كيف حل الربيع؟

الثلاثاء 23/يونيو/2015 - 04:16 م
طباعة
 
تتنافس قراءتان تفسير اندلاع الثورات في العالم العربي والإسلامي بحلول سنة 2011، الأولى تركز على نضج الشروط الداخلية المتمثلة في تفاقم المشكلات الاجتماعية وحدوث انتقال ديمغرافي، والثانية تفسر الحراك والاضطراب بمؤامرة خارجية تريد دكَّ العالمين العربي والإسلامي. ولن أدعي بأني سأعرض أجوبة وافية عن هذه الإشكالية، لكني سأعمد إلى إثارة الكثير من الأسئلة عساها تساهم بفك شفرات بعض ما يجري اليوم.
بدأت الإرهاصات الأولى للربيع في فلسطين حين اندلع صراع دموي غير مسبوق بين الفرقاء منذ انكشاف خطة "دايتون" التي فشلت بإلغاء سلطة منتخبة من قطاع غزة سنة 2007، ثم تبع ذلك شن"إسرائيل" حربا من 27 دجنبر 2008 إلى 18 يناير 2009 لإنهاء مقاومة القطاع ووقف إطلاق الصواريخ، وفك أسر الجندي "جلعاد شاليط"، ولم يتحقق ولو واحدا من تلك الأهداف. 
وعليه تبدو فلسطين بلدا صانعا لبراءة اختراع الربيع المعاصر، حيث إن فكرة استحالة إلغاء القوى التي يختارها الشعب ترسخت عبر التطورات التي قطعتها القضية الفلسطينية، فلم يعد أمام جزء مهم من صناع القرار الدولي سوى العمل ضمن معادلة تستحضر اختيارات الشعوب. 
قبل هذه الأحداث بعقدين طفا نموذج الانقلاب على المشروعية الديمقراطية سنة 1992 بالجزائر، ثم النموذج التركي الذي أبدع برنامج حل الأحزاب الوازنة في المجتمع، وهو برنامج اكتشف شفرات صَدِّ فاعليته "أردوغان" ورفاقه ابتداء من 2002، مستفيدا من انطلاق التوجه التجريبي للإدارة الأمريكية تجاه تركيا بعد تفجيرات 11 شتنبر 2001، والذي رسم هدفين مندمجين يتمثل الأول في فسح المجال أمام التيار الإسلامي المعتدل بديلا عن التطرف، والثاني في التحجيم الناعم لإيران الشيعية ببعث جديد لتركيا السنية.
لقد أعزت معظم القراءات تفشي ظاهرة الربيع إلى العامل الذاتي–الداخلي، وظلت تتحاشى الحديث عن العامل الموضوعي الخارجي ! فلم هذا التغاضي؟
من حق كل منا أن يتساءل: ألم تكن الشروط الذاتية- الداخلية قائمة منذ زمن طويل؟  كانت قائمة بالتأكيد، بل اندلعت ثورات شوارع قوية ولم يُكتب لها النجاح، و"ثورات" صناديق عارمة ولم تحظ بالاحترام والتمكين(نموذج الجزائر).  
ما الذي تغير اليوم؟ أجزم أن ثمة تحول ببيت صناع القرار الدولي، كيف تبلور؟ وما مؤشراته وتوجهاته؟ 
سأنطلق من الأسئلة أعلاه لأعرب، من البداية، بأن بيت الإدارة الديمقراطية في و.م.أ. يحتضن سياسة جديدة. ويبدو لي أن أولى الخطوات العملية لتنزيل هذه السياسة  بدأت بتسريب وثائق حساسة لموقع "ويكيل يكس" (لم يعاقب صاحب هذا الموقع لحدود اللحظة)، واتفق غير قليل من المتتبعين والباحثين على أن هذه الوثائق لم تصب في العمق الأمن القومي الأمريكي، بينما يرى فيها آخرون إدانة لسياسات الحزب الجمهوري.
أواصل بالسؤال الآتي: لماذا استهدفت الإدارة الديمقراطية للو.م.أ. الأنظمة العربية العتيدة بالتشهير عبر وثائق "ويكيل يكس"؟ لسبب واضح هو أن هذه الأنظمة صارت عبئا ينوء منه كاهل الإدارة ماديا ومعنويا، يُضاعِف ثقل تركة وبال خلفتها الإدارة الجمهورية، والمتمثلة في غزو أفغانستان والعراق، وفضيحتي سجن أبو غريب ومعتقل غوانتانامو.
من جانب آخر، ظلت إدارة "أوباما" تواجه صعوبة في تنزيل أيسر قراراتها داخليا، ويتذكر الكل معركة "أوباما"، خلال ولايته الأولى، من أجل إقرار نظام صحي اجتماعي(لم يصوت عليه الكونغرس بالقبول إلا يوم 20/03/2010)، ولا زال يواجه صعوبة في التنزيل، ويبدو أنه لم يستطع إرساءه إلا بعد أداء فاتورته بتصريحات لا تقبل التأويل تؤكد التزامه بحفظ أمن إسرائيل، إذ قال في اجتماع حاشد في فلوريدا أواخر يناير2010 أنه ملتزم بدعم أمن إسرائيل، لكنه متعاطف أيضا مع الفلسطينيين في محنتهم. وأحسب أن ذلك كان أول تصريح واضح لـ"أوباما" بخصوص أمن إسرائيل منذ اعتلائه الولاية الأولى في نونبر 2008. 
