حصار القاعدة لجنوب مالي.. تصعيد إرهابي يهدد بانهيار الدولة
الجمعة 14/نوفمبر/2025 - 01:36 م
طباعة
محمود البتاكوشي
تعيش مالي اليوم واحدة من أكثر مراحلها خطورة منذ اندلاع التمرد المسلح عام 2012، إذ انتقل تهديد الجماعات الإرهابية من شمال البلاد ووسطها إلى الجنوب، مهددًا العاصمة باماكو ومحاصرًا الاقتصاد والسكان في دوامة من العنف والشلل. أحدث حلقات هذا التصعيد تمثلت في الهجوم على بلدة لولوني في الجنوب، حيث استهدفت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة مجموعات محلية من صيادي "الدوزو" الذين يشكلون نواة الدفاع الذاتي في المجتمعات الريفية.
الهجوم، الذي نفذ باستخدام طائرات مسيرة في سابقة لافتة، تسبب في مقتل سبعة من الصيادين على الأقل وفرار مئات السكان نحو مدن الجنوب مثل سيكاسو وكاديولو، اختيار الجماعة لهذه الأهداف المحلية ليس عشوائيًا، بل يمثل تحولًا استراتيجيًا في تكتيك القاعدة، إذ باتت تسعى لتفكيك شبكات الدفاع الأهلي التي طالما أعاقت تمددها في القرى والمناطق الزراعية.
منذ أكثر من عقد، تعيش مالي أزمة أمنية عميقة تتشابك فيها أبعاد الإرهاب، والتنافس العرقي، والصراع على الموارد، جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، التي يقودها إياد أغ غالي، تمثل اليوم المظلة الجامعة للفصائل المرتبطة بالقاعدة في منطقة الساحل، بينما يواصل تنظيم داعش في الصحراء الكبرى هجماته المتقطعة في الشمال الشرقي.
هذه الثنائية المتطرفة خلقت مشهدًا فوضويًا جعل الحكومة المركزية في باماكو عاجزة عن فرض سيادتها الكاملة، حتى في المناطق القريبة من العاصمة.
حصار خانق
منذ سبتمبر الماضي، فرضت القاعدة حصارًا خانقًا على طرق الإمداد المؤدية إلى باماكو، مستهدفة شاحنات الوقود والتموين، ما أدى إلى أزمة اقتصادية خانقة. هذا الحصار شكل ضربة مباشرة لبنية الدولة الهشة، وأجبر العديد من السفارات الغربية على تقليص وجودها، الولايات المتحدة وبريطانيا سحبتا موظفيهما غير الأساسيين، فيما حثت فرنسا وإيطاليا مواطنيهما على مغادرة مالي تحسبًا لتدهور أمني أكبر.
الحكومة المالية تحاول التقليل من خطورة الموقف، لكن تصريحات وزير الخارجية عبد الله ديوب التي استبعد فيها إمكانية سقوط العاصمة تعكس قلقًا واضحًا. فرغم تأكيداته بأن قوات الأمن ليست ندًا للتنظيمات الإرهابية، فإن الوقائع الميدانية تشير إلى عجز متزايد عن تأمين الطرق الحيوية، في ظل نقص الوقود والتموين وتراجع الروح المعنوية للقوات النظامية.
أما على المستوى الإقليمي، فيحذر الاتحاد الأفريقي من تحول مالي إلى نموذج جديد لـ"الدولة المحاصرة"، داعيًا إلى تدخل دولي عاجل، غير أن التردد الدولي، بعد انسحاب القوات الفرنسية وقوات "فاغنر" الروسية من معظم مناطق العمليات، جعل فراغ القوة يتسع لصالح التنظيمات الإرهابية.
الهجوم على لولوني لم يكن مجرد حادث معزول، بل مؤشر على انتقال مركز الثقل الإرهابي جنوبًا، في محاولة لتوسيع رقعة السيطرة إلى المناطق الزراعية الخصبة والممرات التجارية، بهذا المعنى، تبدو مالي اليوم عالقة بين حصار اقتصادي خانق وتفكك ميداني متسارع، في ظل ضعف الدولة وتراجع الدعم الدولي.
القاعدة تغير قواعد الحرب في الساحل الأفريقي
تعيش منطقة الساحل الأفريقي تحولًا نوعيًا في أسلوب نشاط الجماعات الإرهابية، بعدما تخلت فروع تنظيم القاعدة هناك عن تكتيكات الغارات السريعة والكمائن التقليدية، لصالح استراتيجية أكثر تعقيدًا تقوم على السيطرة التدريجية على الأرض عبر “الخنق الاقتصادي” وتوسيع التحالفات المحلية.
