الجيش الكونغولي بين ضغط الميدان وتعقيدات الحسابات الإقليمية
الجمعة 26/سبتمبر/2025 - 05:28 ص
طباعة

يعيش شرق الكونغو الديمقراطية على وقع تصعيد عسكري غير مسبوق، بعد أن تمكنت حركة إم23 المدعومة من رواندا من تحقيق مكاسب ميدانية لافتة في بلدات استراتيجية مثل نزيبيرا وبينغا. هذه التطورات لا تقتصر على كونها تحولات ميدانية، بل تكشف عن تعقيدات أعمق مرتبطة بالموارد الطبيعية، والانقسامات العرقية، والتجاذبات الإقليمية التي تهدد بتحويل الصراع من نزاع داخلي إلى أزمة إقليمية ذات امتدادات دولية.
إن انهيار وقف إطلاق النار الهش وتباطؤ مسار المفاوضات في الدوحة يضع المنطقة أمام مفترق طرق خطير: إما المضي في مسار حرب استنزاف طويلة، أو البحث عن تسوية سياسية تبدو بعيدة المنال وسط تضارب المصالح الإقليمية والدولية.
تحوّل خطير
سيطرة حركة إم23 المدعومة من رواندا على بلدة نزيبيرا في إقليم جنوب كيفو تمثل تحوّلًا خطيرًا في مشهد الصراع شرق الكونغو الديمقراطية، ليس فقط من زاوية التقدم الميداني، بل أيضًا من حيث الرمزية السياسية والانعكاسات الإقليمية.
فـ نزيبيرا ليست مجرد بلدة عادية؛ فهي مركز حيوي لتعدين الذهب والقصدير، ما يمنح الحركة موردًا اقتصاديًا يعزز من قدراتها القتالية ويفتح أمامها مجالًا لتأمين تمويل طويل الأمد. كما أن موقعها الاستراتيجي، بوجود مطار يبعد نحو 20 ميلاً فقط عن والونغو، يجعلها عقدة لوجستية يمكن استثمارها في إضعاف الجيش الكونغولي وتهديد مراكز الثقل الإدارية والعسكرية في جنوب كيفو.
توقيت السيطرة ليس أقل أهمية من مكانها. فمنذ أوائل أغسطس صعّدت إم23 هجماتها في المنطقة، واستولت على قرى عدة رغم محاولات ميليشيات وازاليندو الموالية للحكومة عرقلة تقدمها. الانسحاب الذي وُصف بـ"الاستراتيجي" في 21 سبتمبر يكشف هشاشة الجبهة الداخلية للجيش الكونغولي، ويؤكد أن تكتيكات الدفاع التقليدية لم تعد كافية أمام حركة متمرسة تستفيد من دعم إقليمي واضح.
على المستوى الأوسع، تثير هذه التطورات مخاوف من تعميق الانقسام العرقي والسياسي في شرق الكونغو، وإعادة إنتاج دورة العنف التي تغذيها الأطماع في الثروات المعدنية، والتجاذبات الإقليمية بين كينشاسا وكيغالي. وهو ما يعيد الصراع من ساحة محلية إلى قضية إقليمية تهدد الأمن والاستقرار في منطقة البحيرات العظمى، وتفتح المجال أمام تنامي نفوذ الجماعات المسلحة الأخرى التي تستغل هذا الاضطراب لتعزيز مواقعها.
تعزيز القوة
تبدو سيطرة حركة إم23 على بلدة نزيبيرا في جنوب كيفو نتيجة مباشرة لجهودها الأخيرة في تعزيز قدراتها البشرية والعسكرية. فالحركة ضمت ما لا يقل عن 9000 مجند جديد إلى صفوفها، بينهم نحو 7400 دخلوا الخدمة مؤخرًا، وتشير تقارير إلى وصول بعضهم إلى بوكافو – مركز قيادة الحركة في جنوب كيفو – منتصف سبتمبر الماضي.
