الأزمة الليبية: انفلات الشرعيات ومأزق الدولة

الأحد 11/أغسطس/2019 - 12:02 م
طباعة الأزمة الليبية: انفلات حسام الحداد
 
إنَ مرحلة بداية التّسعينيات الّتي حملت سقوط المعسكر الاشتراكي وأعلنت نهاية الحرب الرّوسية في أفغانستان، كانت التّربة الحاضنة لبروز الإسلام الرّاديكاليّ أو الحركات الإسلامية الإرهابية أو التعصب الديني. كما تجدر الإشارة إلى الإرث التاريخي العقديّ الذي خلق أرضية مناسبة لاستنبات الفكر الجهاديّ في ليبيا، وخصوصاً في مدن الشرق، زادت من كل ذلك البنية القبلية تمكنا ورسوخا، وتمثّلت في الحركة السنوسية الإصلاحية، ثمّ الفكرالإخواني القادم من مصر.
ويعتبر الفكر الإخواني الّذي انتشر في ليبيا، على الرغم من مواجهة السّلطة اللّيبية له في بداياته، منبتا عزّز تقبّل التأويلات الجديدة البدعية لآيات من القرآن انتزعت من سياقها النّصيّ انتزاعا، ووجدت لها تمكينا في النّفوس المشدودة إلى الماضي الذّهبيّ. وليس غريبا أن تكون الجماعات الجهادية الأولى الّتي اختارت سبيل المواجهة المسلّحة للسلطة، وتمثّلت في الرّعيل الأوّل للجماعة اللّيبية المقاتلة، قد تربّت على هذه الأفكار واتّخذتها العقيدة الصّحيحة للدّين الإسلاميّ
هذا ما يناقشه الكتاب الذي نطرحه اليوم والصادر عن مركز المسبار للدراسات بعنوان "ليبيا (2011-2016) داعش _الجوار _ المصالحة" حيث يستخلص الباحث التونسي عبدالواحد اليحياوي أن الصراع في ليبيا معقد، وعلى الرغم من تعدد الشرعيات التي تستند إليها المجموعات المتناحرة مثل: الثورة، والسلاح، والدين، والجغرافيا، والقبيلة، فإن جوهر الصراع سياسي على السلطة والثروة. هذا الصراع يتم خارج مرجعية الدولة، وهو يجعلها مهددة بالانهيار؛ لأنه يستند إلى شرعيات منافسة لها، تعود أساساً -سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا- إلى ما قبل الدولة. كما أن الإرث السياسي لدولة القذافي، والإسلام السياسي، مثلا أهم العوائق أمام تجربة الانتقال الديمقراطي. ومثل أغلب التجارب، كانت ممارسة الإسلام السياسي للسلطة مخيبة للآمال، وهو ما تأكد من مشاركة الإسلاميين في الحكم في ليبيا، بل والسيطرة على السلطة في تحالف مع قوى عسكرية مهيمنة على الميدان، وهو ما يؤكد وجوب قيام هذا التيار بمراجعات عميقة. يرى الباحث أيضا أن الإرهاب والتشدد الديني حاولا احتلال الحيز السياسي العام باستعمال العنف السياسي، ولكنه فشل بسبب عدم وجود امتداد مجتمعي له، وخاصة الغطاء القبلي، وأن الانقسام الليبي الداخلي تحول إلى جزء من الانقسام الإقليمي، وأصبح محكوما بسياسة المحاور التي ميزت -ولا تزال- السياسة الخارجية لدول الجوار، متحالفة مع قوى إقليمية ودولية. من جانبه، فإن التمدد العسكري لتنظيم الدولة داعش في ليبيا، أعاد القوى الدولية بقوة إلى ساحة الصراع في ليبيا بفرض مسار سياسي خارجي، والتهديد بالتدخل العسكري ونزع أي شرعية عن جميع القوى الداخلية خارج اتفاق الصخيرات، ومع أن حكومة السراج المدعومة دوليا تحقق بعض النجاحات، لكنها نجاحات محدودة وهشة نظرا لحدة الاستقطاب بين قوى الداخل والتدخل الأجنبي، ووجود تنظيمات متشددة أساساً في تنظيم داعش. الصراع داخل ليبيا يكشف بوضوح الوضع الإشكالي للدولة، من حيث عدم اكتمال تطورها التاريخي، وتحولها إلى مرجعية سياسية وقيمية للقوى المعبرة عن المجتمع الليبي. إن المسار السياسي والدستوري للانتقال الديمقراطي سيتطلب الكثير من الجهد والوقت، في ظل انفلات شرعيات منافسة بطبيعتها للدولة، وعلاقات تقليدية موروثة عن زمن ما قبل الدولة تتطلب تفكيكا سوسيولوجيا. وعلى الرغم من تعقيدات الأزمة الليبية، فإنها في النهاية تعبر عن حراك سياسي واجتماعي، يتميز بمنطقية تاريخية مستمدة من صعوبة المراحل الانتقالية.
