القاعدة تغير قواعد الحرب في الساحل الأفريقي.. من الكمائن إلى خنق الاقتصاد

الثلاثاء 11/نوفمبر/2025 - 01:10 م
طباعة القاعدة تغير قواعد محمود البتاكوشي
 
تعيش منطقة الساحل الأفريقي تحولاً نوعيًا في أسلوب نشاط الجماعات الإرهابية، بعدما تخلت فروع تنظيم القاعدة هناك عن تكتيكات الغارات السريعة والكمائن التقليدية، لصالح استراتيجية أكثر تعقيدًا تقوم على السيطرة التدريجية على الأرض عبر “الخنق الاقتصادي” وتوسيع التحالفات المحلية. 
يعكس هذا التحول بحسب خبراء، إدراك التنظيم أن إضعاف الدولة لا يتحقق فقط بالهجوم العسكري، بل بتقويض مقومات بقائها: الاقتصاد، الإمدادات، والشرعية الاجتماعية.
في مالي تحديدًا، تقود جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، الموالية للقاعدة، هذا التحول، فبدلًا من مهاجمة المواقع العسكرية مباشرة، ركزت على ضرب شرايين الإمداد التي تغذي المدن، مستهدفة قوافل الوقود والمواد الغذائية وشبكات الكهرباء، ما أدى إلى أزمات حادة في العاصمة باماكو ومناطق أخرى.
هذه الهجمات، التي بدت للوهلة الأولى تكتيكات حرب عصابات، تحولت إلى سياسة خنق اقتصادي تهدف إلى عزل الحكومة وشل قدراتها التشغيلية.
كما يرى محللون أن هذا النهج الجديد يكرس "الاقتصاد كساحة حرب"، حيث أصبحت الطرق التجارية والممرات اللوجستية بديلاً عن ساحات المعارك التقليدية. وأوضح الباحث السنغالي سيريجي بامبا جاييه أن تصعيد العمليات ضد ناقلات الوقود ومحطات التوزيع ليس عملاً عشوائيًا، بل وسيلة لخلق ضغط شعبي على الحكومة عبر الأزمات المعيشية، في وقت تستفيد فيه الجماعة من المشهد الإنساني لتبرير نفوذها وطرح نفسها كقوة بديلة قادرة على فرض النظام في غياب الدولة.
إلى جانب ذلك، نجح التنظيم في بناء شبكة معقدة من التحالفات المحلية، مستغلًا الانقسامات القبلية والتهميش الحكومي. فبحسب باحثين، نسجت الجماعة علاقات مع زعامات محلية ودينية عبر وعود بالحماية أو النفوذ الإداري، ما مكنها من تثبيت وجودها في مناطق الوسط والغرب المالي، وتحويل بعض القرى إلى قواعد نفوذ تخضع لسلطة موازية. هذا الاندماج بين البنية الاجتماعية والعمليات العسكرية جعل استعادة الدولة لتلك المناطق أكثر كلفة، وأضفى على التمرد طابعًا "محليًا" يصعب اقتلاعه بالقوة وحدها.
التحول لم يقتصر على الميدان فحسب، بل شمل أيضًا البعد التقني. فوفق الخبير الفرنسي مارك أنطوان بيروز دو مونتكلوز، تبنت الجماعات أدوات جديدة مثل الطائرات المسيرة لأغراض الاستطلاع وضرب الأهداف اللوجستية، مما منحها قدرة أكبر على المناورة وتقليل خسائرها البشرية.
هذا الاستخدام المبتكر للتكنولوجيا منخفضة التكلفة أضفى على الهجمات طابعًا شبه نظامي، يعزز صورة التنظيم كمقاتل منظم يفرض “حصارًا ذكيًا” بدلًا من معارك مفتوحة.
وتشير بيانات مشروع (ACLED) إلى تضاعف عدد العمليات التي نفذتها الجماعة بين عامي 2024 و2025، لا سيما في إقليم كايس غرب مالي، الذي يعد الشريان الرئيسي لخط الإمداد بين داكار وباماكو، هذا المحور الحيوي بات مسرحًا لمعركة صامتة تهدد بقطع أوصال الاقتصاد المالي بالكامل، وتحويل الحصار الميداني إلى أزمة دولة.
في هذا السياق، حذر السفير الفرنسي السابق في الساحل نيكولا نورماند من أن المنطقة دخلت مرحلة “انتشار وتكثيف” للعنف، تتكامل فيها الأهداف الميدانية مع مقاصد سياسية واقتصادية، حيث لم تعد الجماعات تسعى إلى إسقاط الأنظمة بل إلى إنهاكها حتى ترضخ لشروطها في المفاوضات.
وأشار إلى أن الحل لا يمكن أن يكون عسكريًا بحتًا، بل يتطلب مقاربة إقليمية شاملة تشمل حماية سلاسل الإمداد، وقطع التمويل عن الجماعات، وتنمية المجتمعات المحلية لحرمان الإرهاب من حاضنته.
أما على المستوى الإنساني، فقد انعكست هذه الحرب الاقتصادية في موجات نزوح وانقطاع خدمات أساسية، ما دفع دولاً عدة إلى مطالبة رعاياها بمغادرة مالي. 
ومع تراجع الإمدادات الحيوية وارتفاع كلفة المعيشة، تعيش البلاد حالة من الشلل الاقتصادي والاجتماعي، بينما يجد آلاف الأجانب أنفسهم ممزقين بين التعلق بحياتهم في البلاد والخوف من مصير غامض تسيطر عليه جماعات مسلحة ترى في الجوع سلاحًا أشد فتكًا من الرصاص.
في المحصلة، يبدو أن تنظيم القاعدة في الساحل الأفريقي دخل مرحلة جديدة من التكيف مع الواقع، حيث استبدل تكتيك الكمين بتكتيك التجويع، وحول الطرق التجارية إلى جبهات حرب. 
وإذا لم تواجه هذه الاستراتيجية بمقاربة تتجاوز البندقية نحو الاقتصاد والحكم المحلي، فإن “حرب الوقود” قد تصبح النموذج الجديد لصراعات أفريقيا المقبلة.

شارك