربية الإسلامية وقيمها عن أشباه ونظائر لمؤسسات الحضارة المعاصرة وقيمها، والأخذ بها بوصفها أسماء أو صيغاً جديدة لمؤسسات وقيم عربية إسلامية أصلية، ما يعني تأويل النظم النيابية الليبرالية بالشورى الإسلامية، وربط الاشتراكية بمعناها العام بفريضة الزكاة وحق الفقراء في أموال الأغنياء۔

السلفيون ومعترك السياسة

على الرغم من ادعاء الجماعة السلفية، تاريخياً، ابتعادهم عن معترك السياسة؛ لأن ما يشغل اهتمامهم هو العمل بالدعوة، إلا أن السلفيين أنفسهم لا ينكرون الانشغال بالعمل السياسي، إلا إذا كان بالتدرج الذي يعتبرونه شرعياً ومنطقياً في آن واحد، حيث يتم البدء بالعقيدة، ثم بالعبادة، فالسلوك تصحيحاً وتربية، حتي يجيء اليوم للدخول في السياسة بمفهومها الشرعي، حيث السياسة معناها إدارة شئون الأمة، وعرف هذا المجال عندهم تسميات عدّة (التدابير الشرعية، أدب السياسة، سياسة الرعية، التدابير الملوكية، والأحكام السلطانية.. إلخ)، وذلك في سعيهم لجعل السياسة فرعاً من فروع الشريعة، بذريعة ضمان هداية العباد ومنعاً لاختلافهم، ما دام المرجع واحداً لا خلاف عليه، وهو النص الشرعي وسيرة السلف الصالح۔
لا تتأسس السياسة عند السلفية وفق برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي محدد، كالحال لدى الحركات والأحزاب السياسية التقليدية، وإنما وفق منطق مغاير يعتبر السياسة استكمالاً للمشروع الدعوي، عبر فرض منطق الحركة السلفية الخاص، وتفعيل نسقها القائم على التعبئة والمصلحة والتدافع والخلاف، كما حدث مؤخراً في مثل الأحزاب السلفية في مصر.
كما أن مفهوم الدولة في السلفية يختلف تماما عن المفهوم الوطني لنا، حيث يشدد الخطاب السلفي على مفهوم الأمة كإطار جغرافي وبشري متمدد، ومرتبط بديناميكية الدعوة، الأمر الذي يميزها عن الدولة بمكوناتها الثابتة وصيغتها القومية،
وبهذه الكيفية ينشق المفهوم السلفي عن فكرة الدولة الوطنية المرتكزة على تراث الفكر السياسي الحديث، والقائمة على أساس علمنة السياسة، وتكريس مبدأ المواطنة، وإشاعة الحرية السياسية كأساس للديمقراطية، والتعددية، والمشاركة في القرار؛ لتقوم من ناحية أخرى على إعادة تأويل مقولة «الدولة الإسلامية» لتكون تعبيرا سياسيا عن وضع مجتمعي، يستعمل الدين لخلق تماسك حولها، كما قد تستعمل معه قيماً أخلاقية أو أفكاراً وطنية أو أساطير اجتماعية، دون وضع تعريف محدد لحقيقة ماهية الدولة، وهذا يفسر إلحاحهم على استعادة دولة الخلافة، باعتبارها الترجمة الصحيحة للإسلام، والكيان السياسي الأوحد الذي يتجسد فيه، وتقوم من خلاله شريعة الله كاملة، وبذلك التعريف يستحيل وضع مجال للمقارنة بين الخلافة وبين أي نظام سياسي وضعي عرفته البشرية؛ لأن الأسس التي تقوم عليها دولة الخلافة، مغايرة تماماً لتلك التي تستن عليها النظم السياسية الوضعية، والحاكم الفعلي الذي سيمارس السلطة في الدولة الإسلامية نيابة عن الله في الأرض، هو الخليفة أو الإمام، وهو منفذ لأمر الله ورسوله، ومهمته حفظ الدين وحراسته ونشره، وبه تستقر قواعد الدين وتنتظم مصالح الأمة.