كما أن نشر مئات من ضباط الشرطة الجدد في أواخر أغسطس، بينهم عناصر من الشرطة الوطنية الكونغولية الذين أعلنوا استسلامهم، منح الحركة فرصة لإعادة توزيع قواتها. إذ أوكلت مهام الأمن الحضري في مدينتي بوكافو وغوما للشرطة، بينما ركزت قواتها العسكرية على الخطوط الأمامية.
إلى جانب ذلك، ساهمت الترسانة المتطورة التي استولت عليها الحركة بعد دخولها غوما في مطلع عام 2025 في تعزيز هجماتها الأخيرة. وقدرت منظمة CTP أن هذه المعدات لعبت دورًا حاسمًا في معارك والونغو. وأكدت وسائل إعلام كونغولية أن مقاتلي إم23 استخدموا مركبات مدرعة خلال سيطرتهم على نزيبيرا، في مؤشر على تصاعد نوعية تسليحهم وقدرتهم على خوض مواجهات واسعة النطاق مع الجيش النظامي.
ممر استراتيجي
تفتح سيطرة حركة إم23 على بلدة نزيبيرا الباب أمام مسارات جديدة للتوسع داخل أراضي الكونغو الديمقراطية، لتتحول البلدة إلى نقطة انطلاق لعمليات أوسع في المدى القريب والمتوسط. فموقعها يمنح الحركة إمكانية التوجه نحو جنوب وسط الكونغو، حيث تقع مدينة كيندو – مركز قيادة مهم للجيش يضم اللواء 31 للتدخل السريع – على بعد 160 ميلاً فقط غرب نزيبيرا عبر منطقة شابوندا. كما أن مقاطعات كاساي ذات الثقل السياسي تقع على بعد نحو 600 ميل جنوب غرب البلدة عبر منطقة موينجا، ما يجعلها هدفًا بعيد المدى للحركة.
وسائل الإعلام الكونغولية وصفت خسارة نزيبيرا بأنها "نكسة عملياتية كبيرة"، نظرًا لموقعها الحيوي الذي يربط بين شابوندا وموينجا. هذا الموقع يسمح للحركة بتوسيع خياراتها الهجومية بعيدًا عن الجبهات التقليدية.
على المدى القريب، قد تستغل إم23 موقع نزيبيرا للتحرك نحو أوفيرا عبر المرتفعات الجبلية الأقل تحصينًا، متجنبة بذلك سهل روزيزي شديد التحصين على الطريق السريع RN5. هذا التكتيك ليس جديدًا، إذ سبق أن لجأت الحركة إلى مناورة مشابهة خلال هجومها على غوما مطلع عام 2025. وتبدو أوفيرا، بحكم وقوعها بين المرتفعات وبحيرة تنجانيقا، عرضة بشكل خاص للتطويق، مع بقاء بوروندي كمنفذ وحيد للهروب في حال سقوطها.
خطر متصاعد
تعكس سيطرة حركة إم23 على نزيبيرا وجنوب والونغو توسعًا استراتيجيًا يعزز قبضتها على خطوط الإمداد المؤدية إلى المرتفعات المتوسطة المحيطة بمدينة أوفيرا. فقد أفادت تقارير ميدانية بأن الحركة والمجموعات المتحالفة معها سيطرت على ما لا يقل عن خمس قرى نائية تقع على بعد 25 ميلاً جنوب مشيخة كازيبا و50 ميلاً غرب أوفيرا، بعد تجاوز مواقع القوات الحكومية في منطقة موينجا الشمالية أواخر أغسطس.
هذا التقدم الميداني دفع الحكومة الكونغولية إلى محاولة طمأنة السكان المحليين بأن سقوط أوفيرا ليس وشيكًا. في المقابل، كثفت الحركة من نشاطها عبر إرسال وحدات صغيرة للارتباط بميليشيا تويروانيهو الموالية لها، والتي تسيطر على معظم الهضاب المرتفعة جنوب غرب أوفيرا. مسؤول في الجيش الكونغولي حذر من أنه "سيكون من المستحيل طرد إم23" إذا تمكنت من ترسيخ وجودها في تلك المرتفعات.
