سوريا 2025: قوى مسلحة تكتب جغرافيا جديدة
الثلاثاء 22/يوليو/2025 - 10:08 م
طباعة

تدخل سوريا عام 2025 مرحلة مفصلية في تاريخها الحديث، حيث تبدو البلاد أقرب من أي وقت مضى إلى سيناريو التقسيم الفعلي، بعد سلسلة تطورات أمنية وسياسية حرجة، من أبرزها تعثر تنفيذ اتفاق 10 مارس بين سلطات أحمد الشرع وقوات سوريا الديمقراطية، واشتداد الانتهاكات بحق العلويين في الساحل السوري، والهجوم الأخير على محافظة السويداء في 13 يوليو، الذي دفع رئاسة الموحدين الدروز للمطالبة بحماية دولية.
من الواضح أن التنبؤ بدقة بالاتجاه الذي ستتخذه الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط يمثل تحديا، لا سيما بالنظر إلى ديناميكيات الرهانات في سوريا والاتجاهات الحالية. الصراع متعدد المحاور هو في آن واحد حرب بالوكالة، ولا يزال الصراع محصورا بقوة في الصراع الطائفي والطائفي بين الدوائر العربية السنية من جهة، والمكونات السورية العلوية والدورز والكرد وغيرها من جهة أخرى. يضاف إلى ذلك التوترات بين المكونات الحضرية والريفية، وخاصة الدوائر العسكرية أو شبه العسكرية.
مشهد جيوسياسي معقد ومفتت
وتظهر خريطة السيطرة الصادرة عن معهد دراسة الحرب في أبريل 2025 واقعا متشظيا، بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، حيث تتوزع السيطرة الإقليمية بين عدة قوى رئيسية، حيث تسيطر هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها على حوالي 60% من الأراضي السورية وهي النظام الحاكم في دمشق الأن، بينما تحتفظ قوات سوريا الديمقراطية بنحو 30% من المساحة، خاصة في المناطق الشمالية الشرقية.
وتظهر خريطة السيطرة الصادرة عن معهد دراسة الحرب في أبريل 2025 استمرار الانقسام العميق والتعقيد الشديد في المشهد السوري. فبينما تسيطر سلطة دمشق على "سوريا المفيدة" - المناطق الغربية المكتظة بالسكان بما يشمل دمشق وحمص وحماة واللاذقية - تواجه تحديات أمنية مستمرة في الساحل ومحافظة حمص.
وفيما يتعلق بالتوزيع الديني والمذهبي في سوريا، فإن السنة يشكلون ما بين 65–70% من السكان، ويتركزون في المدن الكبرى (دمشق، حلب، حماة، حمص) والمناطق الريفية الواسعة.
فيما يبلغ عدد الدروز نحو مليون نسمة (≈5% من السكان)، ويتمركز أكثرهم في السويداء، ومطالبهم الأساسية دستور مدني لا مركزي، مشاركة في صنع القرار، وضم قانوني يضمن خصوصيتهم الدينية والاجتماعية.
وفي أبريل 2025 شهدت السويداء اشتباكات متقطعة وعقدت تسويات مؤقتة مع السلطة الانتقالية، إلا أن الطائفة رفضت تسليم السلاح قبل ضمانات دستورية.
كما يشكل العلويون نحو 10% من السكان، ويتركزون في الجبال الساحلية (اللاذقية–طرطوس)، وبعد سقوط الأسد شهدت الساحل مذابح راح ضحيتها 1,383 مدنيا، معظمهم علويون، ما عمق مخاوف الانتقام والعنف الطائفي.
ويطالب العلويون بمصالحات وطنية وضمانات أمنية قبل دمجهم في مؤسسات الدولة الجديدة، وبعض قياداتهم سعت لحماية تركية، وهو ما نفته أنقرة.
كما يشكل الشيعة الإثنى عشرية (من غير العلويين) حوالي 1–2% من السكان؛ أبرز تجمعاتهم في قرى "نبل–الزهراء" بحلب، وريف حمص، ودمشق (حي الأمين) حيث مقامات السيدة زينب ورقية، بعد استقلالهم سابقا بالتحالف مع إيران وحزب الله، التقوا الشرع في مارس 2025 وتلقوا وعودا بحرية التعبد وإدارة شؤون مراقدهم والحفاظ عليها.
وهناك أيضا الشيعية الإسماعيلية، حيث تعتبر سوريا المركز الرئيسي لتجمع أبناء الطائفة الإسماعيلية النزارية في الشرق الأوسط، الذين يعتبرون أنفسهم الجماعة الشيعية الرئيسية الثانية بعد الاثني عشرية.