ويؤكد الباحث والأكاديمي التونسي مهدي عبدالجواد أن مقومات نجاح ليبيا في الانتقال نحو دولة مدنية قائمة على المواطنة والديمقراطية، تبدو الأسهل في المنطقة. فعكس بقية دول الجوار، لا تعيش ليبيا في الحقيقة استقطاباً شديداً بين التيار الوطني “الليبرالي” والتيار الإسلامي. إذ لا يملك “الإسلاميون” أدنى مقومات النجاح في ليبيا، ولا يستطيعون الهيمنة على المجتمع الليبي، لأن الليبيين مسلمون أصلاء، ولا مكان لإغوائهم بمقولة “الإسلام في خطر” التي بنى عليها الإخوان ومشتقاتهم كل رؤيتهم، والتي تستوجب آليا مقولة “الإسلام هو الحل”، فالليبيون يعرفون جيدا -دون الحاجة للإسلام السياسي- أن الإسلام محميّ وأنه مكون أساسي في هويتهم، وأنه لا يتعارض مع حلمهم بالديمقراطية. 
وثاني العلامات على توافر كل شروط نجاح المشروع الوطني الديمقراطي في ليبيا، هو أن المعرقل الرئيس له هو انتشار السلاح ولغة العنف، إذ إن بسط الدولة الليبية سلطتها على الأرض وتحجيم دور الميلشيات في مرحلة أولى، وجمع السلاح واحتكاره في مرحلة ثانية، سيكون المدخل لإطلاق مسار ديمقراطي فعلي سريع. 
وثالث هذه العلامات، يكمن في قوة القبيلة الليبية، التي تُشكّل -في نظر الباحث- جدار الصد الرئيس ضد تيارات الإسلام السياسي، والعمود الفقري للمشروع الوطني الليبي، ولن يتسنى ذلك إلا بإطلاق مصالحة وطنية حقيقية، وضبط معالم نظام سياسي تشاركي، قائم على الديمقراطية المحلية، الأمر الذي يمنح البلدات والمدن والمحليات ومن ثمة القبائل، سلطة محلية في إدارة شؤونها، وفي صياغة برامجها التنموية الخصوصية. إن هذه الديمقراطية المحلية التشاركية، ستُعيد للقبيلة دورها ولكن داخل مشروع وطني، في ليبيا موحّدة وعصرية وديمقراطية. 
ورابع هذه العلامات، عطش الليبيين إلى التجربة الديمقراطية. فشباب ليبيا ونساؤها، هما الأكثر حاجة للديمقراطية، والأكثر تحمّساً للمشاركة السياسية من نظرائهما في دول الجوار، لأنهما يطمحان إلى عملية تحدٍ وطني حضاري حقيقي. وهو ما لا يتحقق إلا بمشروع وطني وديمقراطي لليبيا.
