الهجمات الفردية في أوروبا: بين التطرف والتدخل المدني

الإثنين 17/فبراير/2025 - 05:19 م
طباعة الهجمات الفردية في حسام الحداد
 
شهدت مدينة فيلاخ النمساوية حادثة طعن مروعة نفذها لاجئ سوري، وأسفرت عن مقتل مراهق وإصابة عدة أشخاص، في هجوم أكدت السلطات أنه مرتبط بتنظيم داعش. ورغم فداحة الحدث، إلا أن تدخّل رجل سوري آخر، علاء الدين أ.، ساهم في منع سقوط مزيد من الضحايا، وهو ما يسلط الضوء على تعقيدات قضية التطرف، ومواقف اللاجئين، والتفاعل المجتمعي مع مثل هذه الحوادث.
وقد أسفر الاعتداء، الذي وقع في جنوب النمسا بالقرب من الحدود مع إيطاليا وسلوفينيا، عن مقتل مراهق وإصابة خمسة آخرين ولا يزال ثلاثة منهم في العناية المركزة حتى يوم الأحد.
قرابة الساعة الرابعة عصرا، هاجم المشتبه به السبت 14 فبراير 2025، عدة أشخاص بسكين في وسط المدينة. وأفادت الشرطة أن الضحية، وهو صبي يبلغ من العمر 14 عامًا، لقي حتفه على الفور، بينما تتراوح أعمار المصابين بين 14 و32 عامًا.
وكان أحد الشهود قد رصد الهجوم مباشرة من سيارته، وهو سائق يعمل في خدمة توصيل الطعام ويبلغ من العمر 42 عامًا. ووفقًا للمتحدث باسم الشرطة، راينر ديونيسيو، فقد قاد الرجل سيارته باتجاه المهاجم، ما ساهم في منع المشتبه به من إلحاق المزيد من الأذى، ولم يصب السائق بأي أذى.
وذكرت الشرطة النمساوية أن المشتبه به هو طالب لجوء سوري يبلغ من العمر 23 عامًا، وقد أقدم على طعن عدد من المارة بشكل عشوائي قبل أن يتم القبض عليه.

