بعد إعلان حله.. لماذا يظل "حراس الدين" هدفًا للغارات الأميركية؟
الإثنين 17/فبراير/2025 - 04:05 م
طباعة

أعلن الجيش الأميركي، الأحد 15 فبراير 2025، عن تنفيذ ضربة جوية دقيقة استهدفت قياديًا بارزًا في الشؤون المالية واللوجستية لتنظيم "حراس الدين"، الفرع التابع لتنظيم القاعدة في سوريا، الذي كان قد أعلن مؤخرًا حلّ نفسه. وأوضحت القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) في بيان عبر منصة "إكس" أن الضربة نُفذت في شمال غرب سوريا يوم 15 فبراير، دون الكشف عن هوية القيادي المستهدف. وأكد البيان أن هذه العملية تأتي في إطار التزام الولايات المتحدة، بالتعاون مع شركائها الإقليميين، بمواصلة تعطيل وإضعاف قدرة التنظيمات الإرهابية على التخطيط لهجمات وتنفيذها.
ويأتي هذا الاستهداف في أعقاب إعلان "حراس الدين" عن حلّ نفسه رسميًا بعد سقوط حكم الرئيس بشار الأسد، حيث كشف للمرة الأولى عن كونه الفرع السوري لتنظيم القاعدة. ووفقًا لمدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، رامي عبد الرحمن، فإن التنظيم لجأ إلى هذا القرار لتجنب الدخول في مواجهة مباشرة مع "هيئة تحرير الشام"، خاصة أن الأخيرة تحظى باعتراف أوسع نسبيًا في المشهد المحلي، بينما يُصنَّف "حراس الدين" ككيان إرهابي دولي، ما جعله هدفًا مستمرًا للضغوط العسكرية والأمنية.
وتأتي الضربة الجوية الأميركية التي استهدفت قياديًا بارزًا في تنظيم "حراس الدين" في شمال غرب سوريا ضمن سلسلة عمليات عسكرية متزايدة منذ سقوط نظام بشار الأسد. ورغم أن هذه العمليات توظَّف ضمن إطار "مكافحة الإرهاب"، إلا أن السياقات والدلالات المحيطة بها تكشف أبعادًا أعمق تتجاوز مجرد تصفية أفراد أو استهداف جماعات مسلحة.
السياق الجيوسياسي: تغير معادلات القوى في سوريا
بعد سقوط نظام بشار الأسد، دخلت سوريا مرحلة انتقالية جديدة فرضت تحولات كبرى على مختلف الفاعلين في المشهد السياسي والعسكري. كان لهذا الحدث تأثير مباشر على الجماعات المسلحة، التي وجدت نفسها مضطرة إلى إعادة النظر في استراتيجياتها، سواء من حيث التموضع العسكري أو الخطاب السياسي. بالنسبة لتنظيم "حراس الدين"، الذي كان يُنظر إليه كأحد أفرع تنظيم القاعدة الأكثر تشددًا في سوريا، فإن استمرار وجوده ككيان مستقل أصبح أكثر تعقيدًا في ظل البيئة الجديدة. لم يعد التنظيم يواجه فقط استهدافًا مباشرًا من قبل الولايات المتحدة التي صنفته إرهابيًا منذ 2019، بل أصبح عليه أيضًا التعامل مع مشهد أمني جديد تُعيد فيه القوى المحلية والإقليمية ترتيب أولوياتها.
إعلان "حراس الدين" عن حلّ نفسه يعكس إدراكًا براجماتيًا لصعوبة الاستمرار في ظل تضييق الخناق عليه من جهات متعددة. فمن ناحية، واجه التنظيم تصعيدًا في الضربات الأميركية التي استهدفت قياداته المالية والعسكرية، ما أدى إلى تآكل بنيته التنظيمية. ومن ناحية أخرى، شكّلت هيئة تحرير الشام تهديدًا مباشرًا له، إذ باتت تُقدّم نفسها ككيان أكثر "اعتدالًا" مقارنة بالجماعات المرتبطة بالقاعدة، مما جعلها خيارًا أقل إثارة للقلق بالنسبة للقوى الدولية. ومع تصاعد الضغوط الدولية والمحلية، بدا أن استمرار "حراس الدين" كتنظيم مستقل يُعرّضه لمواجهة غير متكافئة قد تؤدي إلى تصفيته بالكامل، الأمر الذي دفعه إلى اتخاذ قرار الحل كمحاولة لإعادة التكيف مع المعطيات الجديدة، سواء عبر التواري عن الأنظار أو الاندماج في كيانات أخرى تعمل بأساليب مختلفة.