ويبلغ عدد الإسماعيليين نحو 250 ألفا، ويمثلون واحدا في المئة من إجمالي عدد السكان في سوريا، ويعيشون في مدينة السلمية التي تقع على بعد 30 كم شرق مدينة حماة، كما توزعوا في عدد من المدن والقرى المحيطة بحماة مثل مصياف والقدموس ونهر الخوابي.
وفيما يتعلق بالمسحيين فقد انخفضت نسبتهم من 10% عام 2011 إلى نحو 3% في 2025، بعد هجرة قسرية وعنف ممنهج ضدهم؛ تعرضوا لتهجير واعتداءات من قبل هيئة تحرير الشام والفصائل المتشددة.
ويطالب مسيحو سوريا بضمانات أمنية ودستورية لحماية دورهم الديني والثقافي، ويعمل بطريرك أنطاكية على حث السلطة على "سوريا جديدة تقوم على الكرامة والمساواةط.
وإلى جانب ذلك، توجد الطائفة المرشدية التي تأسست على يد سلمان المرشد في الـ12 من يوليو/تموز عام 1923، ويتوزع أتباع الطائفة في أنحاء مختلفة من سوريا.
فيما يسيطر الأكراد عبر "قوات سوريا الديمقراطية" على نحو 30% من المساحة، ويضبطون 70% من حقول النفط والغاز، ولا توجد إحصائيات رسمية عن عدد الأكراد في سوريا، إلا أن معظم التقديرات تشير إلى أن أعدادهم تتراوح بين 2 و3 ملايين فرد، يتوزعون في مناطق الحسكة ومدينة القامشلي وعين العرب وعفرين وأحياء في دمشق وحلب، بحسب مركز جسور للدراسات.
ويطالب الأكراد بإدارة لامركزية فدرالية تحفظ مواردهم وتضمن حقوقهم، ويعتبرون ركن التوازن الجيوبوليتيكي بسبب السيطرة على منابع الطاقة والمعابر الحدودية.
أما التركمان والذي يقدر عددهم بنحو 300–600 ألف (3–5% من السكان)، يتمركزون في جبل التركمان (ريف اللاذقية)، وحلب الشمالية، شاركوا بقوة في الثورة ضمن "الجيش الوطني" المدعوم من تركيا، ويطالبون بحقوق ثقافية (تعليم لغتهم) ومشاركة سياسية متساوية دون امتيازات خاصة.
وفيما يتعلق بالأرمن الذين ينحدرون من أرمينيا التاريخية هم أيضا جزء من النسيج الوطني السوري، ومعظمهم يعتنقون الديانة المسيحية ولهم لغتهم الخاصة، وكان تعدادهم في سوريا قبل عام 2011 يقدر بحوالي 100 ألف، حيث سكن أكثر من 60 ألف منهم في حلب، فيما توزع الآخرون على مدن الكسب والقامشلي واليعقوبية وعين العرب ودير الزور والعاصمة دمشق.
أما الشركس الذين تعود أصولهم إلى القوقاز، وصلوا سوريا عام 1878، وهناك سكنوا بثلاث مناطق رئيسية هي محافظة القنيطرة، وكانت تضم الكتلة الكبرى منهم قبل احتلال إسرائيل للجولان، ومنطقة حلب، وفي مدينة دمشق، وبعض القرى في ضواحيها والشركس مسلمون سنة.
القوى والمجموعات المسلحة في سوريا
عقب سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، وبينما أعلن أحمد الشرع، قائد هيئة تحرير الشام، رئيسا انتقاليا لسوريا، لا تزال السيطرة على الأرض موزعة بين عدة فصائل مسلحة، لكل منها طموحاته ومشروعه السياسي، وأحيانا طائفيته.
ويعيش السوريون اليوم في ظل مشهد ميداني متداخل، تحكمه مجموعات مسلحة متفاوتة القوة والشرعية، وتتصاعد فيه المطالبات بالحماية الدولية، خاصة من الأقليات التي تشعر بخطر التهميش أو الاستهداف، إليح أبز القوى المسلحلة في سوريا.
هيئة تحرير الشام: من فصيل جهادي إلى "نظام حاكم"
بعد قيادتها لعملية "ردع العدوان" التي أنهت حكم الأسد، أصبحت هيئة تحرير الشام القوة السياسية والعسكرية المهيمنة، وتمركزت في العاصمة دمشق ومدن رئيسية في الغرب والوسط.