يعكس هذا التحول بحسب خبراء، إدراك التنظيم أن إضعاف الدولة لا يتحقق فقط بالهجوم العسكري، بل بتقويض مقومات بقائها: الاقتصاد، الإمدادات، والشرعية الاجتماعية.
في مالي تحديدًا، تقود جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، الموالية للقاعدة، هذا التحول، فبدلًا من مهاجمة المواقع العسكرية مباشرة، ركزت على ضرب شرايين الإمداد التي تغذي المدن، مستهدفة قوافل الوقود والمواد الغذائية وشبكات الكهرباء، ما أدى إلى أزمات حادة في العاصمة باماكو ومناطق أخرى.
هذه الهجمات، التي بدت للوهلة الأولى تكتيكات حرب عصابات، تحولت إلى سياسة خنق اقتصادي تهدف إلى عزل الحكومة وشل قدراتها التشغيلية.
كما يرى محللون أن هذا النهج الجديد يكرس "الاقتصاد كساحة حرب"، حيث أصبحت الطرق التجارية والممرات اللوجستية بديلًا عن ساحات المعارك التقليدية. وأوضح الباحث السنغالي سيريجي بامبا جاييه أن تصعيد العمليات ضد ناقلات الوقود ومحطات التوزيع ليس عملًا عشوائيًا، بل وسيلة لخلق ضغط شعبي على الحكومة عبر الأزمات المعيشية، في وقت تستفيد فيه الجماعة من المشهد الإنساني لتبرير نفوذها وطرح نفسها كقوة بديلة قادرة على فرض النظام في غياب الدولة.
إلى جانب ذلك، نجح التنظيم في بناء شبكة معقدة من التحالفات المحلية، مستغلًا الانقسامات القبلية والتهميش الحكومي. فبحسب باحثين، نسجت الجماعة علاقات مع زعامات محلية ودينية عبر وعود بالحماية أو النفوذ الإداري، ما مكنها من تثبيت وجودها في مناطق الوسط والغرب المالي، وتحويل بعض القرى إلى قواعد نفوذ تخضع لسلطة موازية. هذا الاندماج بين البنية الاجتماعية والعمليات العسكرية جعل استعادة الدولة لتلك المناطق أكثر كلفة، وأضفى على التمرد طابعًا "محليًا" يصعب اقتلاعه بالقوة وحدها.
التحول لم يقتصر على الميدان فحسب، بل شمل أيضًا البعد التقني. فوفق الخبير الفرنسي مارك أنطوان بيروز دو مونتكلوز، تبنت الجماعات أدوات جديدة مثل الطائرات المسيرة لأغراض الاستطلاع وضرب الأهداف اللوجستية، مما منحها قدرة أكبر على المناورة وتقليل خسائرها البشرية.
هذا الاستخدام المبتكر للتكنولوجيا منخفضة التكلفة أضفى على الهجمات طابعًا شبه نظامي، يعزز صورة التنظيم كمقاتل منظم يفرض “حصارًا ذكيًا” بدلًا من معارك مفتوحة.
وتشير بيانات مشروع (ACLED) إلى تضاعف عدد العمليات التي نفذتها الجماعة بين عامي 2024 و2025، لا سيما في إقليم كايس غرب مالي، الذي يعد الشريان الرئيسي لخط الإمداد بين داكار وباماكو، هذا المحور الحيوي بات مسرحًا لمعركة صامتة تهدد بقطع أوصال الاقتصاد المالي بالكامل، وتحويل الحصار الميداني إلى أزمة دولة.
في هذا السياق، حذر السفير الفرنسي السابق في الساحل نيكولا نورماند من أن المنطقة دخلت مرحلة “انتشار وتكثيف” للعنف، تتكامل فيها الأهداف الميدانية مع مقاصد سياسية واقتصادية، حيث لم تعد الجماعات تسعى إلى إسقاط الأنظمة بل إلى إنهاكها حتى ترضخ لشروطها في المفاوضات.
وأشار إلى أن الحل لا يمكن أن يكون عسكريًا بحتًا، بل يتطلب مقاربة إقليمية شاملة تشمل حماية سلاسل الإمداد، وقطع التمويل عن الجماعات، وتنمية المجتمعات المحلية لحرمان الإرهاب من حاضنته.
أما على المستوى الإنساني، فقد انعكست هذه الحرب الاقتصادية في موجات نزوح وانقطاع خدمات أساسية، ما دفع دولًا عدة إلى مطالبة رعاياها بمغادرة مالي.
ومع تراجع الإمدادات الحيوية وارتفاع كلفة المعيشة، تعيش البلاد حالة من الشلل الاقتصادي والاجتماعي، بينما يجد آلاف الأجانب أنفسهم ممزقين بين التعلق بحياتهم في البلاد والخوف من مصير غامض تسيطر عليه جماعات مسلحة ترى في الجوع سلاحًا أشد فتكًا من الرصاص.
