المسيرات والمرتزقة: أدوات أنقرة للتمدد في غرب أفريقيا

الجمعة 26/سبتمبر/2025 - 05:46 ص
طباعة المسيرات والمرتزقة: حسام الحداد
 
تشهد منطقة الساحل الأفريقي تحولات جيوسياسية متسارعة جعلتها ساحةً لتنافس دولي محموم، خاصة بعد الانسحاب الفرنسي وتراجع نفوذ باريس التاريخي. وفي هذا الفراغ برزت تركيا كقوة صاعدة تسعى لتموضع استراتيجي في قلب غرب أفريقيا، عبر مزيج من الأدوات العسكرية والاقتصادية والرمزية. دخول أنقرة القوي إلى النيجر تحديدًا، وما تبعه من اتفاقيات عسكرية وتجارية، يعكس طموحها لتكرار تجربة نفوذها في الصومال شرق القارة، لكن هذه المرة في منطقة تمثل بوابة رئيسية نحو غرب أفريقيا.
ورغم تقديم تركيا لنفسها كشريك بديل يعزز استقلالية القرار الأفريقي ويمنح الحكومات المحلية بدائل عن الهيمنة الفرنسية، إلا أن سياساتها تكشف أيضًا عن أبعاد أخرى تتعلق بتوسيع النفوذ السياسي لأردوغان، وتوظيف شركات عسكرية خاصة مثل "صادات"، إلى جانب استخدام الطائرات المسيّرة والمرتزقة في حماية الاستثمارات. هذه الاستراتيجية المركّبة تطرح تساؤلات حول مدى قدرة أنقرة على تحقيق توازن بين صورتها كحليف داعم وأجندتها الخاصة التي قد تعيد إنتاج أشكال جديدة من النفوذ الخارجي في القارة.

شراكة تركية
تتجه تركيا لتعزيز حضورها العسكري في غرب إفريقيا عبر بوابة النيجر، إذ كشفت تقارير عن خطط أنقرة لإرسال جنود لتدريب القوات النيجرية وتقديم المشورة لها في إطار مكافحة الإرهاب، دون الانخراط في القتال المباشر. وبحسب موقع ميدل إيست آي الموالي لتركيا، فإن أربع كتائب على الأقل ستتولى مهمة التدريب والدعم الاستشاري، على أن تضم عناصر شاركوا سابقًا في عمليات الانتشار التركية في العراق وسوريا، حيث سمح الانفراج مع الفصائل الكردية بإعادة توزيع جزء من هذه القوات.
وتنظر أنقرة إلى النيجر باعتبارها شريكًا استراتيجيًا ومركزًا محوريًا لانخراطها في غرب إفريقيا. فبين عامي 2021 و2022، أرسلت تركيا ست طائرات مسيّرة من طراز بيرقدار TB-2، وطائرتي تدريب قتالي من طراز Hürkuş-C، إضافة إلى مركبات مدرعة لدعم نيامي. وفي مايو 2024، أشار المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى نشر أكثر من ألف مرتزق سوري جندتهم ودربتهم تركيا في النيجر عبر شركة "سادات"، رغم عدم إمكانية التحقق من هذه المزاعم.
هذا التعاون تعزز لاحقًا عبر اجتماعات رفيعة المستوى في 2024 تناولت التدريب العسكري وملفات الطاقة والتعدين، وصولًا إلى توقيع اتفاقية تعاون مالي عسكري في يوليو 2025. الاتفاقية الجديدة تتيح للنيجر الحصول على مسيّرات وأسلحة تركية إضافية، إلى جانب تمكين أنقرة من نشر قواتها في إطار الدعم الفني والتدريب العسكري.

