الطائفية والتسامح والعدالة الانتقالية: من الفتنة إلى دولة القانون

الثلاثاء 22/أكتوبر/2019 - 01:29 م
طباعة الطائفية والتسامح حسام الحداد
 
رغم ما في الكتاب الذي بين أيدينا الأن من نظرة نهضوية ، فإن فيه ما يذكرّ بماضٍ ثقافي وطني سابق، وبمواضيع عالجها المفكرون العرب قبل عقود قريبة، تبدو هذه العقود اليوم كأنها قرون. في زمن غير هذا كان طه حسين يتحدث عن «مستقبل الثقافة في مصر»، وقسطنطين زريق يرسم «معالم الفكر القومي»، ورئيف خوري يكتب عن «ثورة الفتى العربي»، وأنور عبد الملك يجتهد في «الثقافة الوطنية»، وصادق العظم يكتب عن «النقد الذاتي بعد الهزيمة». … أما الآن فموضوع الحديث هو «الطوائف التي تفتك ببعضها البعض» و«تفكك الدولة الوطنية»، التي سارعت إلى الأزمة قبل أن تأتي إليها، رافعة شعار: احتكار السلطة وإقصاء المجتمع.
وحسب فيصل دراج في مراجعته هذا الكتاب فان الطائفة معطى اجتماعي ثقافي تاريخي، يسمح لمعتنقي تعاليمها بالتمايز من طائفة أو طوائف أخرى. بيد أن هذا المعطى، الذي لا يشكّك فيه أحد، لا يمنع من القول إن اقتران مجتمع بطوائفه، أو اعتبارها معطى طبيعياً فيه، يدلل على فواته التاريخي، أو على تأخره، ذلك أن المجتمعات الحديثة تتعرّف بطبقاتها الاجتماعية وأحزابها وبمواطنيها، الذين ينتمون إلى الوطن قبل الانتماء إلى الطائفة. فالطائفة، كما العشيرة والقبيلة، بمعنى ما، جماعة تميل إلى الانغلاق والتعصّب، وفقاً للشروط الاجتماعية وأحوالها.
أما الطائفية، ولها سياقاتها، فهي وعي المنتمين إليها باختلافهم عن غيرهم، وبضرورة الحفاظ على الاختلاف وتحصينه، والاعتقاد أنّ أهل الطائفة يفضلون غيرهم، وأن علاقتهم بما هو خارجهم يجب أن تتسم بالتنافس والسيطرة. تمثّل الطائفية آنذاك «انشقاقاً ثقافياً ـ عقائدياً»، كما جاء في مطلع الكتاب، ينعكس على علاقة الإنسان الطائفي بمجتمعه؛ فهو يعيش في المجتمع وليس منه تماماً، وعلى علاقته بالوطن، ما دام ولاؤه يذهب إلى الطائفة قبل ذهابه إلى الوطن.
والطائفية الفاعلة، أي تلك التي انتقلت من حال الكُمون إلى اليقظة التنافسية، تؤسس لاستقلال عن المجتمع، من طريق مؤسسات ثقافية واقتصادية وسياسية، بما يحوّلها إلى كيان «يصطدم بالدولة»، إن لم يكن في منطقها الداخلي ما يرفض الدولة ويضيق بها. والطائفية، والحال هذه، طائفية مسيّسة، أو أنها: الطائفية المسيسة، الواعية لأهدافها، التي تريد أن تضع يدها على الدولة، بقدر ما تريد إخضاع «الطوائف الأخرى» بوسائل عنفية أو لاعنفية. ومع أن الطائفية تنتسب إلى الدين، فهي تمثل في شكلها المسيّس العنيف، جماعة متعصبة مغلقة لا أكثر، تنغلق على ذاتها وتطرد المجتمع خارجاً، مقتربة اقتراباً شديداً من «التنظيمات الشمولية»، معتقدة أنها تمثّل الحق وأن غيرها يمثّل الباطل، وأن لديها من «البراهين الدينية» ما يسوّغ سيطرتها… ولهذا ينطلق العنف من عقاله في التحارب الطائفي، ذلك أن التعصّب الديني استبداد يلوذ بالمقدس، بل إنه أشدّ أنواع الاستبداد استبداداً. ويقوم الأمر كله في مبدأ أساسي: لا وجود لطائفة إلا في مواجهة طائفة أخرى، فإن لم تكن قائمة اخترعتها.
