غزة.. بين المناورة السياسية والمسار الجاد لإنهاء الحرب

الأربعاء 24/سبتمبر/2025 - 10:31 م
طباعة غزة.. بين المناورة حسام الحداد
 
تأتي تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأخيرة بشأن الحرب في غزة في لحظة حساسة، حيث يواصل المشهد الميداني التدهور مع اتساع نطاق العمليات العسكرية الإسرائيلية. هذه التصريحات أعادت إلى الواجهة أسئلة قديمة جديدة حول جدية الموقف الأميركي: هل تنطلق من رؤية إستراتيجية تهدف إلى تغيير مسار الأحداث فعلاً، أم أنها مجرد محاولة لإدارة الأزمة بدلاً من حلها؟
من ناحية أولى، تبدو تحركات ترمب وكأنها مناورة سياسية في سياق دولي معقد. فهي تركز على ملف الرهائن بشكل رئيسي، وهو ملف مهم لكنه ليس جوهر الأزمة. هذا الاختزال قد يمنح واشنطن فرصة للظهور بمظهر الوسيط الإنساني، دون أن تضطر إلى مواجهة إسرائيل بخصوص سياساتها العسكرية والاستيطانية التي تشكل لبّ الصراع. وهنا، يثور التساؤل: هل يسعى ترمب إلى كسب الوقت، ريثما تتضح نتائج الميدان لصالح إسرائيل، أم أنه يريد إعادة التموضع الأميركي في المنطقة على حساب المأساة الفلسطينية؟
في المقابل، لا يمكن إغفال أن ثمة من يقرأ تصريحات ترمب بوصفها محاولة لاستكشاف "مسار جدي" نحو وقف الحرب. فإشارته إلى اللقاء المرتقب مع نتنياهو، والاجتماع مع قادة عرب وإسلاميين، قد تعكس اختباراً لمدى إمكانية صياغة إطار تفاوضي جديد. لكن هذا المسار يظل غامضاً ومفتقراً إلى خطوات عملية على الأرض، خاصة في ظل استمرار العمليات العسكرية في غزة وتوغل القوات الإسرائيلية في عمق المدينة.
وعليه، تتراوح قراءة الموقف الأميركي بين احتمالين متناقضين: الأول هو اعتبار تصريحات ترمب مجرد تكتيك سياسي هدفه إدارة الوقت والظهور كوسيط بلا تكلفة سياسية حقيقية، والثاني هو رؤيتها كبداية مسار قد يتطور إلى ضغوط أميركية جدية على إسرائيل. غير أن المؤشرات الحالية – من غياب خطة واضحة، والتركيز على ملف الرهائن فقط، وتجاهل المطلب الأوسع بوقف إطلاق النار – تجعل من الاحتمال الأول أكثر ترجيحاً في هذه المرحلة.

الرهائن أولاً... تجاهل جوهر الأزمة
أولى الرئيس الأميركي دونالد ترمب اهتماماً بارزاً في خطابه لقضية الرهائن المحتجزين في غزة، مقدّماً إياها باعتبارها المدخل الأساسي لأي تسوية محتملة. وقد حرص على التأكيد بأن الإفراج عنهم هو الخطوة الأولى التي يجب أن يتوحد المجتمع الدولي خلفها، في وقت يقدَّر فيه عدد الرهائن بـ 48 شخصاً، يُعتقد أن نحو 20 منهم ما زالوا أحياء. هذا التركيز أعطى انطباعاً بأن الإدارة الأميركية ترى الأزمة من زاوية ضيقة، تربط بين مسار الحرب وملف محدد لا يعالج أصل الصراع.
إشكالية هذا الطرح تكمن في أنه يتجاهل حقيقة أن الأزمة في غزة تتجاوز البعد الإنساني المرتبط بالرهائن. فالمدينة التي تضم أكثر من مليون إنسان تعاني من حصار خانق وقصف متواصل، ما يجعل الحديث عن الرهائن فقط أقرب إلى صرف الأنظار عن الكارثة الإنسانية الأشمل التي يعيشها المدنيون يومياً. هذا التحييد للمشهد الكلي يسهم في إضعاف صورة الولايات المتحدة كوسيط نزيه قادر على مخاطبة جذور الأزمة.
إضافة إلى ذلك، يعكس خطاب ترمب نوعاً من التماهي مع الرواية الإسرائيلية التي تحاول إبراز ملف الرهائن على أنه المحرك الأساسي لاستمرار الحرب. فعوضاً عن المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار، أو الدفع باتجاه حل سياسي يضع إطاراً واضحاً للتسوية، اكتفى ترمب بربط التقدم في أي مسار تفاوضي بالإفراج عن الرهائن، ما يمنح إسرائيل مساحة إضافية للاستمرار في عملياتها العسكرية بذريعة أن أهداف الحرب لم تُستكمل بعد.
وبذلك، يظهر أن التركيز الأميركي على قضية الرهائن ليس مجرد مسألة إنسانية، بل أداة سياسية لإعادة صياغة أولويات الأزمة بما يتماشى مع مصالح إسرائيل. هذا النهج لا يساهم في معالجة جذور الصراع الممتد منذ عقود، بل يرسّخ منطق الأزمات الجزئية على حساب الحلول الشاملة، وهو ما يثير شكوكا جدية حول نوايا واشنطن وقدرتها على دفع الأمور نحو مسار سياسي حقيقي.