نفوذ متصاعد
يشكّل نشر القوات النظامية التركية في النيجر سابقة لأنقرة في منطقة الساحل، ويعزز موقع نيامي كمركز محوري للانخراط التركي، على غرار تجربة الصومال في شرق إفريقيا. فمنذ عام 2017، تحتضن مقديشو أول قاعدة عسكرية خارجية لتركيا، تضم نحو 800 مدرّب يقدّمون الدعم للقوات الصومالية في معاركها ضد حركة الشباب، الذراع المحلية لتنظيم القاعدة. ولم يقتصر الحضور التركي هناك على الجانب العسكري، بل تمدد ليشمل مشاريع البنية التحتية والطاقة، ما جعله نموذجًا لتوظيف التعاون الدفاعي لتعزيز النفوذ في مجالات أخرى.
اليوم، تتكرر التجربة في غرب إفريقيا مع تصاعد دور تركيا في النيجر تحديدًا، في وقت يتراجع فيه النفوذ الفرنسي وتسعى الدول الإفريقية إلى تنويع شراكاتها. فمنذ العقد الأول من الألفية، كثفت أنقرة حضورها في القارة، عبر التجارة والاستثمارات في البنية التحتية والتعدين والمنسوجات. وإلى جانب الاقتصاد، روّجت تركيا لرابط الهوية الإسلامية المشتركة والصلات التاريخية مع إفريقيا منذ العهد العثماني، باعتبارها أرضية صلبة لتوسيع نفوذها. تقارير استخباراتية تركية لم تُخفِ توصيف النيجر كـ"حلقة أساسية" في إعادة إحياء النفوذ العثماني في منطقة الساحل، فيما ركزت مشاريع الاستثمار التركية على المواقع الدينية والتعليم والعمل الإنساني، بما يرسّخ حضور أنقرة كقوة صاعدة توظف مزيجًا من "القوة الصلبة والناعمة" في آن واحد.

تمدد تركي
استفادت أنقرة من التراجع الكبير في النفوذ الفرنسي بغرب أفريقيا لتوسيع حضورها السياسي والعسكري والاقتصادي في المنطقة. فبينما واصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومسؤولون أتراك اتهام باريس باتباع سياسات استعمارية جديدة، قدّمت تركيا نفسها على أنها شريك بديل وداعم للمبادرات الأفريقية متعددة الأطراف، خاصة مع تصاعد الغضب الشعبي ضد فرنسا منذ 2022، واضطرارها إلى سحب قواتها وإضعاف نفوذها الاقتصادي.
في هذا الفراغ، اندفعت تركيا لتعزيز حضورها، لا سيما في مجالي الدفاع والتعدين، مع تركيز خاص على غرب أفريقيا الناطقة بالفرنسية. فالمستشارون والمدربون الأتراك باتوا جزءًا من المشهد العسكري في عدة دول، وأشارت تقارير حديثة إلى أن تشاد تستعد لاستضافة طائرات مسيرة تركية وفنيين أتراك في قاعدة جوية انسحبت منها القوات الفرنسية بعد إلغاء نجامينا اتفاقياتها الدفاعية مع باريس أواخر 2024.
لكن الحضور التركي لم يخلُ من المخاطر، إذ قُتل مدربون أتراك في شمال توغو على يد فرع تابع لتنظيم القاعدة في الساحل، خلال مهام تتعلق بتدريب القوات المحلية، وإزالة الألغام، وتوجيه المروحيات لتعزيز أمن الحدود. وفي الوقت نفسه، وسّعت أنقرة من برامج التدريب التي سبق أن أطلقتها في مالي والنيجر، ما يعكس إصرارها على ترسيخ أقدامها كقوة بديلة لفرنسا في منطقة شديدة الاضطراب.