من أين تجيء الطائفية؟ ليست الطائفية في الوطن العربي، وفي معناها المباشر، إلا تعبيراً عن إخفاق الدولة الوطنية، ما دامت الطائفية المسيّسة انتقال من «طائفية مضمرة» إلى طائفية فاعلة. فإذا كان من السهل ربط ظواهر الطائفية والعشائرية والقبلية بـ «الاستعمار» والبنى ما قبل الرأسمالية، فإن استمرارها، وبعد أكثر من نصف قرن على الاستقلال، لا يدلل على «قوة الطائفة» بل على فشل الدولة في نشر ثقافة وطنية وفي إقناع «أبناء الطوائف» أنهم مواطنون لهم حقوق وواجبات مشتركة. ويزداد الأمر سوءاً في حال احتكار السلطة لعهد طويل، وتحوّلها إلى طائفة بين الطوائف الأخرى، مع فرق شديد قوامه أنها طائفة مسلّحة بأجهزة الدولة جميعها. ولعل هذا الفرق هو الذي يحول دون تحوّل السلطة إلى دولة، أو ينزل بها من مستوى الدولة إلى السلطة، ذلك أن الدولة تتعرّف بالقانون وثبات المؤسسات التي تتوجه إلى المواطنين. وإضافة إلى وضع السلطة هناك طبعاً، «العنصر الخارجي»، الذي يتمثّل بالاستقواء بدولة خارجية تستعمل الدين لأغراض نفعية، حال فرنسا والمسيحيين في لبنان في القرن التاسع عشر.
ولقد اعتبر المساهمون في الكتاب أنّ الطائفية ظاهرة متأخرة في الوطن العربي، جاء بها إخفاق الدولة قبل غيره. يقول فالح عبد الجبار: «إن تسييس وأدلجة الهويات الجزئية (أي الطائفية) ظاهرة جديدة كل الجِدة، رغم قدم هذه الهويات كفضاء ثقافي ـ اجتماعي» (ص 25).
ورأى فيها «نتاج علاقات الدولة الحديثة بمجتمعها المتعدد، وتأزم هذه العلاقة، وما نجم عن ذلك من تمييز وعسف» (ص 16). وميّز سليمان تقي الدين بين الطائفة والطائفية، مؤكداً أن «الطائفة تعني الالتزام أو الانتماء، وتعني في آن التشدد في هذا الانتماء أو التعصّب له… وربط بين الطائفية والسعي إلى سلطة واسعة في المجتمع: «تلك السلطة هي الوجه السياسي من الطائفية. لا ترتقي الطائفية إلى المستوى السياسي إلا حيث السلطة» (ص 60).
والطريف هنا أن «الطائفية السياسية» تعطّل السياسة، بمعناها الموضوعي، فهي تقوم على تعددية الحوار وتستبعد العنف، وعلى تبادلية الاعتراف بين المتحاورين. لهذا يقول تقي الدين «ليس عبثاً أن التغيير في الوطن العربي، ولا سيّما في المشرق، … يمر عبر تفكك الدول المشخصنة (السلطة الفردية الدكتاتورية)، ففي مجتمعات كهذه ألغيت الحياة السياسية وهمّشت ثقافة الحرية، وأجبرت الجماعات على إنتاج هويتها في إطار المؤسسات التقليدية «الجامع والمؤسسات الدينية» (ص 65).
إذا كانت الطائفية، أي وضع الطائفة فوق الوطن، ظاهرة ما قبل ـ حداثية، فإن «الدولة المشخصنة» ظاهرة ما قبل حداثية أيضاً، لها منطق الطائفة وتؤسس، اجتماعياً، لتوطيد العلاقات الطائفية، وإلا فما هذه المجتمعات التي تقتات باقتصاد الطوائف؟ وهل العالم الخارجي، وهو موجود لزوماً، هو الذي ينشئ اقتصاداً تنافسياً بين الطوائف؟ فالعالم الخارجي لا يكون فاعلاً إلا بعامل داخلي يستقدمة ويجعل دوره ممكناً، وقد يحوّله إلى «دور مرحب به»، الأمر الذي يستقدم كلمة غريبة هي: «القابلية للاستعمار»، التي تعني تفكك الانتماء الوطني.
