الإحياء والإصلاح في الإسلام: دراسة في الأصولية الإسلامية

الأحد 17/نوفمبر/2019 - 10:33 ص
طباعة الإحياء والإصلاح حسام الحداد
 
الكتاب: الإحياء والإصلاح في الإسلام:  دراسة في الأصولية الإسلامية
الكاتب: فضل الرحمن مالك
ترجمة: مروان الرشيد
الناشر: جداول للنشر والترجمة والتوزيع، بيروت
لم يحظ المفكر الباكستاني فضل الرحمن مالك (1919-1988)، بالحضور الذي يستحقه في العالم العربي بسبب تأخر ترجمة العديد من كتبه إلى العربية. وهو أحد أبرز المتخصصين في دراسة القرآن والتراث الإسلامي، والذي تركت أفكاره وخلاصاته تأثيراً في الأوساط العلمية المعنية بقضايا الإسلام في الغرب. 
من بين أهم مؤلفاته التي ترجمت للعربية: "المسائل الكبرى في القرآن الكريم"، "الإسلام"، والذي ألفه عام 1966، قدم فيه عرضاً تحليلياً مكثفاً، لا يخلو من النقد، لنشأة وتطور معارف الدين الإسلامي، وكيفية تمثل المسلمين لهذه المعارف في أربعة عشر قرناً. 
كغيره من المفكرين تعرض فضل الرحمن إلى مضايقات من قبل الإسلاميين المتطرفين بسبب المسائل الحداثية التي طرحها في فهم الإسلام والمشاكل التي تعاني منها بلاده، ومن هذه المسائل موقفه من الحديث، إذ أكد ما خلصت إليه الدراسات الحديثة، بأن جزءاً كبيراً من الأحاديث لا يمكن التعويل عليها تاريخياً. بعد سلسلة المواقف التقدمية التي اتخذها إزاء قوانين الأسرة والربا وبعض القضايا الاجتماعية والدينية، شنّ عليه المتطرفون وعلى رأسهم احتشام الحق، الداعية الشعبي في كراتشي، وقبله أبو الأعلى المودودي حرباً أُجبر على إثرها على ترك باكستان بعد تأسيس رؤيته الجديدة في فهم الوحي القرآني التي نتج عنها كتابه "الإسلام"، وهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية وقام بالتدريس في جامعاتها واطلع على المناهج الجديدة في العلوم الإنسانية والاجتماعية مما أسهم إسهاماً كبيراً في تكوينه علمياً ومعرفياً.
وفي كتابه الذي بين أيدينا يتناول فضل الرحمن مالك، كيفية تشكل الفرق والمذاهب والطوائف والحركات الصوفية في الإسلام، بدءاً من التاريخ الإسلامي المبكّر مروراً بالقرون الوسطى وصولاً إلى الفكر الإصلاحي الهندي في القرن السابع عشر الميلادي. صدر الكتاب بالإنجليزية عام 1999 بعد وفاته، ولم يستكمل العمل عليه بسبب تدهور حالته الصحية.
وتعد غاية الكتاب معاينة حالة ظهور الفرق الإسلامية في إطار السجالات الدينية والفقهية والسياسية التي رافقتها. حيث يرى فضل الرحمن أن التسنُن حين اكتسب وعيه بذاته، وصار له وجود مُدرِك، كان قد مر بتغيرات جذرية، بل مسخ إزاء الحالة الأصلية وتعاليم القرآن. وبناءً على هذه الخلاصة الأولى يحاول إبراز العوامل المسؤولة عن هذا المسخ، لأجل تبيان طبيعته، ساعياً إلى إظهار المحاولات التاريخية المختلفة، التي أجريت في العصور الوسطى، لتجديد هذه العقيدة، في مسعى لاسترداد الروح الأصلية للإسلام. ولا تنحصر قراءة فضل الرحمن بالمذهب السُنّي إنما يولي "نشوء التشيُّع الاهتمام الذي يستحقه، لأهميته ومعناه الجوهري، ولعلاقته بالجماعة السُنيّة الكبرى".
ويخلص فضل الرحمن إلى ان نمو المذهب السني في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، كما عرّفه أبو الحسن الأشعري (874-936م)، وعمّ الإسلام الوسيط، وبدرجة أقل معاصره أبو منصور الماتريدي (853-944م)، يمكن النظر إليه على أنه ذروة عملية ردّ فعل على الاعتزال، وإلى حد ما على التشيُّع. لقد ترافق تشكُّل المذاهب الإسلامية مع نشوء الأفكار والعقائد المتعلقة بالصراعات التأويلية على فهم الدين عبر إيجاد جذورها في الإسلام، أو في المؤثرات الخارجية؛ فبرز التنافس التأويلي الحاد بين العقيدة القدرية والعقيدة الجبرية التي تركت تأثيراً واضحاً في مجمل المكوِّنات الدينية.
