المساجد تحت النار.. توثيق أخطر حملة حوثية ممنهجة لاستهداف دور العبادة في اليمن

الجمعة 14/نوفمبر/2025 - 12:47 م
طباعة المساجد تحت النار.. فاطمة عبدالغني
 
تمثّل حرية العبادة والتدين حقًا أصيلًا من حقوق الإنسان، وركيزة أساسية في البناء الحضاري والثقافي للمجتمعات، وهي من الحقوق التي حرصت التشريعات الدولية على صونها بوصفها جوهرًا للهوية الإنسانية. 
وفي اليمن، حيث شكّلت المساجد ودور القرآن والمراكز الشرعية عبر القرون فضاءات جامعة للتعليم الديني والتماسك الاجتماعي، بات هذا الحق يتعرض لأخطر موجات الانتهاك الممنهج، خصوصًا في المناطق الخاضعة لسيطرة مليشيات الحوثي المدعومة من إيران.
 فقد كشفت الشبكة اليمنية للحقوق والحريات عن حجم هائل من الجرائم التي تستهدف المساجد وروادها وأئمتها، مؤكدة أن الاعتداء على دور العبادة أصبح سياسة ممنهجة تهدف إلى تغيير البنية الدينية والثقافية في البلاد، وفرض نمط مذهبي أحادي يقوّض مبادئ المواطنة والتعايش ويغذي خطاب الكراهية والتفرقة.
وتشير البيانات التي وثقتها فرق الرصد التابعة للشبكة إلى أن الاعتداءات الحوثية على المساجد لم تعد مجرد تجاوزات ميدانية، بل تحوّلت إلى أسلوب عمل منظم يقوم على تفجير المساجد وقصفها وتحويلها إلى ثكنات عسكرية ومخازن أسلحة، أو مراكز للتعبئة والتحشيد الطائفي. 
وقد اعتبرت الشبكة أن هذه الانتهاكات تمثّل خرقًا صريحًا للمادة (53) من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، التي تحظر الأعمال العدائية ضد أماكن العبادة باعتبارها جزءًا من التراث الروحي والثقافي للشعوب، كما أن استهداف الأئمة والخطباء والمصلين بالقتل أو الاختطاف أو التعذيب يرقى إلى جرائم حرب وفقًا لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
وقد وثقت الشبكة اليمنية للحقوق والحريات أرقامًا صادمة تكشف حجم الاستهداف المنهجي للروح الدينية في اليمن، فقد ارتكبت مليشيا الحوثي 277 حالة قتل لخطباء وأئمة ورجال دين من المذهب السني، بينها 72 حالة قتل بإطلاق النار المباشر، و19 حالة قتل نتيجة القصف العشوائي، و28 حالة بسبب الضرب حتى الموت، و19 حالة قتل نتيجة الطعن، إضافة إلى 9 حالات قتل تحت التعذيب داخل معتقلات الحوثيين. 
كما سجلت فرق الرصد 178 إصابة جسدية متفاوتة، و386 حالة اختطاف لأئمة وخطباء ومصلين، تعرض عدد كبير منهم للإخفاء القسري و73 حالة تعذيب جسدي ونفسي.
أما على مستوى المنشآت الدينية، فقد تم تسجيل 791 انتهاكًا مباشرًا طالت المساجد، شملت 103 عمليات تفجير، و201 حالة قصف، و52 حالة إحراق، و341 حادثة اقتحام ونهب وعبث بالمحتويات،. كما حوّلت مليشيا الحوثي 423 مسجدًا إلى ثكنات عسكرية، و219 مسجدًا إلى مراكز للتحشيد الفكري والطائفي، و61 مسجدًا إلى غرف عمليات ميدانية. وفرضت الجماعة 1291 خطيبًا مواليًا لها بدل الخطباء الأصليين، وأغلقت 467 مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم، في محاولة واضحة لفرض خطابها الديني وإعادة تشكيل الوعي الديني في المناطق التي تسيطر عليها.
وتؤكد الشبكة أن دور العبادة في مناطق الحوثيين لم تعد أماكن للعبادة والروحانية، بل تحوّلت إلى منصات منظمة لغسل العقول، يُعاد فيها إنتاج التاريخ والمفاهيم الدينية بما يخدم مشروع الجماعة، بينما يُجبر المعلمون والوعّاظ على تدريس المناهج الحوثية أو مواجهة السجن والتعذيب. 