أضاء المساهمون، من فالح عبد الجبار إلى مسرّة، موضوع الطائفية في جوانبه الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وزادت «المناقشات»، الملحقة بالمعالجة، الظاهرة وضوحاً، بما يوحي أن «الصوت العلماني» لا يكون فاعلاً إلا في مجتمع المواطنة، حيث الدولة تعبّر عن الإرادة المجتمعية الكلية، وأن سؤال الطائفية يبدأ بسؤال الدولة، مهما تكن «موضوعية» الوجود الطائفي. لذا قال سركيس أبو زيد «الطائفية ليست كتلة تاريخية متماسكة عبر الزمن. في حالات الحروب والاستنفار الغرائزي تتمكن السلطة الطائفية من حشد جمهورها وطمس مؤقت لتناقضات الوجود في داخلها» (ص 77).
والمشهد، في النهاية، مأساوي، بلغة أدبية، فالطوائف، في الوعي الزائف، تأخذ مكان الطبقات الاجتماعية، والجماعات الطائفية وتأخذ مكان الأحزاب السياسية، و«المواطن» يتعرّف بثقل طائفته لا بموقعه الاجتماعي والتزامه الوطني، والحرب ضد العدو الخارجي، بصيغة الجمع، تعطي المكان كله للتحارب الداخلي، الذي يعبّر عن الانسحاب من التاريخ الكوني، أو التدخل فيه سلباً.
ليس الحديث عن التعصّب الطائفي إلا حديثاً آخر عن التسامح، في مرحلة معينة، وعن «التعددية الثقافية»، في مرحلة لاحقة، وهو ما يجمله البعض اليوم في مصطلح : الاعتراف المتبادل، أو في: الحق في الاعتراف، حيث لكل إنسان الحق في التعبير وفي حرية المعتقد والضمير. عالج علي أومليل هذا الموضوع بوضوح لا لبس فيه، مقرراً أن التسامح مفهوم ارتبط بالانشقاق المسيحي في أوروبا، وأنه «توسع ليشمل ديانتين هما اليهودية والإسلام»، وأن مساهمات فلسفية كبرى عالجته، حال كتابات غرويتوس وباييل ولوك وسبينوزا. وعلى الرغم من اجتهادات مسيحية مختلفة في هذا المجال، فقد جاء لوك بمساهمة هامة، حين نادى بفصل حاسم بين الدولة والدين، وبين مجتمع الكنيسة ومجتمع السياسة، وأناط بالدولة مهمة ضمان حرية الأفراد وصون ملكياتهم. ولهذا رأى «أن التسامح ليس هو السبب في فوضى العقائد وصدامها، بل إن فرض الدولة ديناً أو مذهباً واحداً هو الذي يفضي إلى ذلك، ذلك أن دورها ضمان النقد الديني وتدبيره» (ص 13). وزع أومليل التسامح على مرحلتين: التبس المفهوم في الأولى منهما بقضية دينية، وارتبط بالمرحلة الثانية بقضية ثقافية، تمس تعايش الثقافات المختلفة.
وإذا كان الغرب قد عالج قضية التسامح، ولو بشكل مجزوء، مرتكناً إلى فصل الدين عن الدولة، فإن ما نجح فيه الغرب لم ننجح فيه «عندنا». ولذلك فالمرحلتان ـ التسامح كقضية دينية ثم حين تحوّل إلى قضية ثقافية ـ ما زالتا عندنا قائمتين ومتداخلتين، بسبب اختلاط الدين بالثقافة في مجتمع أخفق مشروعه الحداثي. ومع أن الغزو الأجنبي، في أبعاده المهددة، أدى دوراً في انغلاق الثقافة العربية ـ الإسلامية، كما هو حاصل اليوم، فقد كانت هناك عوامل داخلية وطّدت هذا الانغلاق، كالقول بثقافة عربية ـ إسلامية كاملة الخصوصية، لا تقاسم غيرها ولا يقاسمها غيره في شيء. تجدر الإشارة هنا إلى الادعاء القائل إن اللغة العربية لغة أهل الجنة، أو الادعاء بأن الشعر العربي القديم لا يحاكيه أي شعر آخر، إذ عوّق الفكر الإطلاقي وفود القيم الحداثية، وأقام علاقات قلقة بين العرب والأقليات غير العربية وأعطى، في الحالين، مكاناً للعقلية الإطلاقية التي تستولد منها الذهنية الطائفية. أنهى أومليل مداخلته قائلاً: «التسامح ضرورة لبلداننا التي فيها تعددية دينية أو لغوية بأن يعترف اعترافاً متبادلاً بين الأديان واللغات، وأن تترجمه الدساتير والقوانين ونظم التربية والتعليم، وأن يرسخ في العقليات، وأن تكون الديمقراطية آلية تدبير هذا التعدد…».
