الحدود الملتهبة بين أفغانستان وباكستان..غارات جديدة وتصعيد قديم

الجمعة 29/أغسطس/2025 - 10:42 م
طباعة الحدود الملتهبة بين محمد شعت
 
شهدت المناطق الحدودية بين أفغانستان وباكستان خلال الأيام الأخيرة تصعيداً جديداً تمثل في سلسلة غارات نفذتها طائرات مسيّرة باكستانية على ولايات ننغرهار وكونار وخوست، ما أدى إلى مقتل وإصابة عدد من المدنيين بينهم أطفال ونساء. 
ونقلت تقارير أفغانية عن مصادر مصادر محلية في ولاية ننغرهار قولها: إن طائرات بدون طيار استهدفت منازل في مديرية شينواري، ما أسفر عن إصابة ثلاثة أطفال وامرأة، فيما أشارت السلطات في خوست إلى مقتل ثلاثة أطفال وإصابة خمسة آخرين جراء قصف منزل لرجل أعمال في مديرية سيبيرا. ورغم امتناع حركة طالبان عن توجيه الاتهام المباشر في البداية، إلا أن وزارة خارجيتها سرعان ما استدعت السفير الباكستاني في كابول وقدمت احتجاجاً رسمياً ووصفت الغارات بأنها “انتهاك صارخ للسيادة الأفغانية” و“عمل استفزازي” من شأنه أن تكون له عواقب.
هذه التطورات ليست سوى حلقة جديدة في مسلسل طويل من التوترات المتكررة على طول خط ديوراند الحدودي، حيث تتداخل الجغرافيا القبلية المعقدة مع المصالح السياسية والأمنية المتناقضة، ما يجعل المنطقة مسرحاً دائماً للاشتباكات والاتهامات المتبادلة بين كابول وإسلام آباد.

خط ديوراند.. جغرافيا النزاع الدائم

يمتد خط ديوراند، الذي رسمته بريطانيا عام 1893 لفصل أفغانستان عن الهند البريطانية، على طول أكثر من 2600 كيلومتر، مخترقاً مناطق قبلية ذات امتدادات اجتماعية وسياسية عميقة عبر الضفتين. ورغم أن باكستان ورثت هذا الخط كحد رسمي بعد استقلالها عام 1947، فإن الحكومات الأفغانية المتعاقبة لم تعترف به رسمياً، معتبرة أن تقسيم القبائل البشتونية كان قراراً استعمارياً تعسفياً. ومع وصول طالبان إلى الحكم في كابول عام 2021، كانت التوقعات أن تتحسن العلاقات مع إسلام آباد بالنظر إلى الروابط الأيديولوجية والتاريخية، غير أن الواقع كشف سريعاً عن أن خط ديوراند يظل أكبر عقدة في علاقات البلدين.

فقد أدى رفض طالبان الاعتراف بالحدود الحالية إلى استمرار التوترات، حيث تشتبك القوات بين الحين والآخر في نقاط العبور الرسمية وغير الرسمية، بينما تشكل المناطق الجبلية والمعابر الوعرة نقاطاً رخوة تستخدمها الجماعات المسلحة في التنقل بين البلدين. وفي ظل غياب ترتيبات واضحة لإدارة الحدود، تتحول كل حادثة أمنية إلى سبب إضافي لتأجيج الخلافات بين الجارتين.

طالبان باكستان.. عقدة أمنية مشتركة

إذا كان خط ديوراند يمثل العقدة التاريخية، فإن حركة طالبان باكستان (TTP) تمثل العقدة الأمنية الراهنة. فهذه الجماعة، التي تأسست عام 2007 وتبنت أيديولوجيا قريبة من طالبان الأفغانية، تشن منذ سنوات هجمات متكررة على أهداف داخل باكستان، مستهدفة قوات الأمن والمدنيين على السواء. ورغم أن الجيش الباكستاني تمكن من إضعافها في فترات سابقة عبر عمليات عسكرية واسعة، فإنها استعادت نشاطها بقوة بعد عودة طالبان إلى الحكم في كابول، حيث تؤكد إسلام آباد أن الحركة وجدت في الأراضي الأفغانية ملاذاً آمناً لإعادة تنظيم صفوفها والتخطيط لعملياتها.

