عبد المجيد الجمل: اللباس واللحى لا تدل على التدين

الثلاثاء 21/نوفمبر/2017 - 12:31 م
طباعة عبد المجيد الجمل:
 
 قال المفكر  العربى عبد المجيد الجمل إنّ الفكر السلفي الإخواني تمّ بناؤه من قبل المفكر الباكستاني أبي الأعلى المودودي وتبناه المفكّر الإخواني سيد قطب والعديد من تلاميذه بتونس ومصر
 وقال فى حواره  مع مؤسسة مؤمنون بلاحدود للدراسات والابحاث  والذى نشر يوم 18 نوفمبر 2017م والذى اجراه معه الكاتب التونسي  أنس الطريقي  ان علم التاريخ ومناهجه الحديثة، بإمكانها تقديم العديد من الإضافات لتجديد الفكر الديني (المدرسة الكمية، منهج التاريخ المقارن، المادية
والى نص الحوار 
- ما هي الإضافة التي يمكن أن يقدّمها تخصّص التاريخ عامّة، والتاريخ المعاصر خاصّة لموضوع تجديد الفكر الدينيّ في الإسلام؟
إنّ المناهج الحديثة للتاريخ تساعدنا على تجديد الفكر الديني على المستويات التالية:
- التخلي عن تقديس الماضيوالخروج من "سجنه" الذي تحوّل إلى حالة مَرَضِية بالنسبة إلى العرب والمسلمين، فالعرب حاليًّا كما قال المفكر المغربي محمد عابد الجابري "تحوّلوا من كائنات لها تراث إلى كائنات تراثية"
- المنهج المقارن يساعدنا أيضًا على مقارنة ما حدث بالحضارات الغربية من تحولات وتطورات منذ عصر النهضة Renaissance إلى اليوم. فمن بين العوامل التي ساهمت في نهضة الغرب، الإصلاح الديني مع "كالفن" و"مارتن لوثر"، فهذا الإصلاح جعل هيمنة الكنيسة تتراجع ووفر الحرية الفكرية، في حين أنّ المفكرين العرب والمسلمين مازالوا يخشون من "سيف التكفير" المسلّط على رقابهم، فالغرب عاش أوضاعًا مأساوية وحروبًا دينية ساهمت في قتل ملايين من البشر وتشريدهم وهذا ما نعيشه نحن اليوم.
- إنّ أهمية الاعتماد على علم التاريخ بصفة خاصة والعلوم الاجتماعية بصفة عامة، للإصلاح الديني ليست جديدة، بل أكدها المفكر اللبناني شكيب أرسلان في كتابه: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟
لقد أكد في هذا السياق أنّ من الأسباب الأساسية لهذه النكبة، قصر اهتمامهم على العلوم الشرعية، من فقه وأصول وحديث. وانصرفوا عن الاهتمام بالعلوم الاجتماعية مثل علم التاريخ والاجتماع بصفة عامة.
فإذا استثنينا ابن خلدون، فإنّ أغلب الباحثين ركزوا على الشريعة والعلوم الطبيعية وأهملوا العلوم الإنسانية.
وبالفعل فإنّ هذه العلوم الاجتماعية التي تتميز بالأخذ بالمنهج الاستقرائي والمقارن، تجعل العرب والمسلمين يستخلصون العبر من التجارب البشرية المختلفة، وذلك عن طريق دراسة كل تجربة بعمق والبحث عما يمكن الاستفادة منه. وبإمكاننا أيضًا استخراج قواعد يمكن أن تنير سبيل كل من يريد الإصلاح والتقدم.
إنّ ما نعيشه اليوم من صراع دموي بين الشيعة والسنة وكذلك بين السلفية الجهادية والعديد من الدول والمجتمعات العربية، ألم تعِشْه أوروبا في العصور الوسطى وأثناء فترة مهمّة من التاريخ الحديث؟
إنّ هذا الصراع انتهى بتحييد الكنيسة وفصل الدين عن السياسة.