يترأسها أحمد الشرع، المعروف سابقا بـ"أبو محمد الجولاني"، والذي تم تنصيبه رئيسا انتقاليا في 29 يناير 2025 خلال مؤتمر ضم 18 فصيلا،ومن أبرز قواتها قوات العصائب الحمراء التابعة للهيئة أدت دورا حاسما في الحسم العسكري، وضم شخصيات جهادية أجنبية إلى قيادة الجيش السوري الجديد، منهم داغستانيون وطاجيك وأويغور، زاد من القلق الدولي والمحلي.
تحرير الشام هي الأن التي تسيطر على منظومة الحكم في سوريا على مستوى السلطة التنفيذية والعسكرية والأمنية، فيما حتى الان لم يتم انتخاب أو تشكيل السلطة الدستورية والشريعية في البلاد.
وأضح الشرع في مارس 2025 الدستور المؤقت لسوريا والذي أثار جدلا واسعا، خصوصا مع اعتماده الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع ورفضه للفدرلة.
ورغم وعود الهيئة بدمج الفصائل ضمن مؤسسات الدولة، ما تزال المخاوف قائمة حول طابع النظام الجديد، ومدى قبوله لمطالب الأقليات الدينية والعرقية.
"الجيش الوطني السوري" ذراع تركيا
كما سعد يتمركز "الجيش الوطني السوري" – المدعوم مباشرة من تركيا – في المناطق الحدودية شمال وشمال غرب سوريا، لا سيما في أعزاز، عفرين، جرابلس، الباب، ويبلغ قوامه العسكري يقارب 29,000 مقاتل موزعين على ثلاثة فيالق.
ومعظم فصائله دمجت اسميا في وزارة الدفاع السورية الجديدة، لكن ولاءها الحقيقي لا يزال لقيادات محلية وتوجيهات أنقرة، وهو يشكل ذراع تركيا في هاجمة مناطق نفوذ قوات سوريا الديمقراطية رغم اندماجه تحت وزارة الدفاع السورية.
قوات سوريا الديمقراطية: الكيان الكردي المتماسك
تسيطر قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على نحو 30% من الجغرافيا السورية في شمال وشرق البلاد، خصوصا في الحسكة والرقة وأجزاء من دير الزور، ولكنها اعد القوة الأكثر "ثروة" حيث تسيطر على نحو 70% من الموارد النفطية والغازية.
ورفضت مسودة الدستور الانتقالي، وتطالب بصيغة فدرالية تضمن حقوق الكرد والمكونات الأخرى ضمن الإدارة الذاتية.
وحملت "قسد" سلطة احمد الشرع بتعثر اتفاق 10 مارس، بعد عدم تنفيذ البنود المتفق عليها، وهو ما أدى إلى توجه قوات سوريا الديمقراطية لتوثيق علاقتها مع اطراف إقليمية ودولية على رأسها روسيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي، بالاضافة الى الولايات المتحدة الأمريكية.
العلويون بين المذابح وتأسيس "إقليم الساحل"
في مارس 2025، تعرض الساحل السوري لموجة عنف طائفي راح ضحيتها ما لا يقل عن 1,300 مدني علوي. هذه الأحداث أدت إلى احتجاجات أمام القاعدة الروسية في حميميم، وسط مطالبات بالحماية الدولية.
وهو ما ادى إلى خروج رجل الأعمال رامي مخلوف، أحد أعمدة النظام السابق، بالإعلان عن تأسيس "قوات النخبة" في الساحل بقرابة 150 ألف مقاتل، بالإضافة إلى مليون عنصر في "اللجان الشعبية"، ودعا إلى تدخل روسي لحماية "إقليم الساحل"، ما اعتبر مقدمة لتأسيس كيان شبه منفصل.
كما أعلن الضابط البارز في الفرقة الرابعة بالجيش السوري، غياث سليمان الدلا، عن تأسيس “المجلس العسكري لتحرير سوريا”، بهدف إسقاط نظام أحمد الشرع، في تطور لافت على الساحة السورية.
كما شهد مقر الكونغرس الأمريكي، 12 مايو 2025، انطلاق أعمال “المؤتمر العلوي الأول” تحت عنوان “السوريون الأمريكيون من أجل الديمقراطية في سوريا”، وسط حضور ممثلين عن مختلف المكونات السورية، حيث دعا المشاركون إلى تبني النظام الفيدرالي كحل مستدام للأزمة السورية المستمرة منذ سنوات.
في ظل الأوضاع الإنسانية المأساوية التي تشهدها سوريا، طالب رئيس المجلس الإسلامي العلوي الأعلى في سوريا والمهجر، العلامة الشيخ غزال غزال، بتوفير حماية دولية للمدنيين الأبرياء، وفتح لجنة تحقيق دولية مستقلة في المجازر التي يتعرض لها المدنيون في الساحل السوري. وقال الشيخ غزال إن ما يحدث في سوريا ليس مجرد صراع سياسي، بل هو قضية إنسانية بحتة تتطلب تدخل المجتمع الدولي لحماية النفس البشرية، بغض النظر عن العرق أو الدين أو القومية.