المذهب الوهابي والسلفية

في الباب الثاني يتناول الدكتور دياب مفهوم السلفية في رأي محمد بن عبد الوهاب من خلال كتابه "كتاب التوحيد"، والذي قسمه إلى أبواب، ناقش فيها عقيدة التوحيد، بحسب الأهمية والأسبقية ليقدمها ابن عبد الوهاب بمضامين مستساغة، ومفهومه بالنسبة إلى الخاصة والعامة، ما جعله المرجع الأساسي في مادة العقيدة عند سلفيي العصر الحديث، وأَجْمَلَ برنامجه الإصلاحي في عبارات مقتضبة ذات دلالات عميقة؛ حيث قال: "أنا لم آت بجهالة، ولست أدعو إلى منصب، بل أدعو إلى الله وحده وإلى سنة نبيه، وطريقتنا هي طريقة أهل السلف، ومذهبنا في الأصول هو مذهب أهل السنة والجماعة، وفي الفروع مذهب الإمام أحمد بن حنبل"؛ ليتبلور مصطلح «السلفية»، على كافة التيارات الإسلامية التي تستوحي مشروعيتها من خلال الاستناد إلى مقولة: «العودة إلى الأصول»، ووجوب إفراد الله بالحكم والتشريع، ورفض أي صورة للدولة المدنية القائمة على القوانين الوضعية، ما يعني أن الدعوة الوهابية نقلت الرؤية السلفية إلى التطبيق، وهو المصطلح الذى ينطبق حتى يومنا هذا.
ووفقا لـ "كتاب التوحيد" قسم الشيخ محمد بن عبد الوهاب العالم إلى دارين: الأولى إيمان أو إسلام، والثانية كفر أو حرب، لينطلق من هذا التقسيم بتكوين أول إمارة إسلامية في الجزيرة العربية، تمهيداً لإقامة الخلافة الإسلامية، وبهذا المعنى، تعد السلفية من المنظور الوهابي شكلاً من أشكال مقاومة الغرب، وصيغة داخلية لمشروع سلطنة إسلامية بديلة، لا تقف عند حدود جغرافية قومية.

السعودية مرحلة تطبيق المفهوم الوهابي لدولة الخلافة

أعادت دعوة السلفية الوهابية الفكرة الدينية إلى واجهة السياسة منذ منتصف القرن الثامن عشر، ليبدأ تطبيق مفهوم الدولة الإسلامية وفق المذهب الوهابي، بعدما أقام ابن عبد الوهاب عام 1747 تحالفاً ترجمه ميثاق تعاقدي ليس مكتوباً على الأرجح مع الأمير محمد بن سعود، الذي تعهد بحمل راية الدعوة الوهابية وحمايتها بالقوة إن استدعى الأمر؛ ليتقاسم ابن عبد الوهاب المجال العام بين آل سعود القبلية، حيث حمل الأول عبء قيادة الدعوة الدينية، وتحمل الثاني آل سعود الحكم، فالأول سعى عن قوة تحمي المذهب الوهابي من أجل سلامة الدعوة ونشر مبادئها، في حين كان آل سعود بحاجة إلى مظلة دينية وشرعية تسوغ تطلعاتهم، وقضي بالتحالف بأن تبقى الشئون السياسية وتسير أمور الجماعة العامة في يد ابن سعود وأبنائه، فيما احتكر ابن عبد الوهاب وسلالته الشئون الدينية، وبخاصة مسألة التوحيد والعبودية لله، والمراقبة الصارمة على التصرّفات المجتمعية والأحوال الشخصية، ومن هنا اتخذت السياسة بطابع ديني، وتم ذلك على مرأى ومسمع النفوذ العثماني والبريطاني، واستطاع ابن عبد الوهاب بدعوته وأفكاره من توحيد خلف دعوته، تحت مظلة دينية جامعة، تعلو فوق الانتماءات التقليدية، وباتت الإمارة الوهابية السعودية الجديدة تكتسي معان دينية مقدسة.
في الوقت نفسه قامت الدولة السعودية بتوسيع رقعة سيطرتها على القبائل وتوحيدها، من باب اتباع السلفية الوهابية، بغية قطع الطريق على التوجهات القومية أو الشيعية أو اليسارية، ونجحت في توجيهها، كأيديولوجيا شرعية، بما يخدم سياستها العامة في التوسع والانتشار الكوني، حيث يشكل المسلمون خُمس عدد سكان الكوكب، اعتماداً على الميراث الوهابي السعودي في الفتح والانتشار.

