طرق الدم والذهب: كيف تحوّلت ممرات التجارة إلى سلاح بيد نصرة الإسلام؟

الجمعة 26/سبتمبر/2025 - 06:04 ص
طباعة طرق الدم والذهب: حسام الحداد
 
لم يعد المشهد الأمني في بوركينا فاسو مجرد انعكاس لأزمة داخلية محدودة الجغرافيا، بل تحوّل في عام 2025 إلى ساحة مفتوحة لتجاذبات إقليمية ودولية معقدة. صعود جماعة نصرة الإسلام والمسلمين بوتيرة غير مسبوقة في الشرق والوسط الشرقي أعاد رسم خارطة الصراع، وأثبت أن الجماعة لم تعد مجرد تهديد عابر، بل لاعب منظم يسعى إلى تثبيت نفوذه عبر استراتيجية الحصار والسيطرة على الممرات الحيوية.
الطرق السريعة التي طالما شكّلت شرايين التجارة والاتصال تحولت إلى أهداف مدروسة بيد الجماعة، فباتت التجارة والتهريب والمواصلات أداة ضغط سياسي وعسكري. هذه التحولات لا تنذر فقط بانهيار مؤقت للأمن، بل توحي بمرحلة جديدة من إعادة تشكيل السلطة والنفوذ في منطقة الساحل، حيث بات المدنيون هم الخاسر الأكبر في معادلة الدم والاقتصاد.

تصعيد خطير
صعّدت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين من هجماتها في شرق بوركينا فاسو خلال عام 2025، مسجلةً زيادة ملحوظة تفوق ضعف معدل الهجمات مقارنة بالعام السابق، لتبلغ أعلى مستوياتها على الإطلاق في منطقتي الشرق والوسط الشرقي. وتركزت العمليات في مقاطعتي غورما وكولبيغو، حيث تضاعف نشاط الجماعة خلال الربع الثالث من العام مقارنةً بإجمالي هجماتها في عام 2024.
وتسعى الجماعة من خلال هذا التصعيد إلى توسيع مناطق نفوذها عبر استهداف الطرق الحيوية، إذ وقعت جميع هجماتها في نطاق 12 ميلاً من الطرق السريعة N4 وN16 وN17 وN18. وبالتوازي، ضاعفت عملياتها ضد قواعد العمليات الأمامية ودوريات الأمن، ما أدى إلى تقييد حركة القوات الحكومية ورفع كلفة المواجهة العسكرية. هذا المشهد يعكس استراتيجية مدروسة لفرض سيطرة أوسع وإحكام قبضتها على مساحات متزايدة شرق بوركينا فاسو.

حصار متدرج
تشكل الطرق السريعة الرئيسية في شرق بوركينا فاسو شرايين حيوية للتجارة والتهريب، إذ تربط الموانئ الساحلية في توغو وبنين بالمراكز الداخلية في بوركينا فاسو والنيجر، وتغطي ما يصل إلى 60% من حجم الواردات في البلدين. ومع إغلاق ممر النيجر – بنين التجاري، تضاعفت أهمية هذه الممرات، ما جعلها هدفًا استراتيجيًا لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين التي كثفت نشاطها فيها منذ عام 2021.
الجماعة لا تكتفي بفرض الضرائب على المهربين، بل تستغل الشبكات غير النظامية لتهريب الذهب والماشية المسروقة، وهو نشاط يدر عليها عشرات آلاف الدولارات شهريًا. ومن خلال السيطرة على هذه الطرق، تعمل الجماعة على محاصرة المدن الكبرى، وعلى رأسها فادا نغورما، التي شهدت مستويات قياسية من الهجمات في 2025. هذا الحصار التدريجي عبر تدمير البنية التحتية واستهداف قوافل الإمداد، يهدد بقطع المدينة عن محيطها، في خطوة تحمل أبعادًا رمزية ضد المجلس العسكري، وتفاقم عزلة السكان عبر التضييق الاقتصادي ونقص الغذاء، على غرار ما حدث في حصارات سابقة بمنطقة الساحل.