الدروز: معركة البقاء في السويداء
فيما يتعلق وضع الدروز لم يكن سهلا في التعامل مع السلطةالجديدة في دمشق، فقد تعرضت السويداء في يوليو 2025 لهجمات مفاجئة شنتها مجموعات من بعض العشائر المسلحة ومسلحين متطرفين مرتبطين بسلطة الشرع، أسفرت عن مقتل وإصابة المئات.
وهو ما ادى إلى مطالب الرئاسة الروحية للدروز بحماية دولية عاجلة، واتهمت جهات أمنية بالضلوع في دعم الهجمات.
ورفضت الرئاسة بشكل قاطع دخول أي جهات أمنية، من بينها الأمن العام والهيئة، متهمة بعض هذه الجهات بالدخول إلى الحدود الإدارية ليلة البارحة “بحجة الحماية”، لكنها في الواقع – وفق البيان – “أقدمت على قصف القرى الحدودية وساهمت في دعم العصابات التكفيرية بأسلحة ثقيلة وطائرات مسيرة”.
ويعد ملف "الحرس الوطني" المثير للجدل أكثر النقاط خلافا بين دمشق والدروز، وسط اتهامات بتمويل خارجي ودور غير شفاف لنجل شيخ العقل، سلمان الهجري.
أظهرت التطورات الأخيرة أن فصائل السويداء تتعامل مع عملية الدمج بحذر، حيث تحتفظ ببعض الاستقلالية في إدارة الشؤون الأمنية المحلية. وقد أكد مصدر من قيادة الشرطة في السويداء أن “جهاز الأمن العام شكل خلال الأشهر الخمسة الماضية بتعداد يزيد عن 2300 عنصر معظمهم من المنتسبين الجدد”.
وقد تم تأسيس المجلس العسكري في السويداء بقيادة طارق الشوفي، يعتمد على تنظيم التعاون بين القوى المسلحة في المجتمع المحلي، ويسعى لتشكيل نواة لمشروع سياسي وعسكري يمكن أن يؤدي إلى تشكيل إقليم خاص بالطائفة الدرزية في سوريا.
سوريا تحت حكم الشرع... وطن على حافة التقسيم؟
بينما ترفع سلطة الشرع شعار "سوريا واحدة، جيش واحد، حكومة واحدة"، تظهر على الأرض ملامح تفكك واقعي، تتقاسم فيه المكونات والفصائل النفوذ بقوة السلاح، لا بالدستور،، باتت سوريا اليوم مفككة واقعيا إلى مناطق حكم ذاتي، تتقاطع فيها أجندات محلية ودولية:
دمشق وإدلب: تحكمها هيئة تحرير الشام بنزعة دينية–سياسية مركزية
شمال شرق سوريا: تديره قسد كمنطقة فدرالية بحكم الأمر الواقع
الساحل السوري: على مشارف الانفصال بقيادة رامي مخلوف
السويداء: تطالب بحماية دولية وخصوصية إدارية–أمنية
الشمال الغربي: تحت هيمنة تركية مباشرة عبر "الجيش الوطني"
سيناريوهات المستقبل
الوحدة الحذرة: دمج تدريجي للفصائل المسلحة ضمن الجيش المركزي، مع ضمانات دستورية للأقليات وإدارة موارد الطاقة بشكل مشترك.
الفيدرالية الناعمة: اعتراف محدود بحكم ذاتي للمكونات "الاكردا- العلويين- الدروز" مقابل دعم دولي وإقليمي لعملية الانتقال السياسي.
الفوضى الممنهجة: استمرار النزاعات الطائفية وصراع الفصائل يؤدي إلى حالة تفكك أمني تستغلها القوى الخارجية، وهو ما قد يؤدي إلى تقسيم سوريا لـ دولتين ، دولة تضم السنة في حلب وشمال سوريا دمشق واجزاء من حمص وحماة، بدوة سنية تحت قيادة"تحرير الشام"، واخرى تجمع مكونات "الاكراد- العلويين- الدروز" والعرب في الجنوب السوري
أما السيناريو الثاني أن يؤدي إلى دويلات متعددة دولة الأكراد، واخرى للدروز وثالث للعلويين والشيعة ، ورابعة للسنة تحري الشام، واخر دولة سنية معتدلة.