إنّ قراءة التجارب المقارنة تجعلنا نختزل فترات الصراع والحروب ونؤسس لدول حديثة متصالحة مع نفسها ومع السياق العالمي الذي نعيش فيه والمبنيّ على منظومة حقوق الإنسان. فلا يعقل اليوم باسم الخصوصية والهوية أن ننظر للاستبداد وعدم المساواة بين الجنسين وأفراد المجتمع بصفة عامة.
إنّ إهمال هذه العلوم ساهم في انتشار ما سماها الكاتب حازم قنديل "الحتمية الدينية"، التي تعتمد على عدة مقولات في تفسير القرآن والحديث، مثل "من ينصر الله على نفسه ينصره الله على أعدائه". ومن المقولات الأخرى التي تؤكد الحتمية المذكورة سابقًا "من يتّق الله يفتح عليه الدنيا قبل الآخرة ويقوّض له العروش.....". ومن الدعامات الأخرى للحتمية الدينية أنّ للمسلمين قانونًا خاصًا للتطور التاريخي. ومن أخطر الدعامات إعادة كتابة التاريخ الإسلامي بطريقة تجعل منه متوافقًا مع الحتمية الدينية، حيث تتم كتاباته في شكل دورات من التقوى والفجور. فالنهوض يكون عندما تبدأ دورة التقوى، وتبدأ دورة الانحدار عندما تبدأ دورة الفجور.
إنّ الاعتماد على هذا المنهج والتخلي عن المنهج المقارن والاستقرائي بدعوى أنّ هذه المناهج مخصّصة لتاريخ الأوروبيين ليس سليماً، فالمقارنة البسيطة والتأمل في نهضة أوروبا واليابان والولايات المتحدة، تبيّن لنا أنّ هناك أوجه تشابه عديدة، من بينها النهضة العلمية والحرية وكذلك اعتبار الإنسان "مركز العالم".
- فيما يخصّ التاريخ المعاصر يبدو أنّه يعبّر عن الفترة التاريخيّة التي حرّكت موضوع التجديد الدينيّ. ما هي الأحداث التاريخيّة التي تسبّبت ربّما في تيقّظ المسلمين إلى هذا الموضوع؟ هل يمكن اعتبار الاطّلاع على الحداثة الغربيّة العامل الحاسم في ذلك؟ وهل فعلاً كان هذا الاطّلاع مرتبطًا بحملة نابليون بونابرت على مصر؟ أم أنّ عوامل داخليّة ذاتيّة دعت إليه؟
تعتبر مسألة الجذور التاريخية للحداثة، بالنسبة إلى العالمين العربي والإسلامي من المسائل التي أثارت ولا تزال جدلاً كبيرًا بين الباحثين في المجال التاريخي. وفي هذا السياق، فإنّ "التحقيب" المتداول عند العرب المسلمين هو غربي، فمثلاً الغرب دخل الحداثة مع الاكتشافات الكبرى وبداية عصر النهضة. أمّا بالنسبة إلى العرب والمسلمين، فإنّهم في الواقع لم يعرفوا أحداثًا تاريخيةً بارزة خرجوا عن طريقها من القرون الوسطى. وبالرغم من ذلك، فقد اختلف الباحثون في تحديد دخول العرب مرحلة الحداثة.- فمثلاً ألبارت حوراني Albert Houranie، يعتبر أنّ جذورها تعود إلى حملة نابليون بونابرت على مصر سنة 1798، فبالرغم من كونها استعمارية فقد أحدثت صدمة عنيفة وجعلت العرب المسلمين يخرجون من أوهام الماضي ودعتهم إلى طرح العديد من الأسئلة مثل سؤال: لماذا تفوق الغرب وتخلف الشرق؟
ويوجد من يعتبر أنّ للحداثة في العالم العربي جذورًا تعود إلى حملة إبراهيم باشا على سوريا. وهناك من يقول إنّها بدأت مع الغزو العثماني للبلدان العربية (1520 الجزائر، 1559 إيالة طرابلس، 1574 إيالة تونس) من خلال استعمالهم الأسلحة الحديثة.