كما يرى الباحث التونسي شعبان العبيدي أن المقاربة الموضوعية للحركات الجهادية المتطرفة تشترط النّظر إليها من زوايا مختلفة بعيدة من المواقف الأيديولوجية. وذلك بوضعها ضمن سياقها الدّاخلي والإقليمي والعالمي. وتنزيلها -من جهة ثانية- ضمن مسار تاريخية تحوَلات المجتمع اللَيبي، لما لهذا ا
لما لهذا المجتمع من خصوصيات ومعابر عقائدية تقليدية وقبلية، وسياسية مثلت مساعداً خلق تربة مناسبة لتمركز التَيارات الإرهابية، ساعدتها على التّنامي والتوطّن: الشّرط الدّاخلي والإقليمي والعالمي من جهة، وآثار تدخّل قوّات الحلف الأطلسيّ في إسقاط نظام القذّافي، وما خلّفه من فراغ سياسيّ في بلد يفتقد لمؤسّسات سياسية ومدنية مترسّخة في عقول المواطنين وقلوبهم. إضافة إلى ما جرّته الضّربات المكثّفة الغربية والرّوسية على معاقل “داعش” و”جبهة النّصرة” من تزايد الهجرة القسرية والمنظّمة من زعماء القاعدة و”داعش” إلى ليبيا. ويمكن أن تُردّ هذه السّياقات إلى: سياق تاريخيّ عقائديّ وسياق إقليميّ وسياق عالميّ.
ليبيا: الملاذ البديل للجهاديين
يوفر الصراع المسلح اليوم في ليبيا بين الميلشيات، فضلاً عن غياب سلطة مركزية قوية، كل شروط “الملاذ البديل” للجهاديين عموماً، ولأنصار تنظيم داعش والمبايعين له في منطقة المغرب العربي وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى خصوصاً.
 تزداد أهمية “الملاذ الليبي” الجديد لـ”داعش”، والجماعات الجهادية الأخرى، أمام سيناريو تشظي تنظيم داعش في معاقله المشرقية، وإمكان خروج المقاتلين الأجانب من سوريا والعراق للبحث عن حواضن جديدة.
يشخص الباحث التونسي في الحركات الإسلامية هادي يحمد في دراسته الانتشار الميداني للتنظيمات الجهادية ومعسكرات التدريب والتجنيد في ليبيا، وتتبع مسار النشأة والتحول لهذه التنظيمات التي مكنت الفرع الليبي لـ”داعش” في أواسط سنة 2015 من السيطرة على عديد من المناطق وعلى مدينة سرت، كأول مدينة ترفع فوقها راية العقاب ضمن ما يسمى “ولاية طرابلس”.
تتوافر في ليبيا كل ظروف الملاذ البديل لكل التنظيمات الجهادية وفي مقدمتها “داعش” المهدد بالتشظي في سوريا والعراق نتيجة العمليات العسكرية ضد التنظيم هناك. ولئن بايعت عديد من التنظيمات الجهادية في القوقاز وأفغانستان وسيناء وأفريقيا جنوب الصحراء واليمن دولة البغدادي، فإن الفرع الليبي لـ”داعش” وللظروف والخاصيات التي ذكرناها آنفاً، يمكن أن يشكل في المستقبل ملاذاً جديداً.
النفط الليبي وداعش.. أية علاقة؟
يوضح الباحث والأكاديمي التونسي أعلية علاني أن مسألة تقسيم الثروة النفطية محل جدل بين مختلف التيارات السياسية؛ وقد تمّ إدراج تفاهمات جديدة في الإعلان الدستوري مطلع 2016 تجعل من بنغازي عاصمة النفط، ومن طرابلس العاصمة السياسية. وعلى الرغم من ذلك لم يهدأ الجدل حول توزيع الثروة. فكانت بعض التيارات السياسية والدينية –مثلاً- تسعى إلى وضْع عقبات أمام عناصر النظام القديم لإبعادهم عن أي دور يمكن أن يلعبوه في إدارة ثروة البلاد بسنّ قانون العزل السياسي. ويرى علاني أنّ انخفاض إنتاج النفط في ليبيا لا يعود فقط إلى هجومات “داعش”؛ بل أيضاً إلى عناصر أخرى ذات أبعاد مناطقية وقبلية، أو أبعاد اجتماعية تنموية.
منذ استقرار التنظيم في ليبيا في يناير 2014، في مدينة سرت كان الهدف واضحاً، وهو الاقتراب من حقول النفط، وخصوصاً أنّ منطقة الهلال النفطي لا تبعد كثيراً عن مدينة سرت. وبدأت حملات الكرّ والفر التي نفذتها قوات “داعش” وانتهت في بعض الأحيان بحرق عديد من الخزانات وإتلاف ملايين البراميل من النفط.
