باكستان تُبقي الحدود مغلقة مع أفغانستان وسط تصاعد التوترات الأمنية
محمد شعت
أعلنت باكستان، الجمعة، أن معابرها الحدودية مع أفغانستان ستظل مغلقة حتى إشعار آخر، مشيرة إلى أن التطورات الأمنية الأخيرة على خط دوراند فرضت اتخاذ إجراءات استثنائية لحماية أرواح المواطنين، مؤكدة أن "إنقاذ حياة المواطن الباكستاني العادي أهم من حركة البضائع أو التجارة". يأتي هذا القرار في وقت يمر فيه البلدان بأسوأ أزمة حدودية منذ سيطرة طالبان على كابول عام 2021، إذ اندلعت اشتباكات دامية أوائل أكتوبر الجاري أودت بحياة العشرات من الجانبين، لتغلق المعابر الرئيسية، وعلى رأسها تورخام وتشمان، منذ 11 أكتوبر، وتتحول الأزمة إلى اختبار جديد للعلاقات بين البلدين اللذين يتقاسمان حدوداً تمتد لأكثر من 2600 كيلومتر وتاريخاً مثقلاً بالتوترات الأمنية والسياسية.
في أول مؤتمر صحفي أسبوعي له، أوضح
المتحدث باسم وزارة الخارجية الباكستانية طاهر حسين أندرابي أن القرار يأتي
"في أعقاب التطورات الأمنية التي شهدها الأسبوع الماضي"، مؤكداً أن
الحكومة اتخذت "تدابير صارمة لمراقبة الحدود"، وأن معابر الحدود
الأفغانية "ستظل مغلقة لأن حياة المواطن الباكستاني العادي أكثر قيمة من
التجارة أو نقل البضائع". وأشار أندرابي إلى أن سلطات الحدود الباكستانية
تراقب الوضع عن كثب، وأن قرار إعادة الفتح لن يُتخذ إلا بعد تقييم شامل للتطورات
الأمنية وضمان عدم تكرار الهجمات عبر الحدود. وأضاف أن نحو خمسة آلاف حاوية من
البضائع عالقة على جانبي الحدود، وأن الإغلاق أثر بشكل مباشر على حركة السلع التي
تشكل عماد التجارة بين البلدين، وتشمل الفواكه والخضروات والأدوية والحبوب واللحوم
ومنتجات الألبان.
انعكست الأزمة سريعاً على الأسواق في
البلدين، إذ ارتفعت أسعار السلع الأساسية بشكل حاد، حيث وصل سعر الطماطم في
باكستان إلى خمسة أضعاف ما كان عليه، في مؤشر على هشاشة سلاسل التوريد بين
الجانبين، خاصة وأن حجم التجارة السنوي بين البلدين يبلغ نحو 2.3 مليار دولار،
يعتمد معظمه على المعابر البرية. ورغم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار خلال
محادثات استضافتها قطر وتركيا نهاية الأسبوع الماضي، لا تزال المعابر مغلقة، فيما
تستعد أنقرة لاستضافة جولة جديدة من المفاوضات في 25 أكتوبر لمناقشة آليات التهدئة
المستدامة ومراقبة الالتزام بالاتفاقات.
توترات متكررة وتاريخ من الاتهامات
المتبادلة
لم تكن الاشتباكات الأخيرة حادثاً
معزولاً، بل تأتي امتداداً لتاريخ طويل من التوترات على طول الحدود الباكستانية
الأفغانية، التي شكلت منذ عقود خط تماسٍ هشاً ومصدراً دائماً للنزاعات. فمنذ عودة
طالبان إلى السلطة في كابول عام 2021، تكررت المواجهات المسلحة بين الجانبين نتيجة
تراكمات أمنية وخلافات حول ترسيم الحدود ومسؤولية ملاحقة الجماعات المسلحة الناشطة
في المنطقة، وعلى رأسها حركة طالبان باكستان (TTP)،
التي تتهمها إسلام آباد باستخدام الأراضي الأفغانية كملاذ آمن لشن هجمات ضد قواتها
ومواطنيها.
في سبتمبر 2022، شهد معبر تورخام
اشتباكات مسلحة أدت إلى إغلاقه لعدة أيام بعد مقتل جندي باكستاني، تبعتها مواجهات
مماثلة في ديسمبر من العام نفسه على معبر سبين بولدك جنوباً. أما في أغسطس 2023،
فقد تصاعد التوتر مجدداً بعد مقتل عناصر من قوات حرس الحدود خلال تبادل لإطلاق
النار، ما دفع السلطات الباكستانية إلى توسيع نطاق العمليات الأمنية في المناطق
المتاخمة وإقامة سياج حدودي لتعزيز الرقابة. غير أن هذه الإجراءات لم تنجح في
احتواء التهديدات، إذ استمرت الهجمات عبر الحدود بوتيرة متزايدة، وأدت إلى توتر
غير مسبوق في العلاقات الثنائية.