بين الغموض والبراجماتية
الاجتماع الذي عقده الرئيس الأميركي دونالد ترمب مع عدد من قادة الدول العربية والإسلامية في نيويورك جاء محاطاً بالكثير من الغموض، إذ لم تُعلن عنه تفاصيل واضحة، ولم تخرج عنه بيانات تحدد مواقف أو خطوات عملية. اقتصرت المداولات، بحسب ما تسرب من مصادر مختلفة، على تبادل عام للأفكار وتأكيدات بروتوكولية حول أهمية السلام ووقف الحرب، ما أعطى الانطباع بأن اللقاء أقرب إلى استعراض دبلوماسي منه إلى جلسة عمل جادة ترسم ملامح حل.
هذا الغموض المتعمد يتماشى مع أسلوب السياسة الأميركية التقليدي في إدارة الأزمات الكبرى، حيث تُفضّل واشنطن إبقاء المواقف ضبابية لتمنح نفسها هامشاً واسعاً للمناورة. فبدلاً من الالتزام بخطة واضحة يمكن محاسبتها عليها، تكتفي بإشارات متناقضة تسمح لها بالتراجع أو التقدم وفقاً لمصالحها الآنية. وفي حالة غزة، يبدو أن هذا النهج يهدف إلى اختبار ردود أفعال الأطراف الإقليمية المختلفة قبل بلورة موقف أميركي أكثر تحديداً.
من جهة أخرى، يعكس هذا الأسلوب قدراً من البراجماتية السياسية التي تميز الإدارة الأميركية. فالغموض هنا ليس مجرد ارتباك، بل أداة مقصودة تسمح بفتح قنوات متعددة: فمن ناحية يمكن لواشنطن أن توحي بأنها تضغط من أجل بدء مفاوضات حتى في ظل استمرار العمليات العسكرية، ومن ناحية أخرى يمكنها غض الطرف عن التوسع الإسرائيلي في الضفة الغربية أو سياسات التهجير، ما يضعها في موقع يمكّنها من الاستفادة من كلا الاتجاهين.
لكن خطورة هذه المقاربة تكمن في أنها تترك الباب مفتوحاً أمام استمرار النزيف الفلسطيني دون ضمانات لأي تقدم سياسي. فإبقاء الأمور عائمة، والاكتفاء بلغة دبلوماسية فضفاضة، يعزز موقف إسرائيل التي تستغل غياب الضغوط الحقيقية لمواصلة عملياتها على الأرض. وبذلك يتحول الغموض الأميركي من أداة للمناورة إلى غطاء سياسي يطيل أمد الحرب، ويجعل أي حديث عن مسار سلام مجرد شعار لا يجد طريقه إلى التنفيذ. 