البعد الأميركي: استمرار سياسة الاستهداف الانتقائي
رغم سقوط نظام بشار الأسد وما تبعه من قرارات بحل الفصائل المسلحة، لم تُظهر الولايات المتحدة أي مؤشر على التراجع عن استراتيجيتها في تنفيذ الضربات الجوية ضد الجماعات المصنفة إرهابية. بل على العكس، تبدو واشنطن أكثر انخراطًا في توجيه ضربات دقيقة تستهدف قيادات تنظيمات مثل "حراس الدين" و"داعش"، مستغلة الفراغ السياسي والأمني الذي خلفه سقوط النظام السوري. هذه السياسة تعكس نهجًا أميركيًا طويل الأمد يقوم على مبدأ "الضرب في لحظات التحول"، أي استغلال الفترات الانتقالية في الدول التي تشهد تغيرات كبرى لتصفية الأعداء المحتملين قبل أن يتمكنوا من إعادة التمركز. في الحالة السورية، فإن سقوط الأسد لم يُنهِ الفوضى الأمنية، بل أدى إلى إعادة توزيع القوى داخل المشهد العسكري، وهو ما وفر فرصة ذهبية لواشنطن لتكثيف استهداف الجماعات الإرهابية، لا سيما تلك التي تمتلك امتدادات دولية أو روابط بتنظيم القاعدة.
اللافت في هذه الضربات أنها لا تركز فقط على القيادات العسكرية أو الشخصيات البارزة، بل تُظهر اهتمامًا واضحًا باستهداف مسؤولي "التمويل واللوجستيات" داخل هذه التنظيمات. هذه الاستراتيجية تُذكّر بتكتيك استخدمته واشنطن سابقًا في حربها ضد القاعدة وداعش، حيث اعتمدت على "قطع شرايين الدعم" قبل ضرب الأذرع العسكرية، في محاولة لإضعاف قدرة التنظيمات على إعادة تشكيل نفسها بعد الضربات الأولية. ويبدو أن هذا النهج الأميركي يستهدف ضمان عدم قدرة الفصائل المسلحة على استغلال الفوضى السياسية لخلق مصادر تمويل جديدة، خاصة مع تصاعد الدور الأميركي في فرض رقابة على شبكات التمويل العابرة للحدود. في هذا السياق، تأتي الضربة الأخيرة ضد أحد مسؤولي "حراس الدين" كجزء من هذه الاستراتيجية الهادفة إلى استنزاف التنظيمات الإرهابية في لحظة ضعفها، ومنعها من إعادة ترتيب صفوفها في المرحلة المقبلة.
حراس الدين: من المواجهة إلى الاختفاء
برز تنظيم "حراس الدين" عام 2018 كفرع لتنظيم القاعدة في سوريا، مستفيدًا من الفراغ الذي خلّفه تفكك الجماعات الجهادية الأخرى، خصوصًا بعد تحولات هيئة تحرير الشام وسعيها إلى تقديم نفسها كقوة أكثر براغماتية. منذ تأسيسه، خاض "حراس الدين" مواجهات متكررة مع الهيئة، التي كانت تسعى إلى احتكار السيطرة على مناطق المعارضة ومنع ظهور أي كيان منافس داخل المشهد الجهادي السوري. إلا أن التحول الحاسم في وضع التنظيم جاء عام 2019، عندما صنفته الولايات المتحدة ككيان إرهابي عالمي، مما جعله هدفًا دائمًا للضربات الجوية الأميركية. هذا التصنيف لم يقتصر تأثيره على الاستهداف العسكري، بل أثر أيضًا على قدرته على جذب المقاتلين والدعم المالي، خاصة مع تشديد الرقابة الدولية على مصادر تمويل الجماعات الإرهابية.
مع تصاعد الضغوط العسكرية والأمنية، أصبح التنظيم في موقع دفاعي، حيث تعرضت قياداته لضربات دقيقة استهدفت مسؤولين بارزين، لا سيما في المجالات اللوجستية والمالية. هذه العمليات المنهجية استنزفت قدرة "حراس الدين" على مواصلة العمل ككيان منظم، مما دفعه إلى إعادة النظر في استراتيجيته. وفي ظل استمرار التهديدات، أعلن التنظيم حلّ نفسه رسميًا، في خطوة تحمل دلالات عميقة حول إدراكه لحجم الخطر الذي يواجهه. هذا القرار يعكس تحولًا استراتيجيًا، حيث بات التنظيم يرى أن الاستمرار في المواجهة المباشرة لم يعد خيارًا قابلًا للحياة، خصوصًا مع تصاعد نفوذ هيئة تحرير الشام التي لم تتردد في اعتقال عناصره والتضييق عليهم داخل مناطق سيطرتها.
إلى جانب العامل العسكري، يبدو أن قرار الحل ينطوي على أبعاد براغماتية تهدف إلى تجنب التصعيد مع هيئة تحرير الشام، التي تتمتع بقبول نسبي مقارنة بـ"حراس الدين"، سواء على المستوى المحلي أو حتى لدى بعض الجهات الإقليمية. فالهيئة، رغم تصنيفها إرهابية، تمكنت من تقديم نفسها كجهة أكثر "برجماتية" مقارنة بالجماعات المرتبطة بالقاعدة، مما جعلها في موقع أقوى داخل المعادلة السورية. في المقابل، وجد "حراس الدين" نفسه محاصرًا بين ضربات التحالف الدولي من جهة، وقيود هيئة تحرير الشام من جهة أخرى، مما جعله أمام خيارين: المواجهة التي تعني الإبادة التدريجية، أو التكيف عبر تفكيك البنية التنظيمية العلنية.