المذهب الوهابي من نجد إلى مصر

في التاريخ المصري المعاصر، وتحديداً إبان ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، نجمت السلفية عن حالة إجهاد تاريخي عاشه المجتمع المصري، نجمت عن فترة حروب خاضها منذ الخمسينيات حتى حرب أكتوبر في 1973، فيما تواترت موجتها الراهنة نتيجة لكبح التحولات الضرورية عقب ثورة يناير 2011.
أما عن ظهور المذهب السلفي في مصر، فالبداية كانت في منتصف سبعينيات القرن الماضي، حيث برزت النزعة السلفية، في أعقاب سياسة الانفتاح الاقتصادي، وما نتج عنها من هجرة أغلب الشباب المصري إلى المملكة العربية السعودية، والتي تزامنت مع بروز السعودية كقوة نفطية، والتي أرادت أن تكون قوة مركزية جديدة في المنطقة وتهميش قوة مصر المركزية (القديمة)، بواسطة تبديد مصادر قوته، وتغذية تناقضاته، وإغراقه في المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا لن يتأتى إلا من خلال قوة سياسية واقتصادية معا، يصاحبها فرض نموذج ثقافي سعودي خاص بها.
حددت السعودية أهداف نموذجها الثقافي، والذي يتمثل في رعاية وتمويل شكل مشوه للثقافة الدينية، يقوم على مقولات النقل والاتباع، ويركز على مظاهر شكلية للتدين، وأيضا الدفع بمحاولات تستهدف «أسلمة» العلوم و«سلْفنة» المعرفة، والتعجيل بإنشاء لكيانات ثقافية شكلية (جامعات، مراكز بحوث، مؤسسات ثقافية، دور نشر، مكتبات، ودوريات۔۔)، يقتصر دورها على تحييد لممارسة التفكير النقدي لصالح التلقين، بهدف منافسة مثيلاتها في المركز القديم، مع تسطيح وتقويض الإبداع في كل المجالات الفكرية والفنية، عن طريق الدفع بكم هائل من الأعمال الهابطة، التي تعمل على ترويج الرداءة والتعصب.
في الوقت نفسه كان المجتمع المصري يعيش حالة من العجز والاكتئاب والعزوف الذي صاحب سياسة "الانفتاح الاقتصادي"، لتكون مصر خلال عقدين ونصف منبعا لهجرات المصريين من وإلى الخليج وخاصة المملكة العربية السعودية، الأمر الذي ساعد في تكوين جيلين كاملين متأثرين بالنموذج السعودي والهوية الثقافية له، خاصة وأن هذا النموذج متشكل في إطار ديني، وما صاحب هذا التأثر من تدين شكلي تمثل في لجوء أغلب سيدات الطبقة الفقيرة إلى ارتداء الحجاب، وتزايد ظهور الملتحين من لابسي الجلاليب البيضاء القصيرة، وتواتر الهجرة إلى منطقة الخليج، ورحلات العمرة، كطقس ثابت في حياة الفئات الوسطى، وموضة اعتزال الفنانات، وعمليات السطو المسلح على محلات الذهب التي يملكها الأقباط خاصة في الصعيد، فضلاً عن ازدهار «فرشة الرصيف» أمام المساجد، و«إذاعة الميكروباص الدينية»، وإنشاء أقسام خاصة للمحجبات بمحلات الكوافير، ومهاجمة الأعمال الإبداعية وإقامة دعاوى قضائية ضد كتابها، وقد مكنت علاقة السلفيين بالسعودية ومؤازرتها لهم، من تكوين «بيزنس ديني»: مطابع إسلامية لطبع الشعارات والملصقات، دور نشر تتولى طباعة وترويج أفكارهم... إلخ.