وترى باكستان أن طالبان الأفغانية لم
تفِ بتعهداتها بمنع التنظيمات المسلحة من استخدام أراضيها، فيما تنفي كابول تلك
الاتهامات وتتهم بدورها إسلام آباد بمفاقمة التوتر عبر عملياتها العسكرية وفرض
قيود على حركة اللاجئين والبضائع. وبين الموقفين، ظلت الحدود ساحة مفتوحة لعمليات
الكر والفر، وتبادل إطلاق النار، واتهامات مستمرة حول المسؤولية عن زعزعة الأمن في
المناطق الحدودية. كما شهدت العلاقات السياسية بين الجانبين حالة من الفتور، رغم
محاولات وساطة من دول مثل قطر وتركيا والسعودية لإعادة بناء الثقة وتفعيل آليات
تنسيق أمني مشترك.
أزمة هذا الشهر جاءت بعد أن طالبت
إسلام آباد حكومة كابول بالتحرك الحازم ضد المسلحين الذين قالت إنهم يشنون هجمات
عبر الحدود من ملاذات داخل أفغانستان. ومع تصاعد الضغوط، تم التوصل إلى اتفاق لوقف
إطلاق النار بوساطة قطرية تركية، غير أن تطبيقه على الأرض لا يزال هشاً، إذ تواصل
باكستان الإبقاء على إغلاق المعابر كإجراء أمني ورسالة ضغط في آن واحد. ويؤكد
محللون أن الإغلاق ليس مجرد رد فعل مؤقت، بل خطوة محسوبة تهدف إلى دفع طالبان نحو
الالتزام العملي بتعهداتها، وإرسال إشارة للمجتمع الدولي بأن إسلام آباد تتعامل بجدية
مع أي تهديد يمس أمنها القومي.
تداعيات اقتصادية وضغوط سياسية متصاعدة
يُعد إغلاق الحدود أحد أشد الإجراءات
تأثيراً على الاقتصادين الباكستاني والأفغاني، بالنظر إلى اعتماد الطرفين المتبادل
على التجارة البرية. فالتبادل التجاري بين الجانبين لا يشكل فقط مصدراً رئيسياً
للسلع الغذائية والمواد الخام، بل يمثل أيضاً شريان حياة لآلاف الأسر التي تعتمد
على النقل والتجارة الحدودية كمصدر رزق. ومع توقف الحركة منذ 11 أكتوبر، بدأت موجة
ارتفاع الأسعار تضرب الأسواق، خصوصاً في المناطق الباكستانية الشمالية مثل خيبر بختونخوا
وبلوشستان، حيث تعتمد الأسواق المحلية على المنتجات الزراعية القادمة من
أفغانستان. كما تضررت الأسواق الأفغانية هي الأخرى بفقدان السلع المستوردة من
باكستان، مثل الأدوية والقمح والسكر.
ويرى مراقبون أن الحكومة الباكستانية
تسعى من خلال هذا الإغلاق إلى إرسال رسالة مزدوجة: الأولى داخلية تهدف إلى طمأنة
الرأي العام وإظهار حزم الدولة في مواجهة التهديدات القادمة من الخارج، والثانية
موجهة إلى كابول، مفادها أن التعاون الأمني شرط أساسي لأي عودة طبيعية لحركة
التجارة. وفي المقابل، تتعامل طالبان مع الأزمة بحذر، إذ تحاول تجنب تصعيد قد يؤدي
إلى عزلة أكبر، خاصة في ظل الضغوط الاقتصادية التي تواجهها حكومتها. لكن بقاء
المعابر مغلقة لفترة طويلة قد يزيد من الاحتقان الشعبي على جانبي الحدود، ويخلق
مناخاً غير مستقر قد تستغله الجماعات المسلحة لتعزيز نفوذها.
وتزداد خطورة الموقف في ظل مؤشرات على
ضعف الثقة بين الطرفين، إذ تتهم باكستان طالبان الأفغانية بعدم السيطرة الكاملة
على الجماعات المسلحة داخل أراضيها، بينما ترى كابول أن باكستان تتعامل معها
باعتبارها مسؤولة عن جميع الحركات العابرة للحدود، بما يتجاوز قدراتها الأمنية
والاقتصادية. هذا التباين في التصورات يعمّق الهوة بين البلدين، ويجعل من كل حادث
حدودي مرشحاً لأن يتحول إلى أزمة شاملة.
في ظل هذا السياق، تراهن باكستان على
الجولة القادمة من المفاوضات في إسطنبول لتثبيت آليات مراقبة مشتركة على الحدود
وتفعيل قنوات اتصال أمني مباشر لتجنب الاشتباكات. غير أن نجاح هذه المساعي يظل
رهناً بمدى استعداد طالبان لتقديم ضمانات عملية بشأن تحركات الجماعات المسلحة،
وبمدى قدرة باكستان على الموازنة بين مصالحها الأمنية وضغوطها الاقتصادية
الداخلية.
وبينما تستمر المعابر مغلقة والتجارة
مشلولة، تبقى الحدود الباكستانية الأفغانية عنواناً لتوتر مزمن يعكس عمق الانقسام
بين الجانبين، في وقت يحتاج فيه كل منهما إلى الآخر أكثر من أي وقت مضى، سواء في
مكافحة الإرهاب أو في مواجهة التحديات الاقتصادية التي تعصف بالمنطقة. ومع تصاعد
الضغوط الدولية والإقليمية، يبدو أن الأزمة الحالية ستشكل اختباراً جديداً لقدرة
البلدين على إدارة خلافاتهما ضمن إطار سياسي ودبلوماسي، قبل أن تنزلق الأوضاع
مجدداً إلى مواجهة مفتوحة لا يملك أي طرف رفاهية خوضها.
