الفقيه وجذور الوعي

الجمعة 23/نوفمبر/2018 - 12:05 م
طباعة  الفقيه وجذور الوعي حسام الحداد
 
أجرت جريدة المثقف حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف تحدث فيه عن صورة الفقيه في الفكر الإسلامي وأدواره التي قام بها في المراحل التاريخية المختلفة ومن ثم اشكالية الاجتهاد في هذا الفقه، حيث كان الفقيه هو المتصدي لتطوير عملية فهم وتفسير الكتاب والسنة.
ماجد الغرباوي باحث بالفكر الديني ورئيس مؤسسة المثقف، يشتغل على موضوعات: نقد الفكر الديني، التسامح، العنف، الحركات الاسلامية، المرأة، الاصلاح والتجديد، التنوير الثقافي، الوعي الحضاري، وقضايا النهضة ودور المثقف فيها.
ويسعى ماجد الغرباوي، المفكر الأسترالي من أصل عراقي، من خلال مشروعه الفكري إلى: ترشيد الوعي، عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، ومن خلال قراءة متجددة للنص الديني تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في طار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب.
وقد أكد الغرباوي في مفتتح الحوار ان الوعي الجمعي للمسلمين احتفظ على مدار تاريخه بصورة مثالية للفقيه، ربطت مرجعيته الدينية بالإرادة الإلهية (الله أعلم حيث يجعل رسالته)، وارتفعت به فوق النقد والمساءلة، باعتباره مصدرا للمعرفة الدينية وأحكام الشريعة وموضع أسرارها. وقد عزز الصراع السياسي صورته، ورسختها علاقته بالسلطة، منذ أول تحالف بينهما. فاكتسب شرعية أقوى من خلال قدرته على توظيف الخطاب الديني، وتخصصه في استنباط الحكم الشرعي. فهو سلطة تتحكم بإرادة الناس وموازين القوى. وإرادة تقمع الرأي الآخر، وتصادر حريته، من خلال خطاب رسمي، تفرضه مرجعية نهائية لبيان الحدود الفاصلة بين الحق والباطل. وبين الإيمان والكفر. فتكيّف المجتمع مع إرادتها، وانصاع لتعاليها. فكان الأخطر في علاقة الفرد بالفقيه روح التبعية والانقياد التي اختزلت حريته، وإعادة تشكيل وعيه على الضد من قيم المجتمع المدني الذي نطمح له. فمع وجود فقيه يصادر حرية الرأي ويحتكر الحقيقة، تتضاءل فرص استتبابه، ويبقى المجتمع يألف الاستبداد، ويحنّ لأحضان الدكتاتور، رغم اختلاف المسميات، سواء كانت سياسية أو دينية. ويبقى دائما بانتظار الفقيه ليحدد التكليف الشرعي لجميع حركاته وسكناته ومواقفه بل وحتى مشاعره. وهو تعبير آخر عن ارتهان إرادة الفرد لإرادة الفقيه، وهو سرّ انقسام الولاء، وانحياز الفرد لمرجعياته الدينية على حساب مرجعياته القانونية والدستورية بل وحتى الوطنية. فلا ضمان لولاء مجتمع، شعبه ينتظر رأي الفقيه في وجوب تطبيق قوانينه، وقراراته السياسية. بل أن تقديم الولاء الديني على الولاء الوطني يهدد الأمن والسلم إبان الأزمات السياسية. وقد يمهّد لتمدد القوى الأجنبية التي تتحرك تحت غطاء ديني. إن أحد خصائص المجتمعات الحديثة وجود روح وطنية تفرض على الفرد والمجتمع التزاما كاملا بالقوانين والأنظمة والقرارات، ورقابة ذاتية تحول دون مخالفتها. بينما تتوقف شرعية القانون بالنسبة للشعوب المرتهنة في إرادتها للفقيه ورجل الدين، على رأي الفقيه، فيلتزم بها الفرد، لا بدافع وطني، بل امتثالا لفتواه، لذا لا يتردد بمخالفتها، واستباحة ثروات وطنه، حينما يجد مبررا فقهيا، ولو ضمن عناوين عامة، كـ(غصبية السلطة)، (أموال مجهولة المالك) وغيرهما، مما يعزز الشكوك حول ولائه الوطني.