ضعف الدولة المصرية وتوغل المد السلفي الوهابي

انتشر التيار السلفي بشكل كبير خارج القاهرة، حيث ضعف مركزية الدولة، والذي يصل لمرحلة الغياب في أغلب الأحيان، كما أن المؤثرات الوافدة من العاصمة شبه معدوم، مع نمط للحياة الاجتماعية والإنتاجية بسيط، لا يتطلب حلولاً تركيبية وإضافات جديدة؛ ولهذا يسود هذا النمط الفكري أحادي الطبيعة، والقاطع الحاسم، والملتزم بمعيار ثابت وقيم متجانسة وموحدة؛ ليستطيع السلفيون من ممارسة نشاطهم بصفة خاصة في صعيد مصر الذي يعيش فيه حوالي ثلث سكان مصر۔ وفي المدن الكبرى مثل أسيوط والمنيا، قاموا بإغلاق الملاهي الليلية، علاوة على مقار بيع المشروبات الكحولية، وعدد قليل من الفنادق السياحية.
حتى وقت قريب، لم يكن السلفيون في مصر يعرفون بهذه التسمية، وإنما كانوا يسّمون بالسنّيين، ويقدر عددهم في الوقت الحاضر ما بين مليون إلى مليون ونصف، ينتمي أغلبهم إلى شرائح الفقراء، وإلى مستويات مهنية وتعليمية مختلفة، وينتشرون على رقعة جغرافية واسعة، حيث توجد أكثر المناطق التي ينتشرون بها في الإسكندرية والبحيرة ومطروح ودمياط والدقهلية وقنا وسيناء، ويمارسون تسويقاً وترويجاً لفكرهم يصل إلى حد التحشيد والتعبئة، يساعدهم على ذلك امتلاكهم لقرابة تسعة آلاف مسجد، وستة آلاف زاوية، من إجمالى (130) ألف مسجد وزاوية، علاوة على حوالي (13) ألف جمعية خيرية، و(36) قناة فضائية، وكلها تتلقى أموالاً طائلة من بعض دول الخليج، وعلى رأسها السعودية؛ بهدف مساعدتهم في نشر دعوتهم، وإن كان عدم وجود إطار تنظيمي للسلفية حتى الآن، يجعل من الصعب حصر قواعدهم.