مرّ رضوان السيد على الموضوع المعالج في مداخلته وعنوانها: «في الحاجة إلى التسامح»، حيث أشار إلى مسألة التسامح في سياقها العربي في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وتوقف أمام النقاش بين فرح أنطون والشيخ محمد عبده، الذي أخذه الحماس وقال «إن نظام الحكم في الإسلام مدني»، الذي لم يخالفه فيه أحد، على عكس علي عبد الرازق الذي اعتمد على مقولات عبده وطالب بـ «إبطال» الخلافة والبحث عن بديل سياسي آخر.
رأى رضوان السيد أن حقبة «الصحوة الإسلامية» جاء بها سببان: الإحساس القوي، بل الجارف أحياناً، باستهداف الإسلام، والاتجاه الجارف القائل بإمكانية أن يحيا المرء حياة إسلامية كاملة، تتناول كل شيء. وقد أدى هذان السببان، اللذان يدوران حول الهوية، إلى إنكار شبه كامل لسنن وضرورات وآليات التغير الاجتماعي والثقافي والديني، وإلى «تصحّر في الوعي»، الذي يرى ما يرغب ولا ينظر إلى وقائع الحياة. ولم ينسَ السيد الباحث المقارنة بين أحادية النظر الديني «المتصحرّ» واستبداد الأنظمة العسكرية القائمة على «أحادية أخرى»، اللذين يرفضان الرأي المخالف بيقين شامل، لا يعبر عن قوة البرهان والوجود بل عن ضعفهما. لهذا انتهى السيد إلى القول إن «حالة الثقة المفترضة في المجتمعات الإسلامية ما عادت موجودة»، ورأى ضرورة الدخول إلى «تحدي النهوض»، الذي يعني إصلاح «الوعي الجمعي»، ذلك «أن الدين لا يملك حلولاً لإدارة الشأن العام» (ص 115)، وختم قائلاً: «نحن محتاجون ـ حياة ووجوداً ـ إلى التسامح اليوم قبل الغد، خاصة أن الحزبية الدينية المغلقة صارت عاملاً من عوامل التعطيل الاجتماعي»، وأغنى عبد الحسين شعبان موضوع التسامح بمداخلة أكاديمية متماسكة، استعانت بمواد وثائقية واسعة.
أما في موضوع: «العدالة الانتقالية: مقاربة عربية للتجربة الدولية»، فقد قدم عبد الحسين شعبان مادة نظرية أضاءت هذا المفهوم، الذي لا ينقصه الغموض والالتباس. ولهذا تأمل الباحث موضوعه من وجوه مختلفة، فتحدث عن: العدالة الانتقالية في الأدب الحقوقي والسياسي، وربطها بالقضايا التي صدرت، أو يمكن أن تصدر، عن «الثورات العربية المنتصرة اليوم، والتي ستليها في ما بعد»، وتطرّق إلى موضوع «المساءلة والحقيقة في تجارب العدالة الانتقالية»، المعني بالكشف عن حجم الأضرار التي لحقت بالمجتمع والأفراد من سياسة التسلط وسوء استخدام النفوذ التي مارستها بعض الأنظمة، ومنها دول أوروبا الشرقية سابقاً وبعض البلدان العربية ونموذجها «المغرب»، الذي عملت فيه جماعات مناضلة على «نبش الذاكرة» وتبيان الظلم الفادح الذي أنزلته «السلطة السابقة» على بعض الأفراد والجماعات. يشير ذلك، بداهة، إلى تعويض الضحايا والعمل على إصلاح النظام القانوني وجبر الضرر والتأسيس لمستقبل مختلف عن الماضي وكذلك وضع أسس جديدة للنظام القانوني.
وبسبب طول عهد الوطن العربي بالاستبداد، ومدى الضرر الفادح الذي نزل على جماعات متعددة، لأسباب سياسية أو طائفية، فإن انتقاله إلى مجتمع مدني حديث يبدو اليوم صعباً وبالغ الصعوبة، دون أن يعني ذلك أن «دولة الحق والقانون» مستحيلة في الوطن العربي، بفضل تاريخ من التسامح والكفاح من أجل التحرر.

شارك