الخلاصة تشكل الجغرافية السياسية في سوريا 2025 لحظة حاسمة تعود فيها مقدرات الدولة للتشكل عبر صراع النفوذ المحلي والإقليمي. إن قدرة القيادة الانتقالية على تحقيق توازن بين المركزية القوية واللامركزية المرجوة للأقليات، إضافة إلى ضبط التدخلات الخارجية، ستحدد ما إذا كانت سوريا ستنهض كدولة موحدة أم ستصبح مقسمة جيوستراتيجيا.
من الواضح أن التنبؤ بدقة بالاتجاه الذي ستتخذه الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط يمثل تحديا، لا سيما بالنظر إلى ديناميكيات الرهانات في سوريا والاتجاهات الحالية. الصراع متعدد المحاور هو في آن واحد حرب بالوكالة، ولا يزال الصراع محصورا بقوة في الصراع الطائفي والطائفي بين الدوائر العربية السنية من جهة، والمكونات السورية العلوية والدورز والكرد وغيرها من جهة أخرى. يضاف إلى ذلك التوترات بين المكونات الحضرية والريفية، وخاصة الدوائر العسكرية أو شبه العسكرية.
مشهد جيوسياسي معقد ومفتت
وتظهر خريطة السيطرة الصادرة عن معهد دراسة الحرب في أبريل 2025 واقعا متشظيا، بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، حيث تتوزع السيطرة الإقليمية بين عدة قوى رئيسية، حيث تسيطر هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها على حوالي 60% من الأراضي السورية وهي النظام الحاكم في دمشق الأن، بينما تحتفظ قوات سوريا الديمقراطية بنحو 30% من المساحة، خاصة في المناطق الشمالية الشرقية.
وتظهر خريطة السيطرة الصادرة عن معهد دراسة الحرب في أبريل 2025 استمرار الانقسام العميق والتعقيد الشديد في المشهد السوري. فبينما تسيطر سلطة دمشق على "سوريا المفيدة" - المناطق الغربية المكتظة بالسكان بما يشمل دمشق وحمص وحماة واللاذقية - تواجه تحديات أمنية مستمرة في الساحل ومحافظة حمص.
وفيما يتعلق بالتوزيع الديني والمذهبي في سوريا، فإن السنة يشكلون ما بين 65–70% من السكان، ويتركزون في المدن الكبرى (دمشق، حلب، حماة، حمص) والمناطق الريفية الواسعة.
فيما يبلغ عدد الدروز نحو مليون نسمة (≈5% من السكان)، ويتمركز أكثرهم في السويداء، ومطالبهم الأساسية دستور مدني لا مركزي، مشاركة في صنع القرار، وضم قانوني يضمن خصوصيتهم الدينية والاجتماعية.
وفي أبريل 2025 شهدت السويداء اشتباكات متقطعة وعقدت تسويات مؤقتة مع السلطة الانتقالية، إلا أن الطائفة رفضت تسليم السلاح قبل ضمانات دستورية.
كما يشكل العلويون نحو 10% من السكان، ويتركزون في الجبال الساحلية (اللاذقية–طرطوس)، وبعد سقوط الأسد شهدت الساحل مذابح راح ضحيتها 1,383 مدنيا، معظمهم علويون، ما عمق مخاوف الانتقام والعنف الطائفي.
ويطالب العلويون بمصالحات وطنية وضمانات أمنية قبل دمجهم في مؤسسات الدولة الجديدة، وبعض قياداتهم سعت لحماية تركية، وهو ما نفته أنقرة.
كما يشكل الشيعة الإثنى عشرية (من غير العلويين) حوالي 1–2% من السكان؛ أبرز تجمعاتهم في قرى "نبل–الزهراء" بحلب، وريف حمص، ودمشق (حي الأمين) حيث مقامات السيدة زينب ورقية، بعد استقلالهم سابقا بالتحالف مع إيران وحزب الله، التقوا الشرع في مارس 2025 وتلقوا وعودا بحرية التعبد وإدارة شؤون مراقدهم والحفاظ عليها.
وهناك أيضا الشيعية الإسماعيلية، حيث تعتبر سوريا المركز الرئيسي لتجمع أبناء الطائفة الإسماعيلية النزارية في الشرق الأوسط، الذين يعتبرون أنفسهم الجماعة الشيعية الرئيسية الثانية بعد الاثني عشرية.
ويبلغ عدد الإسماعيليين نحو 250 ألفا، ويمثلون واحدا في المئة من إجمالي عدد السكان في سوريا، ويعيشون في مدينة السلمية التي تقع على بعد 30 كم شرق مدينة حماة، كما توزعوا في عدد من المدن والقرى المحيطة بحماة مثل مصياف والقدموس ونهر الخوابي.