ظاهرة "الذئاب المنفردة" والتطرف الفردي
تُعد الهجمات التي ينفذها أفراد بشكل مستقل، والمعروفة إعلاميًا بـ"الذئاب المنفردة"، أحد أخطر أنماط العنف المعاصر، نظرًا لصعوبة التنبؤ بها أو إحباطها مسبقًا. يتميز هذا النوع من العمليات بأن منفذيها لا يرتبطون تنظيميًا بمجموعات متطرفة، بل يتبنون أفكارها بعد التعرض للدعاية الجهادية الإلكترونية، أو نتيجة تأثرهم بخطاب الكراهية والتحريض الذي ينتشر عبر الإنترنت. في حادثة فيلاخ، أكدت السلطات النمساوية أن المهاجم كان قد زار مواقع متطرفة وبايع تنظيم داعش، مما يشير إلى الدور المتزايد الذي تلعبه الوسائط الرقمية في استقطاب الأفراد وتحويلهم إلى أدوات لتنفيذ العنف العشوائي دون الحاجة إلى دعم تنظيمي مباشر.
من الناحية الأمنية، تمثل هذه الظاهرة تحديًا كبيرًا للسلطات، حيث يصعب تتبع المتطرفين الأفراد قبل ارتكابهم الهجمات، نظرًا لأنهم غالبًا ما يخططون وينفذون عملياتهم بسرية تامة. كما أن طبيعة التجنيد الإلكتروني تمنحهم حرية التصرف دون الحاجة إلى تلقي تدريبات عسكرية مباشرة أو الانضمام إلى خلايا إرهابية. هذا ما يجعل الهجمات التي ينفذها الذئاب المنفردة أكثر فتكًا في بعض الأحيان، حيث تأتي من أفراد غير متوقعين ولا يرتبطون بسوابق إجرامية أو أنشطة مريبة. وهذا يطرح تساؤلًا مهمًا حول فاعلية السياسات الأمنية الحالية، وما إذا كانت هناك حاجة إلى مقاربات جديدة تتجاوز الاكتفاء بالمراقبة الرقمية إلى العمل على تفكيك الخطابات المتطرفة نفسها داخل المجتمعات.
على المستوى الاجتماعي والفكري، يثير تزايد هذه الهجمات تساؤلات عميقة حول كيفية تشكل العقلية المتطرفة، خاصة لدى فئة الشباب من اللاجئين الذين يفترض أنهم فروا من العنف والاضطهاد في بلدانهم الأصلية بحثًا عن الأمان في أوروبا. من المفارقات الصادمة أن بعض هؤلاء اللاجئين، بدلًا من التفاعل الإيجابي مع المجتمعات المضيفة، ينزلقون نحو الفكر الجهادي ويصبحون أدوات للعنف. قد يعود ذلك إلى عدة عوامل، مثل العزلة الاجتماعية، أو الإحساس بالاغتراب، أو التعرض للخطابات المتطرفة التي تصور المجتمعات الغربية كعدو. كما تلعب صعوبات الاندماج دورًا أساسيًا في دفع بعض الشباب إلى البحث عن هوية بديلة، يجدونها في الأيديولوجيات المتشددة التي تمنحهم شعورًا بالانتماء والقوة في مواجهة واقع يشعرون أنه يرفضهم.
علاوة على ذلك، فإن ضعف الخطاب المضاد للتطرف داخل الجاليات المسلمة في أوروبا يسهم في ترك بعض الشباب فريسة سهلة للدعاية الجهادية. فبينما تقوم الحكومات بحملات لمكافحة الإرهاب، فإن هناك حاجة ملحة لتعزيز الأصوات المعتدلة داخل المجتمعات الإسلامية، وتقديم سرديات بديلة تعزز قيم التعايش والتعددية، بدلًا من ترك المجال مفتوحًا للأفكار المتطرفة. في النهاية، فإن التعامل مع ظاهرة الذئاب المنفردة لا يمكن أن يكون أمنيًا فقط، بل يجب أن يكون ثقافيًا وتعليميًا أيضًا، من خلال تفكيك العوامل التي تدفع بعض الأفراد إلى الانخراط في العنف، وتوفير بيئات أكثر شمولًا تتيح لهم الاندماج الفعلي داخل المجتمعات التي احتضنتهم.

التدخل المدني ومسؤولية الجاليات المهاجرة
في مقابل ظاهرة التطرف الفردي، تبرز مواقف إنسانية تعكس الجانب الإيجابي من المجتمعات المهاجرة، كما في قصة علاء الدين أ.، اللاجئ السوري الذي لم يتردد في التدخل لإنقاذ الأبرياء من هجوم الطعن في فيلاخ. قراره بصدم المهاجم بسيارته لم يكن مجرد تصرف عفوي، بل يعكس إحساسًا عميقًا بالمسؤولية تجاه المجتمع الذي يعيش فيه، وإدراكًا بأن الأمن والاستقرار مسؤولية جماعية لا تقتصر فقط على الأجهزة الأمنية. موقفه هذا يسلط الضوء على الدور الذي يمكن أن يلعبه المهاجرون في حماية مجتمعاتهم الجديدة، وتفنيد الصورة النمطية التي تربط بين الهجرة والعنف أو الجريمة.
مثل هذه المواقف تمثل ردًا عمليًا على السرديات العنصرية التي تُحمّل اللاجئين مسؤولية الإرهاب، وتصورهم كتهديد أمني دائم. في الواقع، معظم المهاجرين يسعون إلى بناء حياة جديدة والمساهمة في المجتمعات التي استقبلتهم، كما فعل علاء الدين، الذي لم يرَ نفسه مجرد لاجئ، بل فردًا من المجتمع النمساوي الذي شعر بواجب الدفاع عنه. هذا يُبرز التباين بين المهاجرين الذين يسعون للاندماج الإيجابي، وأولئك الذين ينجرفون نحو الفكر المتطرف، مما يدعو إلى إعادة النظر في التعميمات السائدة التي تربط اللاجئين بالإرهاب بشكل مباشر.
ورغم شجاعة علاء الدين، إلا أن تدخله لم يكن خاليًا من التحديات، إذ أساء بعض المارة تفسير موقفه وظنوا في البداية أنه جزء من الهجوم، ربما بسبب التوتر العام المرتبط بحوادث الإرهاب الأخيرة في أوروبا. هذه الحادثة تكشف عن حالة الريبة والشكوك المتزايدة تجاه المسلمين والمهاجرين، حتى عندما يكونون في صفوف من يحاولون حماية المجتمع. هذه المشاعر، وإن كانت مفهومة في بعض السياقات الأمنية، إلا أنها قد تتحول إلى أداة لتعزيز الإسلاموفوبيا، خاصة إذا تم استغلالها في الخطابات الإعلامية والسياسية التي تركز على التخويف بدلاً من تقديم صورة متوازنة عن دور المهاجرين في المجتمعات الأوروبية.
ما حدث في فيلاخ يؤكد أن مواجهة العنف والتطرف لا يمكن أن تكون مسؤولية الحكومات وحدها، بل هي مسؤولية مجتمعية تتطلب مشاركة الجميع، بما في ذلك الجاليات المهاجرة. يجب تعزيز ثقافة التدخل المدني الإيجابي، مثل موقف علاء الدين، وتشجيع اللاجئين على لعب دور فاعل في حماية واستقرار مجتمعاتهم الجديدة. في المقابل، من الضروري أن تعمل الحكومات والمؤسسات الإعلامية على تغيير السرديات النمطية، بحيث لا يُنظر إلى المهاجرين فقط من زاوية المخاطر الأمنية، بل يتم إبراز دورهم الفعلي في بناء وتعزيز التماسك الاجتماعي. فقط من خلال هذه المقاربة الشاملة يمكن تحقيق تكامل حقيقي، يُحوّل اللاجئين من "عناصر مشتبه بها" إلى "مواطنين فاعلين" يسهمون في أمن واستقرار الدول التي احتضنتهم.