إجمالاً يمكن القول إنّ الحداثة في صورتها الثقافية تعود إلى القرن التاسع عشر من خلال ظهور الحركات الإصلاحية وانبهارها بالغرب مثل رفاعة الطهطاوي (1801- 1873) وجمال الدين الأفغاني (1839- 1897) وخير الدين التونسي (1825-1870).
وفي هذا السياق لابدّ من التذكير بأنّ النهضة الإصلاحية الأولى بالعالم العربي، كانت مبنية على الإصلاح الديني، حيث جاءت بمثابة رَدّ على الاستعمار وطالبت بالاحتماء بالدين، لكن المشكلة برزت بالنسبة إلى المصلحين، مثل رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، من خلال ملاحظتهم القفزة الحضارية التي حقّقتها أوروبا. وهذا ما جعلهم يصلون إلى قناعة مفادها أنّه لا تقدّم بدون الانفتاح على الغرب والاقتباس منه.
إنّ هذه الحركة الأولى فشلت ونعيش حاليًّا بوادر نهضة ثانية، برزت مع المغربية فاطمة المرنيسي والمغربية ليلى أحمد ممّا أكّد حاليًّا أنّه لا نهضة بدون إقرار نظم ديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والفصل بين السلطتين السياسية والدينية.
إنّ هذا التيار يتجاهله قسم كبير من الغرب لعدم اعتقاده بإمكانية وجود إسلام عصري متصالح مع تراثه الحضاري.
- من المعلوم أنّ العلاقة بالتاريخ الخاصّ قد تتسبّب إمّا في تحويله إلى عامل دفع وحيويّة، أو في تحويله إلى أساس لتفكير ماضوي، كيف ترى وضع المسلمين من هذا الجانب؟ وما هي أسبابه في نظركم؟
الإغراق في الخصوصية لا يمكن إلاّ أن ينتج هوية منغلقة رافضة للآخر ولكن هذا لا يعني رفض الماضي، فالغرب تطوّر من خلال قراءته النقدية للماضي الخاص وأخذه من الإنجازات البشرية الأخرى مثل التراث العلمي والثقافي العربي الإسلامي. ولنا في اليابان أحسن مثال، حيث اعتمد على تراثه وأخذ من الغرب الكثير. ومما يقوله باحث ياباني حول هذه النهضة "اليابان تأورب ليبقى يابانيًّا" "Le Japon s’est européanisé pour rester japonais"
واليوم أكثر الشعوب ارتباطًا بالغرب واستهلاكًا لمنتجات الغرب هم المسلمون، لكنّهم أيضًا أكثر الشعوب تكفيرًا للغرب.
إنّ العرب المسلمين أو لنقل قسمًا كبيرًا منهم يتعاملون مع الماضي باعتباره مقدسًا خارجًا عن التاريخ ومنطقه. فمثلاً تقديس نظام الخلافة برؤية ماضوية يُفسَّر بعدم قراءتنا قراءة علمية لهذه المرحلة التي تعتبر من صنع البشر وليست من صنع الآلهة شابتها العديد من السلبيات، وحاليًّا لا يمكن أن تكون أنموذجًا.
- إنّ العلاقة بالتاريخ الخاص، اليوم لدى قسم كبير من المسلمين خطيرة جدًّا لأنّه كما ذكرنا سابقًا تعتمد على منهج "الحتمية الدينية"،التي تعتبر أنّ التقدم لا يكون إلاّ بالانفتاح والأخذ من علوم الغرب وآلياتهم في التحليل والشرح لا بالعودة إلى الماضي والتقوقع على الذات.