كما أكد الغرباوي في هذا الحوار أنه ما كان للفقيه أن يحقق مركزيته ويحتكر سلطته لولا تداخل الديني بالسياسي، والمقدّس بغير المقدس، والإلهي بالبشري، فالتبس على الناس التمييز بين أحكام الشريعة وأحكام الفقه، التي هي اجتهادات ووجهات نظر، وفهم للنصوص المقدسة، وقراءة تتأثر بقبلياته ومرجعياته وثقافته وبيئته ومصالحه. فتسبب انعدام الفواصل بين المتعالي والمحايث في تعميق مركزية الفقيه وفرض سلطته، باعتبارها تجلٍ لسلطة الدين أو سلطة الشريعة التي هي سلطة إلهية، فترى المكلّف هلعا يخشى مخالفة الفقيه حتى وهو يستهزئ بعقله، ويسلب إنسانيته. فهيمنة الفقيه التفصيلية تركت تداعيات خطيرة، نشير لها لاحقا. تداعيات لا يمكن تداركها ما لم نتحرَ أولاً مدى صدقيته وحدود شرعيته. وما لم نتقصَ جميع العوامل التاريخية والسياسية والطائفية التي ساعدت على تعضيد مركزيته وفرض سلطته. لذا فالمنهج التاريخي يفرض نفسه لفهم هذه الظاهرة، وكيفية تفكيكها، وإعادة تشكيل وعي عقلاني به. والتحليل سيكون منهجنا لفهم حيثيات شرعيته. فثمة تداخل نروم تفكيكه ونحن نقارب الفقيه كمفهوم وكيان وسلطة وإرادة عليا. ومضمر نبغي اختراقه ضمن سياقاته الفقهية. ومهمّش نستدعيه بين الروايات. ونصوص مستبعدة نبغي استدراجها، ومقدّس ندعو لمساءلة حقيقته. وبخلاصة مكثفة، نسعى للكشف عن مساحة المقدّس وغير المقدس في المنجز الفقهي وفتاوى الفقهاء وسلطتهم الروحية، ليكف المتلقي عن الانقياد والتنازل عن عقله وإرادته تحت وهمّ التقديس. لنفضح ألاعيب الفقه في شرعنة اختصاصه بالفتوى وبأموال المسلمين، وفرض ولايته المطلقة عليهم. ونبحث عن مدى مقولاته التي يتشبث بها كـمقولة: (ما من من واقعة ولله فيها حكم). أو الروايات التي تؤسس لسلطته ومرجعيته. كما ينبغي لنا رصد دوره في تكريس روح العبودية والانقياد على حساب مستقبل الفرد وحريته وسعادته.
فالسؤال المُلحّ: هل الفقيه ضرورة؟ وهل يتوقف على وجوده شيء من الدين ومصير الإنسان؟ ومن أين استمد شرعيته وشرعية سلطته وولايته؟ ومن أضفى صفة القداسة على فتاواه وآرائه؟ وأساسا هل من حقه أن يصف الشيء بالحلية والحرمة أو الجواز وعدم الجواز، ونحن نعلم أن الأحكام توقيفية. أي تتوقف على وجود دليل صريح من الله تعالى؟. وهل صدر ما يؤكد سلطة الفقيه، واحتكاره للحقيقة الفقهية؟. وأسئلة جديرة تمس واقعه، ضمن سياقاته التاريخية والمعرفية. فنبدأ بتفكيك العقل الفقهي لتقصي جذوره، ويقينياته، ومدى تأثره بنظام القيم، ومنظومة الأخلاق التي كانت سائدة قبل وبعد البعثة. فثمة سياق تاريخي مهّد لدوره الخطير يجب مقاربته لفهم الحقيقة.