ويؤكد فضل الرحمن في كتابه أن الخوارج كانوا أول مجموعة في تاريخ الإسلام قادوا ثورة على أسس دينية فكرية، وهم "أول من بدأ بالتدبُّر الديني والكلامي"، وكان قولهم الأول، أن "مرتكب الكبيرة، ما لم يتب، فهو كافر". ومع انشقاق الخوارج وغلو بعض قادتهم ظهرت آراء شديدة التطرف، حيث يكشف عن حالة مثيرة جرت في أوساط الخوارج، تاريخ وقوعها غير معروف على التأكيد، ولكن على الأرجح حصلت في ستينيات القرن الأول الهجري؛ ومفادها أن إباضياً، هو إبراهيم، أصدر فتوى تُجيز بيع الجواري في أراضي الكفار، أي المسلمين من غير الخوارج. وجُل فرق الخوارج تقيم تفريقاً بين الكفار المسلمين والكفار غير المسلمين من بعض الأوجه. ورفض رجل يدعى ميمون هذه الفتوى، وتبرأ من إبراهيم، بينما اختار بعضهم التوقف. وساند علماء الإباضية إبراهيم وقضوا باستتابة ميمون والمتوقفة والبراءة من امرأة كانت من المتوقفة لكن ماتت قبل وصول الفتوى».
كما يناقش فضل الرحمن النهج الذي سار عليه الإرجاء في انتقاله إلى مذهب عقائدي في الإسلام، في الوقت الذي كانت تحتدم فيه الأفكار حول عقيدة القدر. وهنا يلاحظ أن الخوارج لم يكونوا قدريين، بل كان أكثرهم يعتقد أن الله هو خالق أفعال الإنسان. وفي الواقع فإن الأشعري لا يذكر من بين الخوارج قاطبة على مذهب القدر إلا فرقتين هما العجاردة، أتباع عبدالكريم عجرد، والميمونة، أتباع ميمون بن خالد. وكلا الرجلين ظهر بعد ظهور القدرية في القسم الأخير من القرن الأول.
ثم يناقش فضل الرحمن تشكل المذاهب السُنية في الإسلام في سياق الجدال مع مقولات المعتزلة الرئيسة، والتطورات التي أعقبت تبني الخليفة العباسي المأمون (786-833م) العقيدة المعتزلية عقيدة للدولة، واضطهاد الإمام أحمد بن حنبل (780-855م) لعدم قبوله بخلق القرآن. حيث كانت ردة فعل أبي الحسن الأشعري بالمبالغة في إسقاط التدبير والإرادة الحرة عن الإنسان، فعنده "لا يمكن نسب الفعل إلى البشر إلاّ بالمجاز. فالله خلق الأفعال جميعاً وليس للإنسان إلا أن يكسبها".
ويؤكد فضل الرحمن ان تطور المنطق الجبري للأشعرية الذي قارع عقلانية المعتزلة، أفضى إلى نتيجتين: الأولى: القول بأن العقل المجرد لا يهب واجباً، أو أن العقل ليس بشارع: مسلمة فقهية عند جميع الفقهاء؛ والثانية: هيمنته على معاقل الإسلام المحافظ حتى القرن الحادي والعشرين. والحال، هل يعني ذلك أن الأشعرية أسقطت التدبير العقلي كلياً ولم تعرف أي تطور بعد وفاة مؤسسها؟ حيث يقول: "إن مذهب الأشعرية في القدر ليس واحداً، وقد تطور المذهب من الأشعري ومروراً بالباقلاني إلى الجويني، والذي استقر عليه مذهبهم، بعد إثبات علم الله تعالى وكتابته، وقدرته وإرادته وخلقه، أن العباد لهم قدرة وإرادة في الفعل، لكنها غير مؤثرة فيه، بل الله تبارك وتعالى هو الخالق لها وقدرته هي المؤثرة وحدها، وإذا كانت قدرة الإنسان ليس لها تأثير بحال، فهي قدرة غير مؤثرة، فحقيقة مذهب الأشعرية هو الجبر، إذ إن القدرة غير المؤثرة كلا قدرة، ويسمي الأشعرية مذهبهم هذا بمذهب الجبر المتوسط، أي الجبر بواسطة الاختيار".
ويتناول فضل الرحمن الشيعة الاثني عشرية من ثلاث زوايا: التشكل والتطور والتأثر بالفرق الكلامية الجبرية والقدرية. فيما يتعلق بدور الإنسان والإرادة الحرة تطور الموقف العقائدي الشيعي على مراحل حيث يقول: "فالرؤية العامة (العائدة إلى الإمام جعفر الصادق) التي برزت هي أن بين الله والبشر عملية موازية في تقرير الفعل". ولكن عقيدة القدرة اتخذت منحى جديداً مع ابن بابويه القمي (ت. 939م) ومع إدخال الفلسفة على اللاهوت الشيعي في القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، والذي مال لاحقاً تحت تأثير الاعتزال إلى منح الاستقلال للفاعل الإنساني.