وفيما يتعلق بالمسحيين فقد انخفضت نسبتهم من 10% عام 2011 إلى نحو 3% في 2025، بعد هجرة قسرية وعنف ممنهج ضدهم؛ تعرضوا لتهجير واعتداءات من قبل هيئة تحرير الشام والفصائل المتشددة.
ويطالب مسيحو سوريا بضمانات أمنية ودستورية لحماية دورهم الديني والثقافي، ويعمل بطريرك أنطاكية على حث السلطة على "سوريا جديدة تقوم على الكرامة والمساواةط.
وإلى جانب ذلك، توجد الطائفة المرشدية التي تأسست على يد سلمان المرشد في الـ12 من يوليو/تموز عام 1923، ويتوزع أتباع الطائفة في أنحاء مختلفة من سوريا.
فيما يسيطر الأكراد عبر "قوات سوريا الديمقراطية" على نحو 30% من المساحة، ويضبطون 70% من حقول النفط والغاز، ولا توجد إحصائيات رسمية عن عدد الأكراد في سوريا، إلا أن معظم التقديرات تشير إلى أن أعدادهم تتراوح بين 2 و3 ملايين فرد، يتوزعون في مناطق الحسكة ومدينة القامشلي وعين العرب وعفرين وأحياء في دمشق وحلب، بحسب مركز جسور للدراسات.
ويطالب الأكراد بإدارة لامركزية فدرالية تحفظ مواردهم وتضمن حقوقهم، ويعتبرون ركن التوازن الجيوبوليتيكي بسبب السيطرة على منابع الطاقة والمعابر الحدودية.
أما التركمان والذي يقدر عددهم بنحو 300–600 ألف (3–5% من السكان)، يتمركزون في جبل التركمان (ريف اللاذقية)، وحلب الشمالية، شاركوا بقوة في الثورة ضمن "الجيش الوطني" المدعوم من تركيا، ويطالبون بحقوق ثقافية (تعليم لغتهم) ومشاركة سياسية متساوية دون امتيازات خاصة.
وفيما يتعلق بالأرمن الذين ينحدرون من أرمينيا التاريخية هم أيضا جزء من النسيج الوطني السوري، ومعظمهم يعتنقون الديانة المسيحية ولهم لغتهم الخاصة، وكان تعدادهم في سوريا قبل عام 2011 يقدر بحوالي 100 ألف، حيث سكن أكثر من 60 ألف منهم في حلب، فيما توزع الآخرون على مدن الكسب والقامشلي واليعقوبية وعين العرب ودير الزور والعاصمة دمشق.
أما الشركس الذين تعود أصولهم إلى القوقاز، وصلوا سوريا عام 1878، وهناك سكنوا بثلاث مناطق رئيسية هي محافظة القنيطرة، وكانت تضم الكتلة الكبرى منهم قبل احتلال إسرائيل للجولان، ومنطقة حلب، وفي مدينة دمشق، وبعض القرى في ضواحيها والشركس مسلمون سنة.
القوى والمجموعات المسلحة في سوريا
عقب سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، وبينما أعلن أحمد الشرع، قائد هيئة تحرير الشام، رئيسا انتقاليا لسوريا، لا تزال السيطرة على الأرض موزعة بين عدة فصائل مسلحة، لكل منها طموحاته ومشروعه السياسي، وأحيانا طائفيته.
ويعيش السوريون اليوم في ظل مشهد ميداني متداخل، تحكمه مجموعات مسلحة متفاوتة القوة والشرعية، وتتصاعد فيه المطالبات بالحماية الدولية، خاصة من الأقليات التي تشعر بخطر التهميش أو الاستهداف، إليح أبز القوى المسلحلة في سوريا.
هيئة تحرير الشام: من فصيل جهادي إلى "نظام حاكم"
بعد قيادتها لعملية "ردع العدوان" التي أنهت حكم الأسد، أصبحت هيئة تحرير الشام القوة السياسية والعسكرية المهيمنة، وتمركزت في العاصمة دمشق ومدن رئيسية في الغرب والوسط.
يترأسها أحمد الشرع، المعروف سابقا بـ"أبو محمد الجولاني"، والذي تم تنصيبه رئيسا انتقاليا في 29 يناير 2025 خلال مؤتمر ضم 18 فصيلا،ومن أبرز قواتها قوات العصائب الحمراء التابعة للهيئة أدت دورا حاسما في الحسم العسكري، وضم شخصيات جهادية أجنبية إلى قيادة الجيش السوري الجديد، منهم داغستانيون وطاجيك وأويغور، زاد من القلق الدولي والمحلي.