إنّ الارتباط بالماضي واعتبار أن لا حل إلا بالعودة إلى ماضي أجدادنا، والتطبيق الحرفي لذلك كما يؤكد على ذلك أنصار "الحتمية الدينية"، يجعل من التاريخ مضرًّا بنا حاليًّا كما قال بول فاليري (Paul Valery): "إنّ المبالغة في العودة إلى الماضي يسكر الشعوب ويجعلهم يستعيدون ذكريات خاطئة ويضخّم انفعالاتهم ويترك جراحهم تنزف ويخلق لديهم إما هذيان العظمة أو عقدة الاضطهاد". وبالفعل هذا ما ينطبق على أنصار "الحتمية الدينية "، الذين هم أشبه بالسكارى من خلال اعتبارهم أن لا تطور إلا بالعودة إلى الماضي التليد. ومن خلال اعتبارهم أيضًا أنّ الأخذ بعلوم الغرب ومنتجاته وكذلك طرائق قراءته للماضي وآلياتها عن طريق المناهج الحديثة "بدعة وضلال".
إنّ الذين يعتبرون أنّ للتاريخ الإسلامي قوانينه الخاصة ومنطقه الخاص، أغلبهم من أنصار "الحتمية الدينية" ويرفضون تطبيق مناهج التاريخ الحديثة تحت مسمّيات عديدة مثل الخصوصية.
إنّ المدارس التاريخية الحديثة والمعاصرة لا تنفي الخصوصيات، فمثلاً المؤرخ التاريخاني، يعتمد على المصادر ويقوم بمقارنتها ونقدها (المعاهدات، الشهادات). وتعتمد هذه المدرسة "الهيرومنطيقا" أي التأويل والبحث عن المعاني الدفينة وإعادة صنع الماضي الذي كان يعيش فيه الفاعل التاريخي.
إنّ اعتماد المناهج الحديثة قادر على جعل العرب والمسلمين يتصالحون مع "الحداثة والمعاصرة"، أما إذا واصلنا تدريس التلاميذ وطلاب الجامعات بأنّ "الغزوات في الفترة الإسلامية هي الأنموذج" وجعلناهم سكارى بهذا الماضي فإنّنا سنخلق آلافًا من الإرهابيين ينتظرون فتوحات جديدة.
إنّنا نمرّ بمرحلة خطيرة منذ أحداث سبتمبر 2001 إلى اليوم. ومن بين طرائق الحلول اعتماد المناهج الحديثة لقراءة الماضي.
- استنادًا إلى المدارس التاريخيّة الجديدة المختلفة كالتاريخانيّة، والبنيويّة، وغيرها، فإنّ من أكبر الإشكالات أن يحيّد كاتب التاريخ تاريخيّته الخاصّة، كيف تحكم من هذا الجانب على التاريخ الإسلاميّ هل هو تاريخ موضوعيّ أي تاريخ لما وقع فعلاً أم أنّه تأويل للتاريخ تحكّمت فيه شروط الثقافة العامّة، كالسياسة، والقوى الاجتماعيّة، وقيم التفكير؟
التاريخ العربي الإسلامي جزء من ماضينا. وهذا الماضي يجب التعامل معه بطرائق علمية والابتعاد عن التقديس الذي يعتبر عائقًا إبستومولوجيًّا خطيرًا، يساهم في عدم موضوعية قراءتنا للماضي باعتباره من صنع البشر.
أمّا فيما يخص هل أنّ هذا التاريخ وقائع وقعت فعلاً، أم هو تأويل. فعلم التاريخ هو تأويل وقراءة نقدية لما ورد في المصادر وابن خلدون منذ عدة قرون قال "التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الأخبار وهو في باطنه نظر وتحقيق". وبإمكاننا أن نطرح السؤال بطريقة أخرى: هل ما ورد في المصادر بمختلف أنواعها صحيح؟
و هنا يأتي دور المؤرخ الذي بإمكانه أن يعطينا إجابات علمية عما ورد بالمصادر ولقد قام عدة مفكرين عرب بدور متميز في هذا المجال، مثل المفكر التونسي هشام جعيط والمغربي محمّد عابد الجابري. فمثلاً الأستاذ هشام جعيط دحض العديد من المغالطات في كتابه حول الفتنة الكبرى.