وتبقى بارقة الأمل الوحيدة في توجه الليبيين حول حكومة واحدة، وخارطة طريق واحدة تعيد الأمن والنهضة الاقتصادية في بلد الستة ملايين ونصف المليون ساكن، والذي كان من المفروض أن يكون مستوى الدخل الفردي فيه بآلاف الدولارات. لكنه الآن مجبر على دفع فاتورة تدخّل القوى الخارجية، إذا لم يتم الإسراع بإخراج “داعش” من المناطق المحيطة بالنفط ومن كل ليبيا. ويأمل الليبيون أن لا يتم إخراج “داعش” فحسب، بل وكذلك كل التيارات الإرهابية الأخرى، من القاعدة وأنصار الشريعة ومن بقي يتعاون معهم.
إن ليبيا مقبلة على تغييرات جوهرية في مستوى المشهد السياسي والمشهد التنموي؛ وربما تصبح قطبا اقتصاديا قويا يحاكي بعض دول الخليج في نموه الاقتصادي. ويعتقد كثير من المحللين أن الرفاه الاجتماعي والاقتصادي سيسهم بقسط كبير في تقلص الظاهرة الإرهابية، بشرط أن تتخلص ليبيا ولو تدريجيا من تيارات الإسلام الوافد من إخوان وسلفية جهادية. وتعود للإسلام المحلي مكانته، وللخطاب الديني اعتداله ووسطيته، ويتم إقرار خارطة طريق لعودة الأمن وتجريد الميلشيات من السلاح، وبناء مؤسسات اقتصادية صلبة وشفافة، وتخصيص مداخيل النفط  للتنمية والتعليم، لا لشراء السلاح للتقاتل بين الفرقاء الليبيين.
مخاوف انتقال الإرهاب من ليبيا إلى أوروبا
تشير الباحثة التونسية بدرة قعلول إلى أنه خلال السنوات الأخيرة بعد انتشار موجة ما يسمى بالربيع العربي، وانهيار المنظومات الأمنية في عديد البلدان العربية، تمكنت الجماعات الإرهابية من استغلال هذا العامل حتى تنشط حركة تنقل عناصرها عبر مختلف بلدان العالم، خصوصاً في ظل وجود أجندات دولية وإقليمية سهلت هذا التنقل والانتشار، ولعبت على مصطلح الإرهاب والعنصر الإرهابي لتدعم تموقعها وتخدم من خلاله مصالحها، وربما تحل أزماتها الاقتصادية والمالية، ولعل في مثال الحالة العراقية والسورية والليبية واليمنية أقوى دليل على ذلك، مما نتج عنه عامل تعدد الجنسيات المنتمية للتنظيمات الإرهابية، والتحاق كل جنسيات العالم –تقريباً- وتمركزها بأعداد مرتفعة في عدد من دول العالم، وخصوصاً منها الأوروبية، وبالنسبة لهذه الأخيرة فإن العناصر الإرهابية في أغلبيتها من الجالية العربية التي تمتعت بالحق في الجنسية من الجيل الثاني إلى الثالث، ربما في اللحظات الأولى رأت الأنظمة القوية من حيث تماسك وتطور منظومتها الأمنية، خصوصاً الأوروبية والغربية، أن أنظمتها محصنة من انتقال الإرهاب إليها، ومن المستحيل أن تعيش التهديد نفسه، فكانت تقديراتها تشير إلى أن بضاعة الإرهاب متنامية عندها، ولكن سوف ترجع إلى البلدان العربية وبلدان العالم الثالث؛ لأنها محصنة أمنياً، لكن كل هذه التقديرات اليوم أصبحت محل مراجعة.
ترى قلعول أن مسرح الأحداث القادم في العالم، سيكون البحر الأبيض المتوسط. وتسارع الأحداث بين ضفته الشمالية وضفته الجنوبية، وربما ستستغل الجماعات الإرهابية في ليبيا حالة الضعف التي تمر بها المنطقة ككل، لتنفذ أجندات خاصة بها، أو أجندات أخرى لا نراها إلى الآن، ربما لأن مطبخها الجيواستراتيجي والجيوسياسي لا يريد الإفصاح عن كل نواياه إلا في السنوات القادمة، فالمشهد الآن في العالم، وخصوصاً في شمال أفريقيا، والضفاف الشمالية للمتوسط، منفتح على كل الاحتمالات، والمخططات كلها مطروحة على الطاولة.

شارك