مناطق الدعم
تسعى جماعة نصرة الإسلام والمسلمين إلى تعزيز مناطق نفوذها في شرق بوركينا فاسو، مستغلة الحدود الجنوبية للبلاد كنقطة انطلاق للتوسع نحو دول الساحل الساحلية. فمنذ عام 2021، تحولت المنطقة إلى منصة رئيسية لتصدير نشاط الجماعة إلى بنين، حيث أكدت تقارير الأمم المتحدة في يوليو 2024 أن معظم هجمات الجماعة داخل الأراضي البنينة تُدار انطلاقًا من خلايا متمركزة في بوركينا فاسو. الهدف الواضح هو إنشاء مناطق دعم استراتيجية على طول ممرات الموارد والطرق اللوجستية، بما يتيح للجماعة توسيع حضورها وتثبيت أقدامها.
ومع التمدد، اندمجت الجماعة في الاقتصاد المحلي والشبكات غير المشروعة في شمال بنين، ما عزز قدرتها على البقاء والتجذر. وعلى المنوال نفسه، رصدت مراكز مكافحة الإرهاب في 2024 تحركات مشابهة باتجاه توغو، وإن كان مستوى النشاط هناك لا يزال أقل حدة مقارنة ببنين.
التحركات الأخيرة تكشف طموحات أبعد؛ إذ تؤكد الأمم المتحدة أن الجماعة عيّنت أول "أمير ساحلي" لها في بنين عام 2024، وهو تطور يفسر الارتفاع غير المسبوق في عدد الهجمات والضحايا خلال 2025. بل إن تقديرات أمنية أشارت إلى أن الجماعة ربما فعّلت مناطق دعم خلفية في شمال غرب نيجيريا، بما يفتح جبهة ثانية نحو بنين. أما في توغو، فرغم محدودية العمليات، فإن تعزيز هذه القواعد قد يمهد لموجة أكثر تواترًا وعنفًا من الهجمات.

أزمة إنسانية متفاقمة
تفاقم هجمات جماعة نصرة الإسلام والمسلمين في شرق بوركينا فاسو يترك أثرًا مباشرًا على حياة المدنيين، حيث يؤدي الحصار المتدرج وقطع الطرق الحيوية إلى نقص حاد في المواد الغذائية والدوائية وارتفاع أسعار السلع الأساسية بشكل جنوني. السكان في مدن مثل فادا نغورما يواجهون خطر العزلة التامة، ما يضع عشرات الآلاف أمام معاناة مزدوجة: الخوف من العنف المباشر، وانعدام مقومات الحياة الأساسية. مثل هذه الظروف تخلق بيئة خصبة لنزوح داخلي واسع قد يضغط على مدن وقرى مجاورة تعاني أصلًا من ضعف الموارد.

انهيار الثقة في الدولة
تُظهر هذه التطورات حدود قدرة المجلس العسكري الحاكم في بوركينا فاسو على توفير الأمن والخدمات، ما يضعف شرعيته ويزيد من مشاعر التهميش بين السكان. فالتوسع الممنهج للجماعة على حساب مؤسسات الدولة يعكس فشلًا أمنيًا قد يدفع المواطنين إلى البحث عن بدائل للحماية أو حتى التعايش مع المسلحين. هذا الانهيار في الثقة يهدد بترسيخ فراغ سلطوي طويل الأمد، يسهل على الجماعات المتطرفة تقديم نفسها كسلطة أمر واقع.

تهديد للاستقرار الإقليمي
لا تقف آثار التصعيد عند حدود بوركينا فاسو، بل تمتد لتشكل تهديدًا مباشرًا لدول الساحل والساحل الأطلسي المجاورة. فاستهداف الممرات التجارية يربك حركة التجارة نحو النيجر وبنين وتوغو، ما ينعكس سلبًا على اقتصادات هشة أصلًا. كما أن تحول شرق بوركينا فاسو إلى نقطة انطلاق للتوسع نحو السواحل يفتح جبهة جديدة تهدد أمن المنطقة، ويجعل خطوط الإمداد الدولية، بما فيها طرق الموانئ الحيوية، عرضة للاختراق.

تحدي أمام المجتمع الدولي
التصعيد يضع ضغوطًا إضافية على الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب في الساحل، خصوصًا مع تراجع حضور القوات الأجنبية بعد الانسحابات الأخيرة. المنظمات الإنسانية تجد نفسها عاجزة عن إيصال المساعدات إلى المناطق المحاصرة، فيما تصطدم المبادرات التنموية بمعوقات أمنية متزايدة. وبدون تدخل إقليمي ودولي أكثر فاعلية، سواء عبر تعزيز التعاون الأمني أو توفير ممرات إنسانية آمنة، فإن الأزمة مرشحة للتفاقم بما يتجاوز حدود بوركينا فاسو إلى فضاء الساحل الأطلسي بأسره.

الخاتمة
ما يجري في شرق بوركينا فاسو اليوم ليس مجرد تصعيد أمني، بل اختبار حقيقي لمدى صلابة الدول في الساحل وقدرتها على مواجهة جماعات عابرة للحدود تستند إلى موارد محلية وشبكات إقليمية واسعة. إن استمرار التوسع الممنهج لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين يعيد إنتاج أزمات متكررة من النزوح والجوع وانهيار الخدمات، ما ينذر بانفجار إنساني يتجاوز حدود الدولة.
في المقابل، يقف المجتمع الدولي أمام معضلة مركبة: فغياب استراتيجية واضحة للتدخل وترك فراغ السلطة للمجالس العسكرية والفصائل المسلحة يفاقم هشاشة المنطقة ويفتح الباب لتكرار سيناريوهات الانهيار التي شهدتها ليبيا ومالي. بين ضعف الدولة المحلية وتردد القوى الخارجية، يبدو أن شرق بوركينا فاسو يسير بخطى متسارعة نحو أن يكون جبهة مركزية في معركة الساحل الكبرى.

شارك