السلفيون وصعود سياسي بعد الثورة

لم تسفر ثورة يناير 2011 عن بروز قوة سياسية واجتماعية في المجتمع المصري، بقدر ما أبرزت التيار السلفي، رغم أنه لم يمثل من قبل رقما في خارطة الحراك السياسي، ويعبر بشكل عام عن تحفظ تجاه الثورة وشبابها الذي لم يجلس إلى المدارس السلفية للتعلم، في ظل تراجع دور الأزهر في نشر الدعوة لفكر وسطي إسلامي.
وعلى الرغم من رفض السلفيين لثورة يناير في 2011، وإعلان موقفهم الرافض لها، حيث شن السلفيون حملة ضد مجاهدي الكيبورد Key-Board  ولوحات المفاتيح الذين يسيرون إلى السحو الأعلى، ورأت فيما يحدث خطة بشّر بها أحبار الماسونية وأنبياء إسرائيل وشيوخ صهيون، وهو عين ما جاهر به الداعية السلفي محمد سعيد رسلان، حين ذكر أن الثورة: "عمل لا يتناسب مع الإسلام، بل هو خروج عليه"، وأن من قاموا بها "ليسوا شهداء، بل خوارج"، ورأى فيها جزءًا من الخطة التي بشر بها أحبار الماسون وأنبياء صهيون، وأن من قاموا بها هم خريجو وطلاب الجامعة الأمريكية، يتبعهم ويساندهم الفنانون المخلّون والمخرجون السفهاء وأصحاب العري والسفور والباحثون عن تطليق الفضيلة.
كما أنها وعقب تنحي مبارك، استنكرت ما حدث من تنحيته بسبب المظاهرات والاضطرابات، واعتبرته دعوة مظلوم استجاب لها رب العالمين.
ولكن سرعان ما تبدل موقفهم على النقيض مع تحالفهم مع جماعة الإخوان المسلمين، ليتسم السلوك السياسي للجماعات السلفية منذ الثورة، بما يعينها على تحقيق مصالحهم وأهدافهم وبالأصح رؤيتهم، والتي تنطلق من إحساسهم بأهمية الانتشار والتواجد، بما لا يصح معه العزوف عن هذه المشاركة، وفي الوقت ذاته قاموا بعمل مراجعات برجماتية عن بعض المفاهيم، لفض الاشتباك بين تطلعاتهم وبين خطابهم الذي يرفض، تاريخياً، مفهوم الديمقراطية على سبيل المثال، وكافة مستحقاتها من أحزاب وانتخابات.. تراءى لهم عقب الثورة حل هذه «النازلة»، فبدأوا بالتجمع في كيان واحد، عبر تشكيل مجالس وائتلافات، كمحاولة لتكوين أرضية تنظيمية تجمعهم.
وكانت النواة الأولى لهم هو «مجلس شورى العلماء» ومهمته إعمال القواعد الكلية والنصوص العامة لاستنباط الأحكام المناسبة للنوازل، وبخاصة ما يتعلق بدعم العمل السياسي دون التورط فيه، ويشارك في هذا المجلس محمد حسان ومحمد حسين يعقوب، ولا مانع لديهم شرعاً من المشاركة السياسية، باعتبارها من وسائل التمكين للدعوة ونشرها.
وعلى الرغم من وجود محاولات عدة من إنشاء عدة محاولات لإنشاء حزب سلفي إلا أن حزب النور هو أقوى الأحزاب السلفية على المشهد السياسي المصري منذ إنشائه حتى يومنا هذا، ويعد حزب النور أول حزب تمت الموافقة عليه، ويتضمن برنامجه النص على أن الشريعة الإسلامية مصدر التشريع، وتأكيد تأمين الحرية الدينية للأقباط، وإقامة دولة حديثة، واستقلال الأزهر، والقضاء على النظام الربوي في البنوك والإقراض، والتوسع في التمويل الإسلامي، وقد أعلن الحزب أن أبوابه مفتوحة للجميع، مع رفضه تمرير الانتخابات البرلمانية، دون المنافسة على أغلب مقاعدها، خاصة في الإسكندرية، واعتباره الصوت الانتخابي للمرشح السلفي صدقة جارية۔
وتتضح سيطرة فكرة الهوية بشكل ملحوظ في برنامج هذا الحزب، حيث يفرد قسماً خاصاً لموضوع «الثقافة والهوية»، ويعطي أهمية قصوى لضرورة تعيمق الهوية الإسلامية لمصر، وضرورة أن تضبط كافة مناحي الحياة بضوابط الشريعة، مع إيلاء اهتمام خاص لمؤسسة الأزهر، ومحاولة إعادة بعث دوره كمراقب على تنفيذ المرجعية الإسلامية.
على الرغم من الممارسات التي سلكها التيار السلفي في محاولاتهم لركوب موجه الثورة، دأبوا على إقصاء «الآخر»، وهو ما يبدو في محاولتهم السيطرة على بعض مساجد الأوقاف، باستبعاد خطبائها الرسميين بالقوة، وإنارتها بمصابيح خضراء، واتهامهم الأزهر بالفساد في موالاته للدولة، والعمل على تفرقة الحركة الإسلامية وتشتيتها، واتهامهم الطرق الصوفية بأنها تعمل على خدمة ما تسميه «مخططات أمريكية»، لفصل الدين عن الدولة، وإقصائه نهائياً عن الحياة السياسية، ومواجهة التيار السلفي في مصر، وبأنها تعمل على نشر الخرافة والدجل وإلصاقها بالدين الإسلامي.
وبهذا التوجه، لم يتورعوا عن استخدام العنف، حين قام فصيل منهم عقب الثورة وتحت مسمى اللجان الشعبية، بإثارة الذعر في منطقة كرداسة بالجيزة، بزعم إقامة حدود الله ومساعدة الشرطة، وكان لهم دور الحشد في استفتاء 19 مارس، وهو الاستفتاء الذي ضلّلوا فيه المصريين بأن من يقول نعم سيدخل الجنة، وخاضوا «غزوة الصناديق» يوم الاستفتاء على التعديلات الدستورية، تلتها «غزوة الأضرحة، حين لجؤوا إلى هدم بعضها، حيث قاموا بهدم سبعة مساجد بها أضرحة في الإسكندرية وحدها.