وترى الشبكة أن هذه الممارسات تعكس الطابع العقائدي للحوثيين، وتكشف عن محاولة لإعادة هندسة البنية الدينية للمجتمع بطريقة تُقصي كل ما هو مخالف لها.
وفي هذا السياق، جاء البيان المشترك الصادر عن 65 منظمة مجتمع مدني يمنية ليؤكد خطورة هذه الاعتداءات وطبيعتها الممنهجة، فقد شدد البيان على أن الهجمات الحوثية على دور العبادة لا تستهدف المباني وحدها، بل تضرب في عمق منظومة القيم التي حكمت التعايش الديني والمذهبي في اليمن عبر تاريخه الطويل، وأكدت المنظمات أن تفجير المساجد، وقصفها، وتحويلها إلى مواقع عسكرية، ومصادرتها، يشكل انتهاكًا مباشرًا للمادة (53) من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، كما أن استهداف الأئمة والخطباء والمصلين بالقتل أو الاختطاف أو التعذيب يرقى إلى جرائم حرب وفقًا لنظام روما الأساسي.
 وحذّر البيان من أن انتهاك حرية العبادة والتدين يمثل تراجعًا خطيرًا في مسار العدالة والمواطنة المتساوية، ويغذي خطاب الكراهية والانقسام الطائفي. 
ودعا البيان مجلس الأمن الدولي والمفوضية السامية لحقوق الإنسان إلى فتح تحقيق دولي مستقل في هذه الجرائم، وتوثيقها ضمن التقارير الأممية الدورية، كما دعا المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إلى النظر فيها باعتبارها جرائم حرب تستوجب الملاحقة. 
وشددت المنظمات على أن الصمت الدولي إزاء هذه الاعتداءات يشكل تواطؤًا أخلاقيًا وصمتًا على الظلم، وأن حماية دور العبادة تمثل شرطًا أساسيًا لاستعادة روح التعايش في اليمن.
ووفقًا للشبكة اليمنية للحقوق والحريات، فقد ارتكبت مليشيات الحوثي 4896 جريمة وانتهاكًا ضد رجال الدين ودور العبادة بين 1 يناير 2015 و30 يونيو 2025، في واحدة من أكبر حملات الاستهداف الديني الممنهج في تاريخ اليمن المعاصر، ما يجعل الأزمة الدينية جزءًا لا يتجزأ من الأزمة السياسية والأمنية التي تعصف بالبلاد.
وبناءً على مجمل هذه المعطيات، يرى المراقبون أن الانتهاكات الحوثية ضد المساجد ودور القرآن ليست أفعالًا عشوائية مرتبطة بسياق الحرب، بل جزء أصيل من المشروع الفكري للجماعة، الذي يسعى إلى احتكار المجال الديني وإعادة تشكيل المجتمع على أساس طائفي يخدم مصالحها العقائدية والسياسية. 
ويحذر المراقبون من أن استمرار هذه الممارسات يهدد بإعادة إنتاج صراع مذهبي طويل الأمد، ويضرب أسس التعايش اليمني الذي ظل قائمًا رغم التحولات التاريخية الكبرى. 
كما يشيرون إلى أن تحويل المساجد إلى ثكنات عسكرية ومواقع للتحشيد الطائفي يعمّق هشاشة النسيج الاجتماعي، ويجعل الطريق إلى أي مصالحة وطنية مستقبلية أكثر تعقيدًا. 
ويؤكد المراقبون أن غياب موقف دولي حازم يشجع الجماعة على الاستمرار في هذه الجرائم، وأن حماية دور العبادة ومحاسبة الجناة وإنصاف الضحايا تمثل محورًا لا يمكن تجاوزه في أي مسار سلام حقيقي. 
ويخلصون إلى أن حرية العبادة ليست امتيازًا، بل حق غير قابل للمساومة، وأن صون المساجد ودور القرآن هو صون لروح اليمن وهويته، ولما تبقى من تماسكه الاجتماعي المهدد اليوم بأخطر موجة استهداف عقائدي في تاريخه الحديث.

شارك