ومن ثم يناقش فضل الرحمن التسنّن والتشيُّع وموقعهما من الأيديولوجيا السياسية؛ أي الموقف من السياسة والسلطة السياسية والخروج على الحاكم، آخذاً بالاعتبار أهم التنظيرات التي طاولت هذه المسائل الحيوية في تاريخ الإسلام.
حيث اتجه التسنّن إلى واجب الولاء للحاكم توجساً من تجربة الحروب الأهلية، وما جلبته من فوضى مما أنتج نمطاً من أنماط الخمول السياسي، وأدى إلى ضمور المعارضات السياسية؛ كل ذلك مع العمل على إنماء ذخيرة واسعة متكاملة من المفاهيم والعقائد فيقول: "من خلال آلة الحديث ثم بواسطة النظريات السياسية، لضمان أن الطاعة للحاكم والإذعان السياسي يكون عرفاً مؤسساً، دون أن نغفل عن عقيدة الإجماع أو توافق الأمة، التي في معرض التطورات في النظرية السياسية، صارت تعني إجماع أكثرية الأمة لا الأمة كلها". أما الشيعة، وبدءاً من الإمام جعفر الصادق (702-765م)، ظهر التوافق مع مبدأ الإرجاء السياسي السني ومع مقولة حرمة العمل السياسي ضد الدولة حتى عودة الإمام الغائب؛ غير أن الفكر السياسي الشيعي الذي عرف تاريخاً غنياً من المعارضات طور نظرياته، فلا نظير عنده لإطاعة الحاكم ولو كان طاغياً ومتعدياً على الشرع وغاصباً للسلطة. إن المنحى الذي اتخذه الفكر السياسي الشيعي آل في التاريخ الحديث والمعاصر وفي ضوء سعة الجدال إلى تأطير نظرية ولاية الفقيه التي انتهت إلى استبدادية دينية واحدية.
كما يناقش فضل الرحمن التصوف ضمن سياق التأويلات الصوفية حول العالم والإنسان والله، مركزاً على القالب العام الذي حدده المتصوفة إزاء الشريعة التقليدية فيقول: "تمرد المتصوفة على الشريعة التقليدية متولد على نحو رئيس، ولا شك، من حقيقة أن النُظم التقليدية الفقهية والعقائدية قد صارت شكلية متصلبة ومُنبتة عن منابع الحياة الداخلية. لكن لا شك أيضاً أن الشريعة يجب أن تكون جوهرية، باعتبار أن مقصد الإسلام الرئيس متوجه لتأسيس نظام اجتماعي قائم على الأخلاق. لم يخفف من غلواء معارضة الروحانية الصوفية للشريعة -إلى حد ما- إلا تعاليم الغزالي ومن جاء بعده من المتصوفين التقليديين، كأصحاب الطريقتين النقشبندية والخلوتية".
ويتناول فضل الرحمن في الفصل الخامس، الفكر الإصلاحي في الهند الذي قاده بعص أعلام التصوف من بينهم الشيخ أحمد السرهندي (1564-1624)، وأحمد بن عبد الرحمن (1702-1762) المعروف بـــ «شاه ولي الله»، حيث تتمثل مساهمة السرهندي في الإصلاح الإسلامي في جهوده لوضع العقيدة والممارسات الصوفية في كنف الشريعة، والدفاع عن مقام النبوة ضد مقام الولاية، التي استبدلت النبوة الصوفية الشعبية. عمل على إحياء الإسلام التقليدي، ساعياً إلى ربط الطريقة الصوفية بالشريعة، وإدخال التصوف في كنف الشريعة.
فقد جادل السرهندي الموصوف بأنه «مُجدد الألف الثانية» محي الدين بن عربي (1165-1240) بشأن الصراع بين الخير والشر: "في سعي ابن عربي المُتأجج لا مكان للشر الحقيقي. الشر ظاهري فقط، ولا حقيقة له. حتى الشيطان في حقيقته خير، إذ إنه أدى وظيفته كما حُددت له في الخطة الإلهية. ويفسر (الشيخ الأكبر) التعارض بين الخير والشر بالأمواج التي تعلو في البحر وتتلاطم ثم تعود إلى البحر نفسه. فسعى السرهندي لإعادة الاعتبار لحقيقة الصراع بين الخير والشر. أخذ نظرية التنزُّل الإلهي عن ابن عربي، لكن بدلاً من  النظر إلى جواهر الأحداث باعتبارها انعكاساً للصفات الإلهية، طرح تفسيراً آخر: هو أن جواهر الأحداث على النقيض من الصفات الإلهية. فلقد اعتبر السرهندي هذه نفياً أو عدماً. ولذا فأغلبية الكائنات، وأعلاها الشيطان، يوجد فيه ظلال من الصفات الإلهية، وهكذا يأتي العالم الزماني – المكاني إلى الوجود. وتساءل فضل الرحمن لماذا تجري هذه الدراما؟ عندما يُلقي الله صفاته على هذه المعدومات، فهو يريد أن يجعل منها موجودات، ويريد أن يُحيل الشر إلى خير. وليس في الخطة الإلهية تدمير الشر، بل تحويله إلى خير». 

شارك