أفكار ومواقف ابن تيمية: ما لها وما عليها

الثلاثاء 23/يونيو/2020 - 04:14 ص
طباعة أفكار ومواقف ابن حسام الحداد
 
تستقي الحركات الإسلاموية عدّتها الأيديولوجية من مصادر تراثية ومعاصرة، ولما أجريت دراسة مسحية عام 2013 على عيّنة تنتمي إلى تنظيم “داعش” تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي، ظهر فيها اعتماد عناصرها على أسماء مؤثرة لإسناد ايديولوجيته المتطرفة، وأعاد الداعشيون طرح أفكارٍ تعود بجذورها وتأصيلاتها النظرية إلى شخصيات مؤثرة في حركة التاريخ الإسلامي، وإن تمّ ذلك بشكلٍ مشوّهٍ ومبتور عن سياقه أو متصل، فإن بروز هذه الأسماء ارتبط بألسنة المنادين بالعنف الديني أو التغيير الثوري الانقلابي؛ لتبديل المجتمعات العربية والإسلامية منذ النصف الثاني من القرن الماضي.
عبد الفتاح نعوم، حاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة محمد الخامس في الرباط، لديه العديد من الأبحاث والدراسات. المنشورة في المجلات المتخصصة والمحكمة، باحث مهتم بقضايا تأطير الرأي العام والانتقال الديمقراطي والجيوبوليتيك، وهو كاتب مساهم في نشرة فكرة الصادرة عن معهد واشنطن، ونشرة صدى الصادرة عن كارنيغي. نشر بانتظام في الكثير من الصحف المغربية مثل؛ هسبريس، المساء، الأحداث المغربية، روز اليوسف المصرية، والبناء والاتحاد اللبنانيتين ثم عمل مراسلا لها من المغرب.
وتأتي دراسة "أفكار ومواقف ابن تيمية: ما لها وما عليها" للباحث المغربي في العلوم السياسية عبد الفتاح نعوم، ضمن كتاب المسبار “مرجعيات العقل الإرهابي: المصادر والأفكار” لمناقشة بعض المصادر النظرية التي يستند إليها «الجهاديون المتطرفون» و«التنظيمات الإرهابية» و«السلفية الجهادية» لإضفاء المشروعية المزعومة لعنفهم ضد المجتمع والدولة، ساعياً إلى تتبع المسارات التاريخية لنضوج الأيديولوجيات الجهادية على مستوى التنظير والتأصيل والتأثر، على اعتبار أن الفهم العام الذي يحاول تفسير ظاهرة «العنف الإسلامي» لا بد له من استحضار الرموز والأطر العقائدية التراثية والحديثة، لتحديد القوالب النظرية التي ينهض عليها الخطاب السلفي الجهادي.
وقد عالج نعوم في دراسته أهم معالم فكر وسيرة ابن تيمية، وذلك على نحو غير مدرسي، ومن منطلق السعي إلى استبيان مدى مسؤوليته الأخلاقية عن العنف الذي ينسب نفسه إليه ويمتح برنامجه الفكري والسياسي من إرثه. 
يشير الباحث إلى أن ثمة اعتقاداً رائجاً مفاده أن الاتجاهات السلفية التي تعتني بنصوص ابن تيمية، هي اتجاهات لديها فقط خلاف فقهي مع باقي الاتجاهات الأخرى، أو أنها اتجاهات ميسمها الأساسي يتمثل فقط في تشددها الفقهي، وفي تميزاتها الظاهرة في أنماط السلوك والمعاملات الاجتماعية، ونمط اللباس والعيش، وغيرها. لكن في الحقيقة، فإن الجذر الأساسي لهذه التيارات يكمن في خلاف في العقيدة، ظهر في القرون السابقة على ابن تيمية، وقام هذا الأخير بتزخيمه والتنظير له، وأّفرد له متوناً، لم تشكل متون الفقه التي ألفها والمتمثلة في فتاواه إلا ترجمة لوجهة نظره في العقيدة، واستمراراً في الدفاع عنها من حيث السعي إلى تمييز «المسلم» على صعيد السلوك والعبادة والمعاملة، أي تمييز في مجالات الفقه، يقتضيه التمييز الأصلي الذي هو ذو صلة بمجالات الاعتقاد والإيمان والمنطلقات الكبرى للدين.