العرب بين المبادرة والتهميش
أظهرت العواصم العربية، وتحديداً القاهرة والدوحة، قدراً أكبر من الجدية في التعامل مع الحرب على غزة مقارنة بالتحركات الأميركية الغامضة. فمصر طرحت خطة واضحة المعالم لما يُعرف بـ"اليوم التالي"، تضمنت ضرورة عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة وتوحيدها مع الضفة الغربية تحت منظومة حكم واحدة، إضافة إلى استعدادها لدعم أي جهود دولية لتأمين هذه العودة من خلال بعثة دولية أو ترتيبات أمنية خاصة. وفي المقابل، استثمرت قطر ثقلها الدبلوماسي في الاستمرار بالوساطة مع حركة "حماس" وإسرائيل، رغم الضغوط العسكرية التي استهدفت حتى الوفد المفاوض للحركة في الدوحة.
هذه التحركات العربية عكست رغبة في الخروج من دائرة رد الفعل إلى تقديم بدائل سياسية يمكن البناء عليها، بما يشمل إعادة الاعتبار للسلطة الفلسطينية باعتبارها الجهة الشرعية المعترف بها دولياً. ومع ذلك، فإن هذه المبادرات لا تزال تواجه عقبة أساسية تتمثل في غياب الإرادة الأميركية للضغط على إسرائيل، وهو ما يحول دون تحويل الأفكار المطروحة إلى خطوات عملية قابلة للتنفيذ على الأرض.
الواقع يكشف أن واشنطن تظل الممسك الحقيقي بخيوط اللعبة، حيث لا يمكن لأي خطة عربية أن تتحول إلى مسار ناجح دون غطاء أميركي. فإسرائيل لن تقبل بدخول السلطة الفلسطينية إلى غزة أو التفاوض على مستقبل القطاع إلا إذا جاء الأمر مدعوماً من البيت الأبيض. وبالتالي، تبقى المبادرات العربية مهما بلغت أهميتها محصورة في إطار البيانات الدبلوماسية، ما لم تتبنها واشنطن كجزء من استراتيجيتها الخاصة في المنطقة.
هذه المعادلة تضع العرب في موقع صعب بين المبادرة والتهميش. فمن جهة، يسعى الفاعلون الإقليميون إلى تقديم حلول عملية تجنب المنطقة مخاطر التهجير والفوضى الممتدة، ومن جهة أخرى يجدون أنفسهم مرتهنين لقرار أميركي قد يُضعف تلك الجهود أو يعطلها بالكامل. وبهذا تتحول المبادرات العربية إلى أوراق تفاوضية في يد واشنطن، بدلاً من أن تكون أدوات مستقلة لتشكيل مسار سياسي بديل يوازن النفوذ الإسرائيلي.

حماس بين المفاوضات والضغوط
إقدام حركة "حماس" على توجيه رسالة مباشرة إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب، تتضمن مقترحاً بوقف إطلاق النار لمدة ستين يوماً مقابل الإفراج عن نصف الرهائن، يكشف عن محاولة للتعامل ببراغماتية مع التعقيدات الراهنة. فالحركة تدرك أن استمرار الحرب يرهق بيئتها الحاضنة في غزة ويضعف موقعها السياسي، لذلك سعت إلى طرح مبادرة تُظهرها كقوة منفتحة على التفاوض وليست مجرد طرف متصلب.
مع ذلك، يضع هذا السلوك "حماس" في مأزق مزدوج. فمن ناحية، تواجه ضغوطاً دولية متزايدة تطالبها بالانسحاب من المشهد التفاوضي وترك المساحة كاملة للسلطة الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والمعترف به دولياً. ومن ناحية أخرى، تخشى الحركة أن يؤدي خروجها من دائرة التفاوض إلى إقصائها سياسياً وتهميش دورها في أي ترتيبات مستقبلية تخص غزة. هذا التناقض بين الحاجة إلى البراجماتية ومتطلبات الشرعية الدولية يجعل خيارات "حماس" محدودة للغاية.
إضافة إلى ذلك، فإن عرض الهدنة المشروط بالرهائن يمنح إسرائيل مساحة واسعة للمماطلة والمراوغة. إذ يمكن لنتنياهو أن يستثمر هذه الرسالة لإظهار أن "حماس" مستعدة للمساومة، دون أن يلتزم فعلياً بوقف العمليات العسكرية. بل إن إسرائيل قد تستخدم هذا الطرح لإطالة أمد الحرب بحجة عدم تلبية الشروط كاملة، وهو ما يعزز موقفها في الاستمرار العسكري مع تحميل "حماس" مسؤولية فشل أي تقدم.
في النهاية، تعكس هذه التطورات حالة من الارتباك السياسي لدى "حماس". فهي تحاول التوفيق بين بقائها كفاعل رئيسي في معادلة غزة، وبين الضغوط الإقليمية والدولية التي تدفع باتجاه إعادة السلطة الفلسطينية إلى الواجهة. هذا الوضع يفتح الباب أمام سيناريوهات أكثر تعقيداً، إذ قد تجد "حماس" نفسها مضطرة للتنازل عن موقعها التفاوضي مقابل ضمانات محدودة، بينما تستثمر إسرائيل هذا الانقسام الفلسطيني لصالحها.