الإعلام وأثره في تشكيل التصورات المجتمعية
تلعب التغطية الإعلامية دورًا محوريًا في تشكيل الرأي العام حول قضايا العنف والإرهاب، حيث تتحكم في كيفية فهم المجتمعات لهذه الأحداث وتفسيرها. في كثير من الأحيان، تركز وسائل الإعلام بشكل مكثف على هوية منفذي الهجمات الإرهابية، مع التركيز على أصولهم الدينية والعرقية، مما يؤدي إلى وصم مجتمعات بأكملها وربطها تلقائيًا بالتطرف والعنف. هذه التغطية الانتقائية تعزز من المخاوف المجتمعية وتخلق بيئة من الشك والريبة تجاه اللاجئين والمهاجرين، حتى عندما يكونون بعيدين تمامًا عن هذه الأفعال. الأسوأ من ذلك، أن هذه السرديات الإعلامية تغذي سياسات معادية للمهاجرين، وتدفع نحو اتخاذ إجراءات قد تضر بملايين الأفراد الأبرياء الذين يعيشون بسلام داخل المجتمعات المضيفة.
في المقابل، نجد أن التغطية الإعلامية تقلل من التركيز على الأفراد الذين يتصدون للإرهاب، كما حدث في قصة علاء الدين أ.، الذي لعب دورًا بطوليًا في إنقاذ حياة العديد من الأشخاص في فيلاخ. مثل هذه التصرفات غالبًا ما يتم تقديمها على أنها حالات فردية واستثنائية، بدلاً من الاعتراف بها كدليل على أن المهاجرين ليسوا كتلة متجانسة، وأن بينهم أفرادًا يضحون بأنفسهم لحماية المجتمعات التي يعيشون فيها. هذا التحيز في التغطية يؤدي إلى استمرار الصورة النمطية السلبية تجاه اللاجئين، ويجعل من الصعب تغيير التصورات العامة عنهم، حتى عندما يقومون بأعمال بطولية تخالف السرديات السائدة.
ولكي يكون الإعلام أكثر عدالة وتوازنًا، يجب عليه أن يتبنى نهجًا موضوعيًا ومتعدد الأبعاد عند تغطيته لهذه القضايا. بدلاً من التركيز على هوية المهاجم فقط، ينبغي أن تُسلط الأضواء على السياقات التي أدت إلى التطرف، والتحديات التي يواجهها المهاجرون في الاندماج، بالإضافة إلى عرض قصص إيجابية تبرز مساهماتهم في المجتمع. التغطية الإعلامية المتوازنة ليست مجرد مسألة أخلاقية، بل هي ضرورة لمكافحة التطرف نفسه، حيث إن تعزيز الصور الإيجابية للمهاجرين قد يساعد في منع الشباب من الوقوع في براثن الجماعات المتطرفة، التي تستغل الإقصاء والتهميش كوسائل لتجنيد الأفراد.