التيار السلفي الجهادي

يتطرق الدكتور محمد حافظ دياب في هذا الفصل إلى نشأة التيار السلفي الجهادي وتحولاته على الصعيد الإقليمي والدولي، ويقوم بتفنيد وفرز التيارات السلفية من الداخل، فيؤكد أن التيارات السلفية تنقسم فيما بينها إلى ثلاثة تيارات: الأول هو التيار المحافظ الذي اختار الدعوة والتعليم، ورفض مبدأ المشاركة السياسية، مركزاً جهوده على ما يعتبره تصحيحاً للجوانب العقيدية والعلمية، والردّ على العقائد والأفكار التي يراها منحرفة، مع التمسك بطاعة ولي الأمر، أما التيار الثاني فهو التيار الراديكالي، وتمثله السلفية الجهادية، وتقوم مقاربته السياسية على التفكير ورفض الأعمال السياسية، وتبني التغيير بالقوة.
وهناك التيار الثالث وهو نتاج التيارين الأول والثاني، فعلى الرغم من رفضه المشاركة السياسية، إلا أنه اتخذ موقفاً وسطاً يجمع بين العقائد والأفكار السلفية من جهة، والعمل الحركي والمنظم وحتى السياسي من جهة أخرى، ويؤمن بالإصلاح السياسي وسلمية التغيير ومشروعية المعارضة، ورفض الخيار المسلح في إدارة الصراع  الداخلي، ما نتج عنه تشكل أحزاب سياسية سلفية۔ وقد فرض عليه الانخراط في السياسة، بغرض الدفاع عن النفس في مواجهة سلطة تستهدفه، أو رغبة طموحة في ترجمة الوجود الاجتماعي إلى رقم سياسي، أو يمهد له سكة فسيحة لنشر دعوته، مع أن الفقه الذي يتمسكون به يتحدث عن الفرق وليس البرلمان، والشورى وليست الديمقراطية.
ويحوي معجم السلفية الجهادية منظومة من المفاهيم المؤسسة، مثل مفهوم «الحاكمية» في شقها السياسي، و«الجاهلية» في شقها الاجتماعي، و«الولاء والبراء» في شقها الدولي، و«الطاغوت» في التعامل مع الآخر من خلال معياري الإيمان والكفر.
على أن مفهوم «الجهاد» يعدّ من أبرز المفاهيم التي تقوم عليها السلفية الجهادية، باعتباره أهم أداة لتغيير الأنظمة، سواء كانت وطنية أم عالمية، نتيجة تطور فكر أهل السنة والجماعة، ووصولاً إلى فكر المودودي وسيد قطب، وانتهاء إلى إمارة أبي محمد المقدسي.
وتنطلق هذه السلفية الجهادية من إقامة سلم تفضيلي بين مختلف العبادات، واعتبار الجهاد روح العبادة، والإقبال عليه هو الذي يحدد درجة الانتماء إلى الإسلام، ما حدا به أن يميز بين المسلم العادي الذي يؤدي فرائضه التعبدية، والمؤمن الذي يؤدي عبادة العبادات، وهي الجهاد۔ وبذلك استطاع أقطاب هذه السلفية أن يزيدوا من راديكالية الأفكار السلفية التقليدية، كي تضحى سامية ومرغوبا فيها بحماسة؛ لكونها لا تقف عند مجرد أداء الشعائر اليومية، بل تتعداه لتؤهل الفرد للقيام بأعمال أكثر إيمانية يتم تنفيذها ببطولة.
هذا وساعدها على ذلك، اتكاؤها على مرجعية يمكن ملاحظتها في كتاب سيد قطب "معالم في الطريق"، ويعتبر أحد أهم النصوص المؤسسة لفكر حركات الجهاد في العالم الإسلامي، وذلك عبر طرحه جملة من المفاهيم التي أصبحت معالم راسخة في مسيرة الحركات الإسلامية المسلحة، من حيث المنهج والممارسة، ويليها في عمل صالح سرية "رسالة الإيمان"، ومحمد عبد السلام فرج "الفريضة الغائبة"، وطارق الزمر "فلسفة المواجهة"، وشكري مصطفى "الخلافة.. التوسمات"، وأيمن الظواهري (العمدة في إعداد العدّة) وأبو محمد المقدسي، واسمه الحقيقي عصام البرقاوي، في رسالته "كشف اللثام عمن وصفوا ببيعة الإمام"، وهذا الأخير يعد المنظر الروحي والفكري الأبرز للسلفية الجهادية راهناً- التي طرحت نفسها كبديل راديكالي- له صفة الشمول؛ كي تقف سدّا في وجه ما يتصور من هيمنة حضارية للغرب بماديته وعلمانيته ودهريته، والتأكيد على ضرورة العودة إلى الأصول الإسلامية في التفكير، وقواعد السلوك والتنظيم الحقوقي والاجتماعي.
وفي مصر، كانت جماعة «شباب محمد» أول من طرح فكرة انتهاج أسلوب العنف المباشر مع السلطة وتقويضها، فقد سجل صخب الستينيات في القرن الماضي، تنامياً لموجات سلفية جديدة اتخذت من سلاح الشهادة الذي يتشكل من أجساد بشرية لإضرام العنف وقوداً لها، بينما يجيز إطلاق اسم «السلفية الجهادية» عليها، فقد ظهرت موجته الأولى إبان الستينيات والسبعينيات كتعبير راديكالي موجه إلى الأنظمة المحلية، وتبلور في موجته التالية في الثمانينيات والتسعينيات كإطار عمل لجماعات وطنية وانفصالية مثل فلسطين والشيشان، وانتهى إلى ما عرف بالجهاد العالمي منذ منتصف التسعينيات، مع تبني تنظيم القاعدة محاربة الولايات المتحدة قبل محاربة الأنظمة المحلية.