تحرير الشام هي الأن التي تسيطر على منظومة الحكم في سوريا على مستوى السلطة التنفيذية والعسكرية والأمنية، فيما حتى الان لم يتم انتخاب أو تشكيل السلطة الدستورية والشريعية في البلاد.
وأضح الشرع في مارس 2025 الدستور المؤقت لسوريا والذي أثار جدلا واسعا، خصوصا مع اعتماده الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع ورفضه للفدرلة.
ورغم وعود الهيئة بدمج الفصائل ضمن مؤسسات الدولة، ما تزال المخاوف قائمة حول طابع النظام الجديد، ومدى قبوله لمطالب الأقليات الدينية والعرقية.
"الجيش الوطني السوري" ذراع تركيا
كما سعد يتمركز "الجيش الوطني السوري" – المدعوم مباشرة من تركيا – في المناطق الحدودية شمال وشمال غرب سوريا، لا سيما في أعزاز، عفرين، جرابلس، الباب، ويبلغ قوامه العسكري يقارب 29,000 مقاتل موزعين على ثلاثة فيالق.
ومعظم فصائله دمجت اسميا في وزارة الدفاع السورية الجديدة، لكن ولاءها الحقيقي لا يزال لقيادات محلية وتوجيهات أنقرة، وهو يشكل ذراع تركيا في هاجمة مناطق نفوذ قوات سوريا الديمقراطية رغم اندماجه تحت وزارة الدفاع السورية.
قوات سوريا الديمقراطية: الكيان الكردي المتماسك
تسيطر قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على نحو 30% من الجغرافيا السورية في شمال وشرق البلاد، خصوصا في الحسكة والرقة وأجزاء من دير الزور، ولكنها اعد القوة الأكثر "ثروة" حيث تسيطر على نحو 70% من الموارد النفطية والغازية.
ورفضت مسودة الدستور الانتقالي، وتطالب بصيغة فدرالية تضمن حقوق الكرد والمكونات الأخرى ضمن الإدارة الذاتية.
وحملت "قسد" سلطة احمد الشرع بتعثر اتفاق 10 مارس، بعد عدم تنفيذ البنود المتفق عليها، وهو ما أدى إلى توجه قوات سوريا الديمقراطية لتوثيق علاقتها مع اطراف إقليمية ودولية على رأسها روسيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي، بالاضافة الى الولايات المتحدة الأمريكية.
العلويون بين المذابح وتأسيس "إقليم الساحل"
في مارس 2025، تعرض الساحل السوري لموجة عنف طائفي راح ضحيتها ما لا يقل عن 1,300 مدني علوي. هذه الأحداث أدت إلى احتجاجات أمام القاعدة الروسية في حميميم، وسط مطالبات بالحماية الدولية.
وهو ما ادى إلى خروج رجل الأعمال رامي مخلوف، أحد أعمدة النظام السابق، بالإعلان عن تأسيس "قوات النخبة" في الساحل بقرابة 150 ألف مقاتل، بالإضافة إلى مليون عنصر في "اللجان الشعبية"، ودعا إلى تدخل روسي لحماية "إقليم الساحل"، ما اعتبر مقدمة لتأسيس كيان شبه منفصل.
كما أعلن الضابط البارز في الفرقة الرابعة بالجيش السوري، غياث سليمان الدلا، عن تأسيس “المجلس العسكري لتحرير سوريا”، بهدف إسقاط نظام أحمد الشرع، في تطور لافت على الساحة السورية.
كما شهد مقر الكونغرس الأمريكي، 12 مايو 2025، انطلاق أعمال “المؤتمر العلوي الأول” تحت عنوان “السوريون الأمريكيون من أجل الديمقراطية في سوريا”، وسط حضور ممثلين عن مختلف المكونات السورية، حيث دعا المشاركون إلى تبني النظام الفيدرالي كحل مستدام للأزمة السورية المستمرة منذ سنوات.
في ظل الأوضاع الإنسانية المأساوية التي تشهدها سوريا، طالب رئيس المجلس الإسلامي العلوي الأعلى في سوريا والمهجر، العلامة الشيخ غزال غزال، بتوفير حماية دولية للمدنيين الأبرياء، وفتح لجنة تحقيق دولية مستقلة في المجازر التي يتعرض لها المدنيون في الساحل السوري. وقال الشيخ غزال إن ما يحدث في سوريا ليس مجرد صراع سياسي، بل هو قضية إنسانية بحتة تتطلب تدخل المجتمع الدولي لحماية النفس البشرية، بغض النظر عن العرق أو الدين أو القومية.