إنّ أحسن الكتابات التاريخية عن الفترة الإسلامية كتبها أجانب مثل منتغمري وات "كتاب محمد صلى الله عليه وسلم" والعديد من الكتابات الأخرى لأنّهم كانوا متخلصين من ضغط التقديس والخوف من التكفير.
إنّ المدرسة "التاريخانية" تعتمد التأويل والبحث عن المعاني الدفينة. ولقد قام الباحث الألماني "ماكس فيبر" (Max Weber) بعدة إضافات، منها المنهج المقارن الذي ذكرناه سابقًا وبراديغم المثال الأنموذج وأخيرًا نقده للتفسير الاقتصادي الماركسي للتاريخ. ولقد أكد ماكس فيبر تعدد العوامل المفسرة للظاهرة التاريخية. وهذا ما يمكن تطبيقه على تاريخنا الإسلامي. وهذا غير ممكن ما لم نتخلص من العوائق الإبستيمولوجية وأهمها التقديس والتفاسير الميتافيزيقية للتاريخ وكذلك التآمرية، فمثلاً حاليًّا العديد من المدرسين للتاريخ العربي الإسلامي يعتبرون قتل الخليفة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب تمّ في إطار مؤامرات، لكن الواقع مغاير لذلك كما أكدت ذلك المصادر الإسلامية نفسها.
- تقول هذه المدارس الجديدة أنّه لا مجال للقول بتحكّم الإنسان في تاريخه، لقد ساد الظنّ طويلا بأنّ الإنسان قادر على ذلك، والأصحّ من ذلك هو أنّ الإنسان صنيعة تاريخه لا صانعه. ما رأيكم في هذا الفهم لعلاقة الإنسان بالتاريخ، واستنادًا إلى ذلك هل نحن قادرون على التأثير في تاريخنا والتحكّم فيه؟
 إنّ القول بأنّ الإنسان لا يساهم في صنع التاريخ، هي قولة تخرجنا من دائرة التاريخ، الذي هو من صنع البشر. ولقد أكدت ذلك العديد من الأحداث:
الطبقة البرجوازية في أوروبا كان لها دور بارز في تطور الغرب والرأسمالية المهيمنة حاليًّا على العالم.
والطبقة العاملة بنضالها ساهمت في تطوير أوضاعها وبفضلها ظهرت النقابات والعديد من الامتيازات التي يتمتع بها جزء كبير من العمال بمختلف بلدان العالم مثل التغطية الصحية، والعمل لمدة 8 ساعات، والعطلة خالصة الأجر...
وتحرّر الشعوب من الهيمنة الاستعمارية، تونس والمغرب الأقصى سنة 1956 والجزائر سنة 1962......، كلّها أمثلة على أنّ الإنسان قادر على صنع تاريخه.
إنّ القول بكون الإنسان "تسوقه الأيام ولا يسوقها" على حدّ تعبير ميخائيل نعيمة يحيلنا على مذهب القدرية التي تعتبر أنّ الإنسان ليس مخيرًا بل مسيّر في فعله..
اليوم مع تيار "الميكرو تاريخ، الألماني والإيطالي" الذي انطلق منذ سبعينات القرن العشرين، تمّ التخلّي عن الهياكل الرمزية والعائلية. ووضعوا في المقام الأول التجربة المعيشية لصغار الناس وبسطائهم. ومن بين ما ركزت عليه هذه المدرسة الإيمان بأنّ للفرد هامشًا كبيرًا من الحرية، وأنّ سلوكه ليس فقط رهين الهياكل غير المرئية. ولقد تفرعت عن مدرسة الميكرو تاريخ الألمانية مدرسة فرعية تسمى "مدرسة المفاهيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية".