يجري تصنيف ابن تيمية ضمن ما يعرف بـ«مدرسة الحنابلة»، أي  طائفة الفقهاء الذي تشبعوا عبر العصور بفكر الإمام أحمد بن حنبل، وبأنه كان واحداً من أكثر من توسعوا في التراث الحنبلي فقهاً وعقيدة. إلا أن مراوحته في الفقه بين التشدد في التكفير وبين التيسير في بعض المسائل -كما سنرى- يجعله -ربما- مؤسساً لتيار فقهي متنوع المشارب والرؤى؛ ومن ناحية ثانية، فإن تبنيه لوجهة نظر معينة في العقيدة، لا ينسبه إلى الإمام أحمد بن حنبل بقدر ما ينسبه إلى ما يعرف في الدراسات الدينية التقليدية والمعاصرة بـ«عقيدة السلف». فضلاً عن أن التشابه في تجربة «المحنة» بينه وبين ابن حنبل قد يكون واحداً من دواعي ذلك الاعتبار.
يتوافر تراث ابن تيمية على الكثير من وجهات النظر التي لا تستقيم مع عصرنا، علاوة على أنها ليست سوى وجهة نظر لا تختزل الإسلام حتى في عصرها، وذلك مهما حاول ابن تيمية نفسه صوغها في قوالب المرافعات المعرفية العقدية والفقهية. لكن ثم معضلة أخلاقية وعلمية أن يرتبط اسم ابن تيمية بالتطرف والإرهاب والعنف، وما إلى ذلك من أفكار وممارسات لا تمت للإنسانية بصلة، والتي أضحت عنواناً بارزاً لهذا العصر، وعنواناً يجري ربطه بتراثنا العربي الإسلامي، ذلك الارتباط يحتاج إلى قدر من الرزانة والإنصاف، لأن صاحب كل فكر في أي عصر لا يمكن تحميله المسؤولية عن فهم البشر اللاحقين له، مهما ادعوا أنهم يؤسسون أفهامهم عليه، إذ باستحضار فرضية أن يحيا هذا الشخص بينهم مجدداً، سيكون من الوارد جداً أن يخالفهم، إذا كان قد حدث في التاريخ أن قام الأتباع بتكفير وقتل -أحياناً- زعيمهم حينما لا يقرهم على تأويلاتهم، كما قتل الخوارج عليا على سبيل المثال لا الحصر.
من المؤكد أن تراثنا العربي الإسلامي تملؤه الكثير من عوالق النقص، باعتبار المحطات الزمنية وملابسات الوقائع الاجتماعية التي نشأ ذلك التراث ضمن نتوءاتها ومنعرجاتها. ولهذا لا تكاد تجد شخصية من الشخصيات ذات خط واحد فيما يتعلق بالتأسيس للقيم التي باتت اليوم كونية، أي القيم التي تنطلق من الفرد الحر العاقل المالك للحق في الاختيار، والذي يؤسس بمعية الأفراد على شاكلته المجال العام، ويؤطرون مجال الفرد. أي القيم التي أنجبتها صيرورات الحداثة والأنسنة منذ عصر النهضة الأوروبي، وتعممت منجزاتها القيمية والإجرائية على عدد غير يسير من أقطار العالم. واصطدمت في منطقتنا بالتأويلات اللاتاريخية والتراثية للتراث.
ويقول الباحث نعوم تأسيساً على كل ذلك، بأن أتباع ابن تيمية في كل العصور وفي عصرنا هم ذوو تفكير «لا تاريخي»، لكن يمكن أيضاً قول الشيء نفسه عن ابن تيمية، فهو بدوره لا تاريخي، إذ يشدد على رؤية عصر السلف ويسقطها على كل عصره وعلى كل العصور، لكن بؤراً مضيئة توطنت في تجربته لم تأخذ حظها الكافي من الاهتمام، وذلك بصرف النظر هل كانت تقع ضمن حيز المفكر فيه أو اللامفكر فيه لدى ابن تيمية، المهم أنها سقطت من اعتمادات الأتباع، وإعادة إثارة الانتباه إليها هي مهمة جوهرية ضمن مهام استكمال إعادة قراءة التراث واستثماره.

شارك