فمن هو الفقيه؟
الفقيه، بدأ من الصحابة، سليل نظام اجتماعي، يكرّس روح التبعية والانقياد لشيخ القبيلة، ويمنحه سلطات مفتوحة، فهو نظام طبقي بامتياز، يصادر حرية الفرد ويختزل وعيه إلى طاعة مطلقة للقبيلة وشيخها. فهو يلغي خصوصية الفرد، ويمنح الأب / الشيخ ولاية وقيمومة، يعتبره الجميع ضرورة لضمان وجود القبيلة ككيان يخضع الجميع لقوانينه وأعرافه وتقاليده. فثمة تماهٍ تام بين الفرد ومنظومة القيم القبلية، وهناك أخلاق تستبد بوعي الفرد وتلازم سيرورته، تمهّد لقبوله، مهما اختلفت تمظهراته. فالنظام القبلي ساعد لا شعوريا، على قبول النظام الديني، المتمثل بالنبوة آنذاك، حيث فرض الكتاب الكريم للرسول سلطات، أعادت لمنظومة القيم الجاثمة في أعماق الفرد العربي توازنه واستقراره. فثمة ولاية مطلقة للنبي هي ذات ولاية شيخ العشيرة وفقا لنظامها، وكرست روح التبعية والانقياد في نفوس المسلمين، وهو جوهر النظام القبلي. لذا حسمت رواية الأئمة من قريش الموقف السياسي لصالح قريش نهائيا وإلى الأبد بمساعدة قيم النظام القبلي، وقد مرّ بنا مفصلا بيان هذا النظام ودوره الخطير في مصادرة القيم الإنسانية والأخلاقية التي تجلت بإقصاء الأنصار من السلطة رغم مكانتهم في الإسلام وعند رسول الله. ولا ميزة للشيعة عن السنة فكلاهما ينشدان نظاما قبليا قائما على قدسية شيخ العشيرة. ويؤمنان بالوراثة نظاما للسلطة والحكم، هذه هي الحقيقة التي يتستر عليها الجميع بواسطة مصفوفة روايات لا يمكنه الاستدلال على صحة صدورها، أو يلزم منها الدور، فتفقد قيمتها الاستدلالية.
فالفقيه يحمل في أعماقه نواة النظام القبلي، ويقوم بتعزيزه لا شعوريا بعد اكتسابه صفة دينية وقدسية. وطبيعة النظام القبلي نظام عبودي، سيّد يخطط ويأمر، وعبد يتلقى وينفّذ. وكلاهما لا يحقق وجوده إلا من خلال الآخر، فيكون بالنسبة له ضرورة يتوقف عليها وجوده وتحققه خارجا، بمعنى رسم حدوده من خلال وعيه ومشاعره. لا من خلال كينونته. فلا يوجد صراع طبقي، ولا توجد إمكانية للثورة على أساسه، لتوقف تحقق وجوده على الآخر / السيد / الشيخ. فأغلب قادة الانتفاضات عبر التاريخ الإسلامي شخصيات قبلية قوية، لا تنتمي لطبقة العبيد. ولا أقصد بالعبيد العبودية الظاهرة أو الرق، وإنما أقصد به روحا ووعيا ونظاما أخلاقيا جاثما في أعماق الفرد، ومهيمنا على العقل الجمعي. فلا وجود لقاعدة (ما من واقعة إلا ولله فيها حكم) فعلا، بل الأحكام محدودة، غير أن متطلبات النظام القبلي يستدعي الاستغراق في التشريع، لضبط سلوك الفرد، والإمساك بوعيه، مع تعزيز مكانة الشيخ / الخليفة / الإمام / السلطان / الفقيه. وبالتالي فدراسة جذور الوعي لدى الفقيه، وتحديد منحدراته يساعد على فهم سيرورة سلطته. فالدين الجديد استبدل الاسماء من شيخ القبيلة إلى نبي / خليفة / إمام / فقيه. وهذا قد لا يكون واقعا بالنسبة للنبي، لكنه استقر في وعي الناس، أن سلطة النبي هي سلطة شيخ القبيلة زائدا قدسية إلهية وأسطورية. لأن معنى الشيخ في الوعي الجمعي، هو صاحب السلطة، المتسلط، الذي يحتكر الامتيازات بفعل خصائصه العنصرية، فهو من طينة أخرى، ومن أقوام وسلالات بشرية خلقوا ليكونوا أسيادا على العالمين، وبهذا المنطق خضعت جميع القبائل لسلطة قريش، وتسيد رجالها على مقدرات المسلمين، بذات السلطة هيمنة الخلافة الراشدة ومن بعدها سلطة الخلفاء في الدولتين الأموية والعباسية، ولما وصلت النوبة للسلطة العثمانية استعانت بالفقيه ومنصب مشيخة الإسلام. ولعل هدف الآية الآتية تذكير الشخص العربي بقيمه التي على أساسها منح شيخ قبيلته ولاء مطلقا، فأرادت أن تقول له أن الأنبياء أحق بالولاء إذا كنت تنظر لنقاء العنصر البشري: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
اشكالية الاجتهاد
الاجتهاد إشكالية قديمة، حيث اختلفوا حول شعريته، بين رفض مطلق لا يحيد عن ظواهر النصوص والروايات، ويعتبر الاجتهاد تدخّلا بشريا في شؤون الشريعة الإلهية. وربما ثمة أسباب أعمق وراء الموقف السلبي من الاجتهاد بشكل عام، والاصرار على التمسك بظواهر النصوص. وربما كانت الخشية من توظيف الاجتهاد لمصالح سياسية، وشرعنة ممارسات غير سليمة وراء الموقف الرافض له. وهو احتمال وجيه لولا أن مصدر الروايات التي تحصنت بها السلطة، وألبت ضد المعارضة، هي روايات أصحاب الحديث. لذا ربما الخوف من توظيف الاجتهاد من قبل المعارضة وراء التحفظ منه، وهو احتمال ممكن جدا، ومقبول وفقا لأحداث التاريخ. ولا استبعد ترهل الوعي الديني ورثاثته، كعامل إضافي وراء رفضه.