إنّ من يتأمل في اليومي يلاحظ ويقرّ بوجود مسارات فرديّة في التاريخ.
إنّ مدرسة الميكرو تاريخ الألمانية (التاريخ اليومي) وكذلك مدرسة المفاهيم السياسية يؤكدان في مستوى المنهج ما يلي:
- اعتبار الإطار المحلي الضيق (القرية، الأحياء الشعبية..) هي الإطار المثالي الأمثل لفهم التاريخ. واعتبار ما يأتي من فوق (المؤسسات، النظريات) عائقًا أمام ما يجري في عالم عامة الناس.
وحسب ما يبدو فإنّ فهمنا لما يجري في عدة بلدان مثل تونس، طرابلس، لبنان بغداد وغيرها من البلدان، لا يمكن فهمه إلا بتطبيق منهج الميكرو تاريخ. فأغلب الذين يفجّرون أنفسهم ينتمون إلى المجال الجغرافي لهؤلاء. فهل سمعنا بواحد بتونس ينتمي إلى الأحياء الراقية فجّر نفسه؟ إلى حد الآن لم يحدث.
إنّ اليومي لا يقتصر على الغذاء والخبز بل أيضًا على الثقافي، فما يقدم لهؤلاء من قبل الأيمة يشحن العاطلين عن العمل بفكرة الجهاد ويبيّن لهم أنّ من لا يطبّق الشريعة كافر ويجب عليه الجهاد لإلغاء دار الكفر.
إنّ هذه الثنائية تجعل من مسألة الإصلاح الديني والاقتصادي والاجتماعي ضرورة مُلِحّة قبل فوات الأوان وعودة الاستعمار المباشر.
- من المعلوم أنّ تصوّرات التاريخ مختلفة، ففي هذا السياق يمكن الحديث عن نظريّة الدورة التاريخيّة، أو مفهوم دائريّ للتاريخ هيمن في المجتمعات التقليديّة خاصّة، وهناك الخطاطة الوضعيّة الكونتيّة للتاريخ ذات المراحل الثلاث. وهناك أيضًا اللّوحة الماركسيّة الخماسيّة للتاريخ، التي أضاف إليها الأنتروبولوجيّون مرحلة نمط الإنتاج الآسيويّ، ويتحدّث جيانباتيستا فيكو عن تطوّر لولبي دائريّ للتاريخ. كيف ينظر العرب المسلمون إلى تاريخهم؟ وهل يمكن القول إنّ نظريّة الدورة التاريخيّة هي التي تنطبق عليهم؟
بالفعل من بين الرؤى العتيقة للتاريخ، رؤية الزمن الدائري Cyclique وهناك مفهوم الزمن الخطي Linéaire. فالرؤية الأولى يحظى لديها الماضي بأهمية بالغة فهو فترة ذهبيّة وفردوس مفقود، والحاضر فترة انحسار وتراجع والمستقبل هو الدمار والموت. وبالفعل هذا ما ينطبق على قسم من الشعوب العربية التي تعتبر مثلاً فترة الخلافة منذ الخليفة الأول أبي بكر إلى تاريخ إلغائها من قِبَل المصلح مصطفى كمال في فترة العشرينات من القرن العشرين، هي الأنموذج وخاصة فترة الخلافة الراشدة.
أمّا بالنسبة إلى رؤية الزمن الخطي، فهي مرتبطة بالأديان التوحيدية (اليهودية والمسيحية والإسلام)، فهي تعتبر أنّ الكون خلقه الله في لحظة معينة "كن فيكون". وهذا الإله هو الذي يتحكّم في مصير الإنسان فانتصاره في حرب أو اكتشافه دواءً جديدًا أو نظريةً كلها أحداث قرّرها الله سلفًا. وهذه الآلية للتحليل لا تزال أيضًا سائدة عند العرب والمسلمين.