ورغم أن الطبيعة الجغرافية الوعرة والطرق السيئة تعيق نقل المدفعية الثقيلة والقوات الكبيرة نحو أوفيرا، فإن الحركة قد تعتمد تكتيك التحركات التدريجية بدلاً من الهجوم الواسع النطاق، مما يزيد من الضغط على المدينة بشكل متواصل.
وفي تطور متزامن، شنت إم23 هجومًا منفصلًا شمال مقاطعة ماسيسي في إقليم شمال كيفو، حيث سيطرت منذ أوائل سبتمبر على عدة قرى في مشيخة باشالي، الواقعة على بعد 15 ميلاً جنوب شرق بلدة بينغا. هذا الهجوم أجبر مقاتلي وازاليندو ومئات المدنيين على الفرار نحو بينغا من قرية لوكويتي، القريبة من نيابيوندو، ما يضيف بعدًا إنسانيًا مأساويًا إلى التصعيد العسكري.
معركة بينغا
كثّفت القوات المسلحة لجمهورية الكونغو الديمقراطية، مدعومة بمقاتلي وازاليندو، هجماتها المضادة شرق وجنوب شرق بينغا في مقاطعة ماسيسي الشمالية، في محاولة لوقف تمدد حركة إم23. فمنذ 19 سبتمبر، شن الجيش غارات جوية وقصفًا مدفعيًا على مواقع الحركة في مشيخة باشالي، بينما تمكن مقاتلو وازاليندو من استعادة قرية واحدة على الأقل شمال نيابيوندو.
وفي 15 سبتمبر، استعادت القوات الموالية للحكومة قريتين على الطريق RP1030، بينها قرية كاتوبي الاستراتيجية، التي تمثل آخر نقطة مهمة شرق بينغا على هذا الطريق الحيوي. ورغم محاولتين شنتهما إم23 لاستعادة كاتوبي يومي 20 و22 سبتمبر، فإن القوات الحكومية نجحت في صد الهجمات، مستفيدة من الغارات الجوية والمدفعية التي استهدفت مواقع الحركة قرب كاتوبي وبلدة مبيتي، التي تُعد قاعدة أمامية للمتمردين.
ويبدو أن الهدف الأساسي للجيش الكونغولي هو منع إم23 من تطويق بينغا، وهي بلدة ذات أهمية عملياتية وتعتبر بوابة نحو عمق الأراضي الكونغولية. في المقابل، تسعى الحركة إلى تطويق البلدة عبر ثلاثة محاور محتملة:
من الجنوب، عبر هجومها في مشيخة باشالي واحتمال السيطرة على لوكويتي، بما يتيح ربط قواتها القادمة من نيابيوندو وبلدة ماسيسي.
من الشرق، عبر تعزيز مواقعها على الطريق السريع RP1030 باستخدام نقاط إمدادها في كاليمبي وكيشانغا.
من الشمال، من خلال نقل قواتها إلى مجموعة إيكوبو في واليكالي، التي ترتبط ببينغا عبر طريق غابات وعرة.
لكن الهجمات المضادة المتصاعدة للقوات الحكومية قد تشكل عقبة كبيرة أمام هذا المخطط، وتضع إم23 أمام معركة استنزاف طويلة على مشارف بينغا.
تصعيد خطير
تُعد بينغا مدينة محورية في شمال ماسيسي بفضل بنيتها التحتية الاستراتيجية، إذ تضم مهبطًا للطائرات وقاعدة عسكرية ومستشفى، ما يجعلها نقطة انطلاق مثالية لأي توسع مستقبلي لحركة إم23 نحو عمق أراضي الكونغو الديمقراطية. السيطرة على المدينة ستفتح أمام الحركة الطريق نحو مناطق واليكالي الغنية بالمعادن، وكذلك مقاطعتي مانيما وتوبو، لتشكل توسعًا نوعيًا في رقعة نفوذها داخل البلاد.
لكن تصاعد الأعمال القتالية حول بينغا أنهى فعليًا وقف إطلاق النار الهش بين الحكومة الكونغولية وحركة إم23، مهددًا بانهيار محادثات السلام المتوقفة أصلًا. فقد خرقت الحركة الاتفاق الذي وُقع في يوليو بوساطة قطر، والذي نص على منع أي هجمات جديدة أو محاولات للاستيلاء على أراضٍ إضافية، وألزم الجانبين بفرض وقف إطلاق النار على جميع القوات المشاركة في النزاع.