 وأثناء زيارة "أوباما" لإسرائيل خلال ولايته الثانية أواخر مارس 2013، ستُقر بعض النخب الإسرائيلية، اعتمادا على تصريحات وإيحاءات وإيماءات "أوباما"، بأن أمن إسرائيل القومي، لم يعد بيدها مائة بالمائة لأول مرة . ومن المؤشرات القوية الدالة على سعي "أوباما" لإحداث توازن ما في القضية الفلسطينية، قرار الجمعية العامة  للأمم المتحدة القاضي بمنح فلسطين صفة "دولة مراقب غير عضو" داخل منظمة الأمم المتحدة الصادر أواخر نونبر 2012، وقرار المحكمة العليا الأمريكية القاضي بمنح "أوباما" صلاحية التصريح ببلد الولادة للأطفال الأمريكيين المزدادين بالقدس.   
كما لم يوفق "أوباما" في إقناع الجمهوريين لإرساء ضريبة جديدة تفرض على الأغنياء لمواجهة الأزمة المالية (دجنبر 2011) ، بالرغم من خروج الجماهير لتأييده عقب الخطاب الذي دعا فيه لفرض هذه الضريبة.
إن صعوبة اتخاذ القرار داخليا إزاء قضايا سهلة، أشعر الديمقراطيين بأنهم الطارئ المؤقت، وبأن الجمهوريين هم الأصل الدائم، وأكد بأنهم لا يملكون حلا أوعقدا أمام لوبي صهيوني قوي استفرد بمهام التخطيط والتقرير والقيادة، فبادروا بالهروب إلى الأمام للحفاظ على خصوصيتهم، وضمان استقلال تام إزاء صناعة القرار السياسي. ومن هذا المنطلق سيعمدون إلى اللعب بأوراق جديدة "خارجية" عساها تحجم تغول اللوبي الصهيوني الذي أضحى يتحكم كليا في الوضع الداخلي للولايات المتحدة. 
يبدو أن سعي الو.م.أ لإحداث نوع من التوازن والاستقرار الدولي هو وحده الكفيل بضمان وجود مميز للإدارة الديمقراطية، إن لم أقل وحده الكفيل بإبقاء الو.م.أ. دولة عظمى في الأفق المنظور . 
لا ريب في أن الأزمة المالية والأزمات السياسية والعسكرية المتتالية، ستدفع الإدارة الديمقراطية إلى التخلي عن الدعم المادي والمعنوي للأنظمة التقليدية الحليفة، حتى ولو قاد هذا المسار إلى صعود أنظمة جديدة تكن العداء لإسرائيل، لأن الأمر يتصل بالقضية الفلسطينية التي طالما كانت سببا رئيسا يستعدي العرب والمسلمين، ويستنزف الرصيد الديمقراطي للولايات المتحدة، ويشكك في جدارتها بقيادة العالم.
أمام هذه المقاربة الجديدة، سيصير من اللازم إزالة الأنظمة التي لا تحسن الضغط على إسرائيل، والتي تنتظر القرار الأمريكي أثناء الطوارئ، الشيء الذي لم يعد ممكنا أمام إدارة ديمقراطية، من أولوياتها الملحة، السعي لتثبيت موطئ قدم في عالم يكبله التحكم!
إن الإدارة الأمريكية الحالية تريد وضع شروط قيام أنظمة عربية جديدة تشاكس إسرائيل  لتكسب استحقاقين كبيرين: الأول يتصل بتقوية موقعها التفاوضي عبر التحكم في أمن إسرائيل أمام اللوبي الصهيوني داخل الو.م.أ، والثاني يتعلق بمحو العار الذي ظل يلاحقها جراء انحيازها التاريخي للكيان الصهيوني، وما مجاراة الإدارة الديمقراطية الحالية لخطط إسرائيل في فلسطين، خلال هذه المرحلة، إلا تمويه للوبي الصهيوني وصده عن التشويش على تنزيل استراتيجيتها الجديدة.
ويمكن استنتاج ملامح هذه الإستراتيجية من خطاب "أوباما" يوم 2011/05/02، عقب مقتل "أسامة بلادن، حيث استهل كلمته بالإشارة إلى فشل نموذج "بلادن"، وأعقبها مباشرة إشادة بنموذج "البوعزيزي" والثورات السياسية السلمية، ملمحا لكل من يروقه نموذج "بلادن"، أو كان يراهن على توظفيه في إستراتيجية ما لقيادة العالم تحت ضغط هاجس الإرهاب، بأن ثمة إستراتيجية جديدة شرعت في أجرأتها إدارته الديمقراطية. 
كان من الضروري التفصيل في إبراز المعطى الخارجي، والمناخ الدولي، المرافق لأيام الربيع الأولى، وقد أغفله الباحثون إما لكسل في التحليل، أو وفاء لقراءة جامدة للوضع الدولي، أو ربما بدافع الابتعاد عن شبهة ارتباط الربيع الديمقراطي بأيادي خارجية. لكن على من يتصدر التنوير أن يلتزم الأمانة العلمية مهما كانت الظروف، وأن يعرض الصورة كاملة، إذا ما بدت الرغبة بوضع تشخيص دقيق واستشراف مستقبل واضح المعالم في الأفقين القريب والمتوسط. 
وإذا تأملت معي الصورة التي رسمْتُها عن إدارة "أوباما" تدرك أن العالم العربي-الإسلامي ليس معنيا لوحده برغبة التحرر والانعتاق، بل هي رغبة باتت تغمر فاعلين عظماء داخل النظام العالمي الجديد.  
ولذلك فإن الإقرار باتجاه قوى عالمية إلى تكريس مزيد من الديمقراطية يجعل من غير المعقول التنبؤ بتلاشي الربيع. ولا ريب في أن هذا "الربيع العالمي" سيواجه عقبات ومنعطفات، لكن ليس بمقدورها إيقاف زحفه. ألم يعلق أحدهم على قمع ربيع الشعوب الأوروبية قائلا:
"دُس ما شئت من الزهور فإنك لن تستطيع أن توقف الربيع"؟ !

شارك