إنّ النظرية اللولبية للتاريخ كانت موجودةً بأوروبا منذ العهد الروماني وتواصلت مع بعض المؤرخين إلى القرن السابع عشر. ومن بين المؤرخين الأوروبيّين الذين اعتمدوا على هذه النظرية قيامباتيستا (GIAMBATTISTA VICO) الذي عاش أثناء القرن الثامن عشر. فهو ينظر للتاريخ نظرية لولبية ودائرية في الوقت نفسه.
إنّ هذه النظرية تلاشت اليوم بالغرب أما بالبلدان العربية الإسلامية فقسم من الباحثين التقليديين مازالوا على هذا المنهج. فالحروب تفسر بكونها "امتحانًا ربانيًّا" والشيء نفسه بالنسبة إلى الأزمات. وكل محاولة أخرى لفهم علمي تعتبر معارضة للفعل الرباني.
إنّ العديد من الأحداث مثل الحرب الأمريكية العراقية في الكويت روّج خلالها المروّجون للأساطير عن وجود "شعرة بسورة البقرة" تدلّ على انتصار العراق وهي أوهام لا يقبلها العقل.
أنس الطريقي: المعلوم أنّ المؤرّخ الغربي الذي ظهر منذ عصر النّهضة تخلّى بالتدرّج عن تفسير التاريخ بالعامل الدينيّ (مع المؤرّخ الإنسانويّ) ثمّ السياسي (مع المؤرّخ العقلانيّ، ومعارضه المؤرّخ الرومنطيقي)، هل يمكن القول إنّ العامل الدينيّ هو المعيار الأوّل لتفسير التاريخ عند العرب المسلمين؟
- اليوم البلدان العربية الإسلامية جزء مهم من شعوبها، ونُخَبها يفسّرون بالدين كلّ الظواهر الطبيعية والاجتماعية والسياسية.
واليوم بالرغم من كون قسم كبير من مدارسنا وجامعاتنا بالوطن العربي تفسّر الظواهر الطبيعية مثل الجفاف، والزلازل بأسباب طبيعيّة، فإنّ بعضهم يفسّرها بأنّها غضب ربّانيّ. ومن المفارقات أنّ البلاد التونسية المؤهلة نسبيًّا لنجاح انتقالها الديمقراطي، دعا فيها وزير الشؤون الدينية في شهر جانفي 2016 إلى القيام بصلاة الاستسقاء. وهذا يعني أنّ دعوة هذه المؤسسة تتناقض مع كلّ ما يُدرّس. فعوض أن نقوم بمجهودات عملية لحل هذه المشاكل فإنّنا نعطي تفسيرات غير عقلية. فلو كان ذلك صحيحًا لأمكن لنا حلّ مشكلة المياه في الصحاري العربية في ظرف أسبوع.
أما الأزمات الاجتماعية، الاقتصادية فقِسْم من العرب المسلمين يعتبرونها "امتحانًا ربّانيًّا".
حاليًّا، إنّ ما تقدمه المؤسسة الدينية المحافظة (السلفيون وأنصارهم) لا يختلف كثيرًا عما تقدمه وزارة الشؤون الدينية بتونس. ففي الوقت الذي يدرّس فيه أستاذ الجغرافيا نزول الأمطار بعوامل علمية (مثل الموقع على مستوى الكرة الأرضية على غرار القول إنّ أغلب المناطق الواقعة على مستوى خط الاستواء كثيرة الأمطار والمناطق الصحراوية قليلة الأمطار)، فإنّ وزارة الشؤون الدينية تقدّم عوامل أخرى مثل صلاة الاستسقاء.
إنّ هذه الثنائية على مستوى التدريس من العوامل الأساسية التي تفسر انفصام شخصية الكثير من التلاميذ والطلبة وكذلك النخب حيث نجد الطبيب والأستاذ الجامعي والمهندس يقبل بما يقوله هؤلاء الأيمة.
إنّ الإصلاح الديني يمر حتمًا عبر تدريس الأيمة العلوم العقلية ومناهج الأديان المقارنة. ويجب القيام بإصلاحات جوهرية لتدريس العلوم الاجتماعية لكن ذلك غير كاف لأنّه من الضرورة بمكان مقاومة الفقر والتهميش الاجتماعي.