وعلى الأرض، لم يلتزم أي طرف بروح الاتفاق، إذ واصلت كل من الحكومة وإم23 تعزيز مواقعهما في شمال وجنوب كيفو. في الوقت نفسه، عجزت الحكومة عن تنفيذ تعهداتها الواردة في اتفاق منفصل مع رواندا، يقضي بوقف دعم ميليشيات وازاليندو الموالية لها. هذا الإخفاق، وفق تقييمات متكررة صادرة عن منظمة CTP، يفاقم تعقيد المشهد ويُهدد بانهيار أي مسار تفاوضي، في ظل استمرار المواجهات بين إم23 والميليشيات الحليفة للجيش.
انهيار الهدنة
يشير اندلاع القتال الأخير بين حركة إم23 والقوات المسلحة الكونغولية إلى دخول الصراع مرحلة هي الأعنف منذ شهور، ما يعكس عمليًا انهيار وقف إطلاق النار الهش. تبادل الطرفان الاتهامات بالمسؤولية عن خرق الاتفاق في الأسابيع الماضية، وأعلنا عزمهما استئناف العمليات العسكرية ردًا على الانتهاكات المتكررة.
فقد أعلنت حركة إم23 أنها في وضع "دفاع عن النفس" متوعدة بـ"القضاء على أي تهديد في مصدره"، بعد الغارات الجوية التي شنها الجيش الكونغولي على باشالي في 19 سبتمبر. من جانبه، أكد مسؤول كونغولي رفيع لوكالة رويترز أن الجيش مضطر للتحرك لمواجهة الحركة، التي أعلنت مرارًا نيتها الإطاحة بالحكومة.
واتهمت القوات الكونغولية إم23 بارتكاب انتهاكات متكررة لوقف إطلاق النار، شملت قتل مدنيين في عدة هجمات بمناطق واليكالي وغيرها من أقاليم كيفو. وأوضحت أنها ستقدم تقارير مفصلة عن تلك الانتهاكات إلى العمليات التي ترعاها الولايات المتحدة وقطر، داعية في الوقت نفسه جنودها الأسرى لدى الحركة إلى حمل السلاح ضدها، ومؤكدة احتفاظها بحق الرد بالقوة.
هذا التصعيد الميداني يهدد بتقويض المسار السياسي، خاصة وأن محادثات الدوحة الأخيرة لم تحرز تقدمًا يُذكر. ورغم توقيع اتفاقيات فنية مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر بشأن تبادل الأسرى، فإن التنفيذ لم يبدأ بعد. ويظل ملف الإفراج عن أكثر من 700 سجين من إم23 العقبة الأبرز، إذ ترفض الحكومة الإفراج عن المتهمين بارتكاب "جرائم خطيرة". وفي منتصف سبتمبر، شدد وزير العدل الكونغولي على هذا الموقف، ما أدى إلى مغادرة وفود الطرفين الجولة الخامسة من المحادثات في قطر دون أي اختراق حقيقي.
الخاتمة
ما يجري في الكونغو اليوم ليس مجرد جولة جديدة من القتال بين حركة تمرد والحكومة المركزية، بل هو انعكاس لتشابك عوامل داخلية وإقليمية جعلت شرق البلاد ساحة مفتوحة لصراعات متعددة المستويات. وإذا استمرت الحسابات العسكرية في طغيانها على منطق الحوار، فإن المنطقة مرشحة لمزيد من الانزلاق نحو العنف، بما يحمله ذلك من تداعيات إنسانية وأمنية على دول الجوار.
ويبقى السؤال الأهم: هل تستطيع المبادرات الإقليمية والدولية، رغم هشاشتها، منع تحول الكونغو إلى بؤرة دائمة للفوضى، أم أن سيناريو الحرب الطويلة سيكون هو العنوان القادم لشرق إفريقيا؟