وعلى هذا الأساس، تبرر باكستان غاراتها الجوية المتكررة عبر الحدود بأنها جزء من حربها على الإرهاب ووسيلة للضغط على طالبان الأفغانية كي تتخذ موقفاً حازماً من استضافة عناصر طالبان الباكستانية. غير أن كابول ترفض هذه الرواية وتعتبرها ذريعة لانتهاك سيادتها، مؤكدة أن استقرار المنطقة لا يتحقق عبر الغارات بل عبر التعاون السياسي والأمني المشترك. ويزيد من تعقيد الموقف أن طالبان الأفغانية نفسها تواجه معضلة: فهي من جهة لا تريد خسارة الدعم الشعبي بين القبائل المتداخلة مع طالبان باكستان، ومن جهة أخرى تسعى للحفاظ على علاقات مستقرة مع إسلام آباد باعتبارها منفذها الاقتصادي الأهم.

علاقات مأزومة وردود فعل غاضبة

الغارات الأخيرة فجرت موجة من ردود الفعل الغاضبة داخل أفغانستان، حيث اعتبر الرئيس الأسبق حامد كرزاي أن باكستان “تحصد نتائج سياساتها الخاطئة” وأن انتهاك السيادة لن يحميها من الإرهاب. أما وزير الخارجية السابق حنيف أتمار فقد ذهب أبعد من ذلك حين وصف الإرهاب بأنه “نتاج السياسات الباكستانية الخطيرة” التي قسمت الجماعات إلى “إرهابيين أخيار وأشرار”، وهو ما ساهم في استمرار دوامة العنف. واعتبر مسؤولون وشخصيات أفغانية أخرى أن باكستان لا تريد في الأساس وجود نظام قوي في كابول، أياً كان لونه الأيديولوجي، وأنها تتعامل مع أفغانستان كساحة نفوذ يجب إخضاعها لسياساتها الأمنية.

أما باكستان، فترى أن طالبان الأفغانية لم تفِ بوعودها بمنع استخدام الأراضي الأفغانية كمنطلق لهجمات ضدها، وتؤكد أن مقتل جنودها وضباطها في كمائن وعمليات انتحارية منسوبة لطالبان باكستان يجعلها مضطرة إلى التحرك عسكرياً عبر الحدود إذا لم تتحمل كابول مسؤولياتها. وفي هذه النقطة بالذات تتجلى أزمة الثقة العميقة بين الجانبين، حيث ينظر كل طرف إلى الآخر باعتباره متواطئاً بشكل أو بآخر في استمرار دوامة العنف.

سيناريوهات محتملة

المشهد الراهن ينذر بمزيد من التصعيد إذا لم يتم التوصل إلى تفاهمات واضحة بين الطرفين. فاستمرار باكستان في تنفيذ غارات أحادية الجانب سيعزز خطاب طالبان الداخلي حول “حماية السيادة” ويضعها في موقف المدافع عن الوطن، وهو ما قد يدفعها لتبني سياسات أكثر تشدداً ضد إسلام آباد. في المقابل، فإن غضّ طالبان الطرف عن نشاط طالبان باكستان سيزيد الضغوط الباكستانية وربما يقود إلى توسيع نطاق العمليات العسكرية عبر الحدود، الأمر الذي يهدد بانزلاق المنطقة إلى صدام مباشر أكبر.

السيناريو الأقرب هو بقاء الوضع على حاله: اشتباكات متقطعة، غارات متكررة، وبيانات دبلوماسية غاضبة من الجانبين، فيما تستمر الجماعات المسلحة باستغلال الفوضى الحدودية لتعزيز نشاطها. لكن ثمة احتمال آخر يتمثل في تدخل أطراف إقليمية ودولية لدفع البلدين نحو ترتيبات أمنية مشتركة لإدارة الحدود، خاصة وأن استمرار النزاع ينعكس سلباً على مشاريع إقليمية كبرى مثل مبادرة “الحزام والطريق” الصينية وخطط الربط التجاري بين آسيا الوسطى وجنوب آسيا.

إن الحدود الأفغانية الباكستانية ستظل مرآة للتناقضات العميقة بين الجارين، حيث تختلط الجغرافيا بالسياسة والدين بالأمن، ما يجعل أي انفراج هشاً ومعرضاً للانتكاس. وإذا لم تُوضع آليات عملية لضبط الحدود والتعامل المشترك مع الجماعات المسلحة، فإن المنطقة ستبقى أسيرة “الحدود الملتهبة” بكل ما تحمله من تداعيات إنسانية وأمنية وسياسية.


شارك