وهناك من دافع عنه بعنوان: جواز الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، بناء على مقدمات توارت عن النقد والمراجعة، وغدت مسلّمات يتعامل معها الفقيه والمتلقي. فاستدعاء تلك المقدمات ونقدها لتحديد مدى شرعيتها وبداهتها، كفيل ببيان الحقيقة. غير أن هذا الاتجاه كان وما يزال وراء الثراء الفقهي الكبير، حتى بات علم الفقه يمثّل، كالفلسفة والكلام والتصوف وباقي العلوم، معلما أساسا من معالم تراث المسلمين، الممتد بموازاة تاريخهم السياسي. والاجتهاد أحد مظاهر استخدام العقل في الحضارة الإسلامية، بعد توظيف مقولات المنطق الأرسطي ضمن عمليات استنباط الحكم الشرعي، كالقياس بجميع أشكاله وأقسام القضايا والنسب الأربعة، وغيرها من مباحث الألفاظ، والحدود والتعريفات وضوابط تمييز المفاهيم، إضافة إلى تأثير المقولات الفلسفية على منهج الفقه لدى بعض الفقهاء كأنواع العلل والمقولات العشرة. وهي مقولات عقلية بامتياز. غير أن ضخامة المنجز الفقهي لا تبرر عدم مساءلته ونقد مقولاته، خاصة وقد تفاقمت الفتوى حداً بلغت فتاوى الفقيه الشهير ابن تيمية أكثر من ثلاثين جزءا. وبلغ حد استهزاء الفقيه بالإنسان وعقله أن يكتب الشيخ أبي عمر دبيان بن محمد الدبيان موسوعة أحكام الطهارة 13 جزءا!!!. وهل هناك من لا يعرف كيف يغتسل او يغسل يديه؟ لكنه إذلال للمكلف وضمان عدم تمرّده. هو منطق العبودية الذي يتلبس الفقيه وهو يمارس عملية الاستنباط. وليست باقي المذاهب الإسلامية أقل انتهاكا لعقل الإنسان وحريته. لأن الهدف الأساس للفقه الإمساك بسلوك الفرد، وتحديد مسارات الوعي، لضمان خضوعه لمطلق إرادته في السلطة أو المعارضة، وعدم التمرّد عليه.
اللحظة التاريخية
ثمة ثوابت ونهائيات تخلق أجواء نفسية، تؤثر في وعي الفرد، وتكرّس روح التبعية والانقياد تتطلب نقدا علميا للكشف عن صدقيتها، وحجية أدلتها، ومدى مطابقتها للواقع. وهذا يتطلب عودة لدراسة مسار التطور التاريخي للاجتهاد، كممارسة علمية، مادتها الأولى الآيات والروايات، وجملة من قواعد أصول الفقه.