التخلي عن الشكل التنظيمي الصريح لا يعني بالضرورة نهاية "حراس الدين"، بل قد يكون محاولة للانتقال إلى مرحلة جديدة من العمل السري، على غرار ما فعله تنظيم داعش بعد سقوط خلافته. من المحتمل أن يتحول عناصر التنظيم إلى خلايا نائمة تعمل بشكل مستقل، أو يسعون إلى إعادة التموضع داخل تشكيلات جهادية أخرى. هذا السيناريو ليس جديدًا في تاريخ الجماعات الجهادية، حيث سبق أن شهدنا كيف تمكنت بعض الفصائل من النجاة عبر التكيف مع الضغوط، سواء من خلال تغيير الأسماء أو الاندماج في كيانات أخرى. يبقى السؤال الأهم: هل سيكون حل التنظيم خطوة نحو التلاشي الكامل، أم مجرد تكتيك مؤقت في انتظار فرصة جديدة للعودة؟
الانعكاسات الإقليمية: هل نشهد نهاية "الجهادية العابرة للحدود"؟
يطرح تفكيك تنظيم "حراس الدين" إلى جانب تكثيف الضربات الأميركية ضد قادته تساؤلات جوهرية حول مستقبل الحركات الجهادية في سوريا والمنطقة. فمع سقوط الأسد وما تبعه من تحولات سياسية وأمنية، يبدو أن المرحلة الجديدة تتجه نحو استئصال الجماعات المسلحة بمختلف توجهاتها، سواء عبر الحلول السياسية التي تفرض نزع سلاحها وإدماجها في إطار الدولة، أو من خلال العمليات العسكرية التي تستهدف تفكيك بنيتها التنظيمية والقضاء على قياداتها. ورغم أن هذه السياسات قد تُضعف الجماعات الجهادية على المدى القصير، إلا أن التجارب السابقة تُظهر أنها تمتلك قدرة كبيرة على التكيف مع المتغيرات، مما يجعل من المبكر الحديث عن اختفائها النهائي.
التاريخ يُثبت أن الجماعات الجهادية نادرًا ما تختفي تمامًا تحت الضغط العسكري أو الأمني، بل تلجأ عادة إلى إعادة التمركز أو الاندماج في تنظيمات أخرى. فمنذ هزيمة "داعش" وفقدانه مناطقه في العراق وسوريا، لم ينتهِ التنظيم، بل تحول إلى نمط الخلايا النائمة وواصل شنّ عمليات محدودة، مستفيدًا من الفراغات الأمنية في بعض المناطق. وبالمثل، فإن "حراس الدين" رغم إعلانه التفكك، قد يعيد تجميع عناصره لاحقًا تحت مسمى جديد أو يذوب داخل تشكيلات قائمة مثل هيئة تحرير الشام، أو حتى يتجه إلى نقل نشاطه إلى ساحات أخرى تشهد اضطرابات مثل الساحل الإفريقي أو أفغانستان، حيث لا تزال الجماعات المرتبطة بالقاعدة تحتفظ بنفوذ قوي.
في السياق الأوسع، فإن تفكيك الجماعات الجهادية في سوريا قد يكون جزءًا من تحول إقليمي أوسع نحو إنهاء ظاهرة "الجهادية العابرة للحدود"، التي كانت سائدة منذ الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق. ومع ذلك، فإن القضاء على الأبعاد التنظيمية لهذه الجماعات لا يعني بالضرورة اختفاء أيديولوجيتها، حيث يظل الفكر الجهادي العابر للحدود قائمًا، وقد يعود للظهور في المستقبل إذا توفرت الظروف المناسبة، مثل انهيار الأمن في دول معينة أو ظهور أنظمة قمعية تدفع نحو مزيد من التطرف. من هنا، فإن ما نشهده اليوم قد يكون مجرد مرحلة إعادة تشكيل للحركات الجهادية، وليس نهايتها الحتمية.
خاتمة: حرب لم تنتهِ بعد
رغم انتهاء مرحلة الأسد، لا تزال واشنطن ملتزمة بضرب الجماعات المصنفة إرهابية في سوريا، في خطوة تعكس رغبتها في إعادة ترتيب المشهد بما يخدم مصالحها. أما "حراس الدين"، فقد يكون حلّه الرسمي مجرد تحول تكتيكي وليس نهاية فعلية، مما يعني أن المنطقة قد تشهد لاحقًا ولادة أشكال جديدة من هذه الجماعات، بآليات عمل مختلفة ولكن بأهداف مماثلة.