السيناريو المقبل في ظل الأوضاع الناجمة

ينتهي الدكتور دياب باستنتاج عدد من الاحتمالات القائمة في ظل تنامي دور التيار الجهادي في مصر وتصعيده للأحداث بشكل دموي، وخسارته جزءا من التأييد الشعبي جراء أحداث العنف المتنامية في الشارع المصري، فيستخلص أن هناك أربعة احتمالات ذهب إليها: الأول- وهو الأكثر واقعية- الإحجام عن أحداث تطوير حقيقي وجوهري على هذا الخطاب، ما يحدو بها في هذا الحال الاكتفاء بأن تظل جزءًا من اللعبة السياسية، كممثل لجناح يمين اليمين، ضمن الخطاب الديني الإسلامي، على غرار الأحزاب الدينية الإسرائيلية.
أما الاحتمال الثاني، فتدلنا عليه الخبرة السلفية في استثمار السقوط المدوّي لجماعة الإخوان المسلمين، بعد أن عصفت بها الموجة الثورية في 30 يونيو 2013، عبر امتصاص «تشنّجات» المسألة السياسية، أو بتسويتها تحت تأثير مهدئ أو آخر، وهو ما يقوم به راهناً حزب النور "المشاركة في خارطة الطريق، التقدم كبديل لجماعة الإخوان، ركوب موجة الموافقة على مشروع الدستور، والتهيئة للافتكاك من حظر إقامة أحزاب دينية، شراء أغلب المصانع المتعثرة بمنطقة برج العرب لكسب تأييد العاملين بها، الدخول في تحالفات مع تجمعات سلفية أخرى، وصوغ أفكار محايدة".
أما الاحتمال الثالث والأكثر خطورة، فيتمثل في تجذّر الصراع العلماني– الإسلامي، واتخاذه أبعاداً اجتماعية وسياسية سالبة، ما قد يؤثر في سير العملية الديمقراطية، ويؤدي إلى توقف المسار الديمقراطي أو حظر الأحزاب السلفية، وانكفائها مرة أخرى نحو العمل الاجتماعي والدعوي.
أما الاحتمال الرابع، وهو بعيد بعض الشيء عن الواقع، وهو انشطار التيارات السلفية ما بين النزعة البرجماتية والمحافظة، وهو احتمال يغذّيه اعتماد ذراع هذه التيارات السياسي على كبار مشايخها، وعدم وجود تيار قوي داخلها يعمل في الشارع السياسي بحرفية ومهنية، وأخيراً، هناك احتمال خروج المشهد السياسي برمّته من مأزقه، وهو احتمال لا يتم بصور جديدة خارج الرهان على تكريس نظام ديمقراطي، تشارك فيه القوى والأحزاب السلفية، مع تطوير خطابها السياسي والأيديولوجي للقبول بقيم اللعبة الديمقراطية، ومخرجاتها، وهو ما قد يعزّز احتواء السلفيين، واستدراجهم إلى خطاب أكثر واقعية وبرجماتية.
يقدم الكتاب عن حق تحليلا واقعيا وتاريخيا لجماعة راديكالية الفكر والمنهج، تعيش بيننا متخذة من رحم الدين إطارا لها، ومن ممارسات السياسة منهجا لعملها الآن، وما بين رفض المجتمع لها ولما تحمله داخلها من عنف دموي مستتر حاليا، وما بين المؤيدين لفكرة الخلافة الإسلامية والمنقسمين إلى فقراء مصدقين سذاجة الفكرة، والمقدمة إليهم بديلا لإنهاء فقرهم وجوعهم- وبين قيادات تعمل وفق أجندة يحركها جماعات جهادية راديكالية أكثر تطرفا من الخارج، منها تنظيم القاعدة.

شارك