سيناريوهات ما بعد لقاء ترمب – نتنياهو
اللقاء المنتظر بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يحمل في طياته أهمية خاصة، ليس فقط لأنه سيكشف عن ملامح السياسة الأميركية تجاه الحرب على غزة، بل لأنه قد يحدد طبيعة التوازن بين المسارين: مسار التهدئة أو مسار التصعيد. فالمتابعون يرون أن ما سيتضمنه هذا اللقاء من رسائل علنية أو تفاهمات خلف الكواليس سيكون بمثابة اختبار حقيقي لمدى استعداد واشنطن لاستخدام نفوذها في وقف الحرب.
السيناريو الأول يتمثل في أن يمارس ترمب ضغوطاً مباشرة على نتنياهو من أجل وقف إطلاق النار والدخول في مفاوضات سياسية، ولو في ظل استمرار التوتر الميداني. مثل هذا الخيار يتطلب توافقاً أميركياً–عربياً، وربما التلويح باستخدام أدوات ضغط مثل تقييد الدعم العسكري أو ربطه بتقدم في المسار السياسي. غير أن غياب مؤشرات قوية على استعداد ترمب للذهاب بعيداً في مواجهة نتنياهو يجعل هذا السيناريو أقرب إلى الطرح النظري منه إلى الاحتمال العملي.
في المقابل، السيناريو الثاني يبدو أكثر انسجاماً مع مسار الأحداث حتى الآن. فواشنطن قد تكتفي بلقاء بروتوكولي مع نتنياهو يمنحه غطاءً سياسياً لمواصلة عملياته العسكرية في غزة، مع التلميح إلى إمكانية إعادة طرح خطط إسرائيل القديمة بضم أجزاء من الضفة الغربية أو الدفع بخيارات التهجير. مثل هذا السيناريو لن يؤدي فقط إلى إفشال أي فرصة قريبة للتسوية، بل قد يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التصعيد الإقليمي وفقدان الثقة نهائياً في الدور الأميركي كوسيط.
وبين هذين المسارين، تبقى مساحة رمادية مرشحة للتوسع، حيث قد يختار ترمب الاكتفاء بتكرار خطاب عام حول "السلام" والرهائن دون التورط في التزامات عملية. وفي هذه الحالة، يصبح اللقاء مجرد حلقة في سلسلة مناورات سياسية تتيح لإسرائيل الاستفادة من الوقت والغطاء الدولي، بينما تستمر معاناة المدنيين في غزة وتتآكل فرص التوصل إلى أي حل مستدام للصراع.

خاتمة: 
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن تحركات ترمب لا تتجاوز حتى الآن حدود المناورة السياسية، بهدف إعادة تثبيت الدور الأميركي في الملف الفلسطيني–الإسرائيلي وتوظيفه كورقة في السياسة الداخلية والخارجية. فالموقف الأميركي يفتقر إلى إرادة إلزام إسرائيل بوقف الحرب، ويُظهر تناقضاً بين خطاب "السلام" والواقع العملي الذي يدعم استمرار التصعيد.
إن غياب الضغط الأميركي الفعّال، وتشتت الموقف الفلسطيني بين "حماس" والسلطة، وتردد الأطراف العربية بين المبادرة والتخوف من التهميش، كلها عوامل تجعل من تحركات ترمب أقرب إلى الاستعراض الدبلوماسي منها إلى مشروع جاد لإنهاء الحرب في غزة.

شارك