فوفاة الرسول تعتبر لحظة حاسمة بين زمنين: زمن النص وفهم النص. زمن التلقي المباشر والتفسير ومن ثم التأويل. حيث كان النبي يتلو ما يوحى له بلسانهم ولغتهم وثقافتهم، فيدركون قوله ويمتثلون أوامره، إلا بحدود ما هو غيب يشدهم لمعرفة أسراره، أو مصداق يلتبس عليهم يتحرون حقيقته. وربما إجمال يحتاج لتفصيل، أو غموض يتطلب بيانا. فلا توجد معاناة في فهم النصوص، بل لا حاجة لها والنبي ما ثل أمامهم، يزيدهم إطمئنانا من خلال سيرته وسلوكه. فالصحابة لهم ميزة المباشرة مع النبي، وهذا لا يلغي شروط فهم النص، ودور قبليات المتلقي وثقافته، لذا لم يكونوا على مستوى واحد معرفيا، وثمة تفاوت واضح بينهم. لكن بشكل عام لم تشهد الحقبة الأولى بعد وفاة النبي خلافات كثيرة حول فهم الكتاب، وقرآنية بعض آياته، رغم أن خطورة هذا القليل قد انعكست فيما بعد وبشكل تدريجي على تاريخ المسلمين. فكانت سُنة الصحابة أول نسخة رسمية للدين وللكتاب الكريم، تحولت تدريجيا إلى مقدّس، تضبط حركة التفسير والتأويل، وتؤاخذ من يخالفها ويتمرد عليها. وبكلمة أدق: لقد حجبت آراءهم النصوص التأسيسية، وحلت محلها كمرجعية تفسيرية وتأويلية نهائية، بواسطتها تُقرأ آيات الكتاب وتفهم مضامينه. وتحوّلت إلى نهائيات ويقينات صارمة، غدت سلطة تقمع الرأي الآخر، وتمسك بوعي المسلمين وسلوكهم. وما كان للنسخة الرسمية ديمومة البقاء لولا التنظير الفقهي والأصولي، ولو بصيغ أولية بسيطة، قبل تبلورها واكتسابها حصانة وقدسية، عندما بدأ مفهوم الشرعية يتمدد ليشمل سُنة الصحابة، على أختلاف مباني الفقهاء. وبالتالي فإن شرعية النسخة الرسمية للدين، التي أسس لها الصحابة، واتخذها الفقهاء مرجعية نهائية، مرهونة بمدى صدقيتها، ومطابقتها للواقع. فهل تكفي الصُحبة لشرعية سُنة الصحابة؟ أو هل تفيد الآيات تزكية مطلقة لهم؟ أم أن الأمر مرهون بالاستقامة؟ مرَّ الكلام تفصيلا حول هذا الموضوع، ومناقشة كافة الأدلة التي تُطرح في المقام. وخلاصتها، نفي التزكية المطلقة، ويبقى الشخص رهن عمله وسلوكه، لا فرق بين مَن مات في زمن البعثة أو بعدها، فجميع الصحابة مشمول بشرط الاستقامة.
ثم حتى لو ثبتت التزكية فغاية ما تثبت استقامتهم وتقواهم، ولا تُعنى بعلمهم وفهمهم للدين والكتاب الكريم، ولا تجعل من أقوالهم وسُنتهم حجة مطلقة، لأنها قضية موضوعية، تتوقف حجيتها على وجود دليل صريح، وهو منتفٍ بالضرورة. فالباحث حر في مناقشة سُنتهم، ومحاكمة مواقفهم، والبحث عن مصادر شرعيتها. فلا معنى للإلتزام بمرجعيات لا دليل عليها. فالسؤال عن شرعية النصوص الثانوية سؤال عن حقيقتها وسلطتها قياسا بالنصوص الأولية. وماذا تمثّل بالنسبة لها إذا استبعدنا الوضع والإضافة؟ هل هي: فَهمٌ أم تفسير أم تأويل أم قراءة؟. وإذا كانت هذه الأسئلة غير واضحة جدا بالنسبة لعصر الخلفاء الراشدين، فإنها جلية في نهايته، وبداية عصر التابعين ثم عصر الفقهاء. فسُنة الصحابة لدى المذاهب السنية، وسُنة الأئمة لدى المذاهب الشيعية، تعتبر حجة. بل عند فقهاء المذهب الجعفري الإثني عشري، تخصص وتقيّد آيات الكتاب، مثلها مثل السُنة النبوية.
لقد كان الفقيه هو المتصدي لتطوير عملية فهم وتفسير الكتاب والسنة (النصوص التأسيسية للفهم الديني). ابتداء من مراحله الأولى، حينما اقتصر دوره على ضبط آيات الكتاب وتفسيرها، والدفاع عنها من خلال مروياته عن الرسول، حتى غدا فقيها يمارس عملية استنباط الحكم الشرعي، ويصدر أحكاما وفتاوى شرعية، ثم تطورت سلطته ليكون وليا للمسلمين يتحكم بمصيرهم الديني، وأصبحت آراؤه حدا فاصلا بين الإيمان والكفر. فما هي مبررات سلطته ضمن سياق الاجتهاد كظاهرة تاريخية؟. هذا السؤال سيفتح لنا آفاقا جديدة لفهم مصدر شرعية سلطته الدينية. فربما لا توجد أدلة على ذلك سوى مفهوم الاجتهاد، الذي قد يمارس دوره في فرض حقيقته، بعيدا عن مصداقيته. وسوى منظومة القيم القبلية التي تحث على هيمنة التشريع ومصادرة الحريات، لضبط سلوكيات المجتمع وإخضاعها لنظام معرفي موّحد يضمن ما يصبو له الفقيه والسياسي، في السلطة أو المعارضة.

شارك