المقارنة بحادثة الدهس في ألمانيا: العنف ليس حكرًا على دين أو قومية
في نفس الأسبوع الذي وقعت فيه حادثة الطعن في فيلاخ بالنمسا، شهدت ألمانيا هجومًا مميتًا آخر، حيث قام لاجئ أفغاني بدهس مجموعة من العمال المضربين في مدينة ميونيخ، ما أدى إلى مقتل طفلة تبلغ من العمر عامين ووالدتها، وإصابة عدة أشخاص آخرين. هذا الحادث، على الرغم من اختلاف وسيلة التنفيذ، يشترك مع حادثة فيلاخ في كونه نموذجًا للعنف الفردي الذي ينفذه أشخاص متأثرون بأفكار متطرفة، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو العرقية. عندما ننظر إلى الحادثتين معًا، يتضح أن الإرهاب ليس مرتبطًا بدين معين أو ثقافة محددة، بل هو ظاهرة عالمية تنبع من عوامل متعددة تشمل التهميش الاجتماعي، والصراعات النفسية، والتأثر بالدعايات الأيديولوجية المتطرفة.
إن محاولة تفسير العنف فقط من خلال الدين أو العرق تبسيط مخل للواقع، حيث أن معظم الدراسات حول التطرف تشير إلى أن العوامل الرئيسية التي تدفع الأفراد إلى تنفيذ مثل هذه الهجمات تتجاوز الخلفيات الدينية، لتشمل الإقصاء المجتمعي، والشعور بالاغتراب، والبحث عن هوية بديلة. اللاجئون والمهاجرون الذين يجدون أنفسهم في بيئات جديدة غالبًا ما يواجهون تحديات كبيرة في الاندماج، وإذا لم تُوفَّر لهم المسارات المناسبة للشعور بالانتماء، فقد يصبحون عرضة للتأثر بأيديولوجيات متطرفة، سواء أكانت دينية أم قومية أم سياسية. وفي هذا السياق، يمكن تفسير انخراط بعض اللاجئين في أعمال العنف كنتاج مباشر للعزلة الاجتماعية، لا للانتماء الديني.
هذه الحوادث تعزز الحاجة إلى نقاش أعمق حول جذور العنف، بعيدًا عن التفسيرات السطحية التي تلقي باللوم على دين أو جنسية بعينها. الحل لا يكمن فقط في تشديد الإجراءات الأمنية، بل في معالجة الأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي تدفع بعض الأفراد إلى تبني العنف كوسيلة للتعبير. يجب أن يكون التركيز على سياسات إدماج أكثر فاعلية، وبرامج توعية تمنع الشباب من السقوط في فخ التطرف، بالإضافة إلى خلق بيئة تحارب العزلة بدلاً من تعزيزها. فكما أن العنف لا يعرف دينًا أو قومية، فإن الحلول لمواجهته يجب أن تكون شاملة، وتعتمد على معالجة الأسباب الجذرية بدلًا من الاكتفاء بردود الفعل الأمنية فقط.

خاتمة: الحاجة إلى مقاربة شاملة
الحوادث مثل اعتداء فيلاخ تطرح تحديات معقدة أمام المجتمعات الأوروبية، خاصة فيما يتعلق بدمج اللاجئين ومنع التطرف. الحل لا يكمن فقط في التشديد الأمني، بل في تعزيز سياسات الإدماج، ومعالجة أسباب الغربة والاغتراب التي قد تدفع بعض الأفراد إلى التطرف. في المقابل، يجب الاعتراف بدور الجاليات المهاجرة في مواجهة هذا الخطر، كما تجلى في تصرف علاء الدين أ.، الذي أثبت أن الدفاع عن القيم المجتمعية مسؤولية جماعية، وليست حكرًا على جهة دون أخرى.

شارك