- ما هي المداخل سواء كانت في تصوّرنا للتاريخ، أو في علاقتنا به، لتثوير فهمنا للدين بما أنّه لا أفكار البعث أو الإحياء أو الإصلاح كانت كافية لتجاوز جمودنا التاريخيّ القارّ؟
ليوم لتثوير فهمنا للدين يجب علينا، قراءة موروثنا قراءة عقلية على غرار ما فعل المعتزلة. ويجب أيضًا الاعتماد على القراءات التاريخية للموروث، فمثلاً القرآن لم يحرّم العبودية. القوانين الوضعية هي التي منعتها، فعدم تحريمه مرتبط بظروف موضوعية اقتصادية واجتماعية. والشيء نفسه بالنسبة إلى الجواري، فهل نقبل اليوم بالعبودية والجواري لأنّها لم تحرّم في القرآن؟
اليوم يمرّ العرب والمسلمون بأخطر أزمة، وتطوير قراءاتنا للموروث مسألة إستراتيجية، فتقسيم جزء من النخب التقليدية للعالم إلى قسمين "دار الكفر" و"دار الإسلام"، خطر فضيع يهدد بعودة الاستعمار المباشر.
يجب إعادة قراءة هذه المسائل لإنقاذ شبابنا من التكفير وفكرة "الفتوحات من جديد".
من المدارس التاريخية الأخرى التي يمكن الاعتماد عليها، مدرسة العلاقات الدولية التي يمكن على ضوئها أن نقوم بصياغة سياستنا مع الآخر.
إنّ طريقة الإصلاح الديني تمرّ عبر الإصلاح التربوي وخصوصًا على مستوى تدريس العلوم الإنسانية مثل التاريخ وعلم الاجتماع. فسابقًا طالب الغزالي بإصلاح علوم الدين للنهوض وحاليًّا يمكن اعتبار النهوض مشروطا بهذا التطوّر المطلوب في تدريس العلوم الإنسانيّة. ومما قاله زياد حافظ في هذا السياق "من الضرورة بمكان إعادة قراءة التراث الإسلامي على ضوء علم التاريخ المقارن للأديان وعلم العلامات.". وبالفعل فإنّ هذه العلوم الحديثة مكنت الباحثين من اكتشاف آفاق جديدة. ولقد بيّن العديد من الباحثين أنّ التاريخ يبدأ مع الوحي، كما أكد على ذلك السلفيون، وبيّن طه حسين مثلاً خطأ ذلك من خلال كتابه المثير للجدل "في الشعر الجاهلي". ولقد استأنف هذه المسيرة باحثون بأكثر جرأة. مثل السيّد القمني والشيخ خليل عبد الكريم.. من أبرز كتابات القمني "الأسطورة والتراث" وكتابه أيضًا "أوزيريس وعقيدة الخلود". واعتبر أنّ الاستعمار والصهيونية ظلموا العرب والمسلمين فولّد ذلك إيديولوجيات مناهضة لما يعتبره العرب ظلمًا لهم وفقًا لرؤية مشوّهة لمجتمع السلف الصالح.
لقد رفض القمني اختطاف التاريخ من قبل السلفيين وفكك الفكر السلفي معتبرًا اللباس واللِحى سخافات بوصفها فكرة مخالفة للواقع. وبالفعل فإنّ اللباس واللحى لا تدل على التدين، فلباس الرسول أو عمر... كان لا يختلف عن لباس أبي جهل.
وبالفعل فإنّ إصلاح مناهج تدريس العلوم الاجتماعية يعتبر مدخلاً أساسيًّا لتثوير المجتمعات والقيام بإصلاحات دينية عميقة وفي هذا السياق تنكب النخبة بتونس على إصلاح مناهج التدريس ودراسة التراث.

شارك