مسيرات ومرتزقة
باتت تركيا واحدة من أبرز مورّدي الطائرات المسيّرة في غرب أفريقيا، حيث ارتكزت دبلوماسيتها الدفاعية على شراكات سابقة مع دول مثل نيجيريا، قبل أن توسّع حضورها العسكري في الدول الناطقة بالفرنسية. وتستخدم كل من بوركينا فاسو وتشاد ومالي والنيجر وتوغو مسيّرات تركية متنوعة في عملياتها ضد الجماعات المتطرفة. ويعود الإقبال عليها إلى معادلة "السعر مقابل الأداء"، إذ تفوق في كفاءتها الطائرات الصينية والإيرانية الأرخص، فيما تظل أقل تكلفة من النماذج الغربية المنافسة.
لكن الدور التركي لم يقتصر على تصدير المسيّرات، إذ كشفت تقارير عديدة عن إرسال أكثر من ألف مرتزق سوري إلى بوركينا فاسو والنيجر خلال عام 2024. وأكد المرصد السوري لحقوق الإنسان أن أول دفعة، تضم نحو 300 مقاتل تم تجنيدهم وتدريبهم في تركيا برواتب تصرفها شركة صادات، وصلت إلى البلدين أواخر 2023. هذا ما دعمته أيضًا تقارير لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) وفرانس 24، بعد مقابلات مع بعض المرتزقة.
ويُقال إن مهام هؤلاء المقاتلين تتركز على حماية مواقع اقتصادية استراتيجية تمتلك فيها أنقرة حصصًا مشتركة مع الحكومات المحلية، خصوصًا في قطاع التعدين. ويثير ذلك تساؤلات حول مدى توظيف تركيا للأدوات العسكرية وشركات الأمن الخاصة لتعزيز نفوذها الاقتصادي في أفريقيا، في ظل ربط اسم "صادات" بضباط مقربين من الرئيس رجب طيب أردوغان.

نفوذ متعدد
تسعى تركيا إلى توظيف شراكاتها الدفاعية في أفريقيا كجزء من استراتيجيتها الكبرى للتموضع كشريك بديل للغرب والصين وروسيا. وقد قدّمت نفسها كوسيط قادر على المساهمة في معالجة مخاوف أوروبا وحلف الناتو من الإرهاب والهجرة والنفوذ الروسي في منطقة الساحل، فضلًا عن لعب أدوار متنامية في البحر الأحمر من خلال علاقاتها الوثيقة مع الصومال والسودان. هذا الحضور يعزز صورة أنقرة كفاعل دولي مؤثر، ويمنحها أوراق ضغط إضافية في تعاملها مع القوى الكبرى.
لكن البعد الأفريقي لم يقتصر على تعزيز نفوذ تركيا خارجيًا، بل خدم أيضًا حسابات الرئيس رجب طيب أردوغان في الداخل. فمنذ محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، ضغط أردوغان على الحكومات الأفريقية لإغلاق المدارس المرتبطة بالداعية فتح الله غولن أو استبدالها بمؤسسات تعليمية تابعة لأنقرة، ما يعكس استخدام النفوذ الخارجي لتصفية حسابات سياسية داخلية.
كما تحوّلت القارة إلى منصة لدعم الاقتصاد التركي، عبر توسيع التجارة مع دول غرب أفريقيا وتسهيل استثمارات الشركات التركية هناك من خلال الإعفاءات والحوافز الضريبية. واللافت أن الاستفادة الكبرى تعود إلى الدائرة المقربة من أردوغان، حيث ترتبط مبيعات السلاح والمسيّرات بشركات يملكها صهره أو يديرها شركاء مقربون مثل شركة "سادات"، ما يطرح تساؤلات حول تداخل النفوذ السياسي بالمصالح الاقتصادية والشبكات الشخصية للرئيس التركي.

الخاتمة
إن الحضور التركي في غرب أفريقيا، ولا سيما في النيجر، يتجاوز البعد العسكري التقليدي ليشمل أبعادًا اقتصادية وأيديولوجية وسياسية، وهو ما يمنح أنقرة مكانة متقدمة في صراع النفوذ الدائر بين القوى الكبرى. غير أن هذا التمدد يرافقه تحديات حقيقية، منها المخاطر الأمنية المرتبطة بالجماعات المتطرفة، والانتقادات الموجهة لاستخدام المرتزقة، إضافة إلى الشكوك حول نوايا تركيا في استغلال الهوية الإسلامية المشتركة كأداة للنفوذ الناعم.
في النهاية، قد يشكل الانخراط التركي فرصة للدول الأفريقية الراغبة في تنويع شراكاتها بعيدًا عن الهيمنة الغربية التقليدية، لكنه في الوقت ذاته يعكس سباقًا دوليًا جديدًا على ثروات وممرات القارة. وهنا يظل السؤال مفتوحًا: هل سيُكتب للمشروع التركي في الساحل أن يصبح نموذجًا لشراكة متوازنة، أم أنه سيتحول إلى نسخة محدثة من "النفوذ الخارجي" الذي تحاول الشعوب الأفريقية التحرر منه؟

شارك