الدروز: معركة البقاء في السويداء
فيما يتعلق وضع الدروز لم يكن سهلا في التعامل مع السلطةالجديدة في دمشق، فقد تعرضت السويداء في يوليو 2025 لهجمات مفاجئة شنتها مجموعات من بعض العشائر المسلحة ومسلحين متطرفين مرتبطين بسلطة الشرع، أسفرت عن مقتل وإصابة المئات.
وهو ما ادى إلى مطالب الرئاسة الروحية للدروز بحماية دولية عاجلة، واتهمت جهات أمنية بالضلوع في دعم الهجمات.
ورفضت الرئاسة بشكل قاطع دخول أي جهات أمنية، من بينها الأمن العام والهيئة، متهمة بعض هذه الجهات بالدخول إلى الحدود الإدارية ليلة البارحة “بحجة الحماية”، لكنها في الواقع – وفق البيان – “أقدمت على قصف القرى الحدودية وساهمت في دعم العصابات التكفيرية بأسلحة ثقيلة وطائرات مسيرة”.
ويعد ملف "الحرس الوطني" المثير للجدل أكثر النقاط خلافا بين دمشق والدروز، وسط اتهامات بتمويل خارجي ودور غير شفاف لنجل شيخ العقل، سلمان الهجري.
أظهرت التطورات الأخيرة أن فصائل السويداء تتعامل مع عملية الدمج بحذر، حيث تحتفظ ببعض الاستقلالية في إدارة الشؤون الأمنية المحلية. وقد أكد مصدر من قيادة الشرطة في السويداء أن “جهاز الأمن العام شكل خلال الأشهر الخمسة الماضية بتعداد يزيد عن 2300 عنصر معظمهم من المنتسبين الجدد”.
وقد تم تأسيس المجلس العسكري في السويداء بقيادة طارق الشوفي، يعتمد على تنظيم التعاون بين القوى المسلحة في المجتمع المحلي، ويسعى لتشكيل نواة لمشروع سياسي وعسكري يمكن أن يؤدي إلى تشكيل إقليم خاص بالطائفة الدرزية في سوريا.
سوريا تحت حكم الشرع... وطن على حافة التقسيم؟
بينما ترفع سلطة الشرع شعار "سوريا واحدة، جيش واحد، حكومة واحدة"، تظهر على الأرض ملامح تفكك واقعي، تتقاسم فيه المكونات والفصائل النفوذ بقوة السلاح، لا بالدستور،، باتت سوريا اليوم مفككة واقعيا إلى مناطق حكم ذاتي، تتقاطع فيها أجندات محلية ودولية:
دمشق وإدلب: تحكمها هيئة تحرير الشام بنزعة دينية–سياسية مركزية
شمال شرق سوريا: تديره قسد كمنطقة فدرالية بحكم الأمر الواقع
الساحل السوري: على مشارف الانفصال بقيادة رامي مخلوف
السويداء: تطالب بحماية دولية وخصوصية إدارية–أمنية
الشمال الغربي: تحت هيمنة تركية مباشرة عبر "الجيش الوطني"
سيناريوهات المستقبل
الوحدة الحذرة: دمج تدريجي للفصائل المسلحة ضمن الجيش المركزي، مع ضمانات دستورية للأقليات وإدارة موارد الطاقة بشكل مشترك.
الفيدرالية الناعمة: اعتراف محدود بحكم ذاتي للمكونات "الاكردا- العلويين- الدروز" مقابل دعم دولي وإقليمي لعملية الانتقال السياسي.
الفوضى الممنهجة: استمرار النزاعات الطائفية وصراع الفصائل يؤدي إلى حالة تفكك أمني تستغلها القوى الخارجية، وهو ما قد يؤدي إلى تقسيم سوريا لـ دولتين ، دولة تضم السنة في حلب وشمال سوريا دمشق واجزاء من حمص وحماة، بدوة سنية تحت قيادة"تحرير الشام"، واخرى تجمع مكونات "الاكراد- العلويين- الدروز" والعرب في الجنوب السوري
أما السيناريو الثاني أن يؤدي إلى دويلات متعددة دولة الأكراد، واخرى للدروز وثالث للعلويين والشيعة ، ورابعة للسنة تحري الشام، واخر دولة سنية معتدلة.
الخلاصة تشكل الجغرافية السياسية في سوريا 2025 لحظة حاسمة تعود فيها مقدرات الدولة للتشكل عبر صراع النفوذ المحلي والإقليمي. إن قدرة القيادة الانتقالية على تحقيق توازن بين المركزية القوية واللامركزية المرجوة للأقليات، إضافة إلى ضبط التدخلات الخارجية، ستحدد ما إذا كانت سوريا ستنهض كدولة موحدة أم ستصبح مقسمة جيوستراتيجيا.