السلفية والجنس.. فتاوى "الفراش" التي حبست المرأة داخل ثوب العار

الخميس 25/ديسمبر/2025 - 10:00 م
طباعة السلفية والجنس.. حسام الحداد
 
يُعد ملف "السلفية والجنس" واحداً من أكثر القضايا تعقيداً في بنية العقل الأصولي، حيث لا يتم التعامل مع الجسد البشري بوصفه كياناً حيوياً مستقلاً، بل كساحة صراع أيديولوجي تُمارس عليها أقصى درجات الضبط والربط الفقهي. في هذا السياق، يتقاطع "النص" الديني المؤوّل سلفياً مع "الشهوة" المكبوتة، ليُنتج خطاباً يمزج بين الرغبة في السيطرة وبين التشريع الإلهي المفترض. هذا العقل، الذي يمكن وصفه بـ "الرعوي"، يرى في الوظائف البيولوجية للإنسان مجرد أبواب للفتنة يجب رصدها وإغلاقها، مما يحول الغريزة الطبيعية من طاقة إنسانية لبناء المودة إلى هوس دائم بالتحريم والمراقبة.
إن الخطاب السلفي، وتحديداً في نسخته المصرية الأكثر انتشاراً، قد شيد جداراً عازلاً بين المرأة وإنسانيتها الكاملة، حين حصر وجودها داخل ثنائية "العورة" التي يجب تغليفها بالكامل و"المتاع" الذي يجب تنظيم استهلاكه وفق قوانين الفراش. هذا الاختزال لم ينظر لجسد المرأة ككيان صاحب إرادة، بل كجغرافيا "ملغومة" تثير القلاقل في المجال العام، مما استدعى ترسانة من الفتاوى التي تُعنى بأدق تفاصيل اللباس والحركة والصوت. ومن هنا، تحولت العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة من شراكة قائمة على التكافؤ إلى علاقة "مالك ومملوك"، حيث يصبح "التمكين" الجنسي هو المقابل الوحيد للنفقة المادية، وهو ما أفرغ المؤسسة الزوجية من أبعادها الروحية والنفسية.
أدى هذا النمط من التفكير إلى إنتاج جملة من القيود الفقهية الصارمة التي تجاوزت حدود النص لتخلق "سياجاً من الخوف" حول الفرد والمجتمع. وبدلاً من أن يساهم هذا التشدد في تهذيب الأخلاق كما يزعم أصحابه، أنتج تشوهات اجتماعية ونفسية بالغة العمق، تمثلت في انتشار "السعار الجنسي الخفي" خلف ستار الورع، واغتراب المرأة عن جسدها الذي باتت تراه عدواً لها أو مصدراً للذنب. إن هذا الضغط المتواصل على الغريزة، مع حرمانها من سياقها الإنساني والجمالي، جعل من قضية "الجنس" في المخيال السلفي قنبلة موقوتة، تنفجر تارة في صورة فتاوى شاذة، وتارة أخرى في صورة ظواهر اجتماعية مرضية تفتك بسلامة النسيج المجتمعي.

أولاً: فتاوى السيطرة.. من تعدد الزوجات إلى إنكار الاغتصاب الزوجي
اعتمد الخطاب السلفي المعاصر على إحياء فتاوى "الفراش"، حيث تم التركيز بشكل مبالغ فيه على تعدد الزوجات ليس كحل استثنائي، بل كأصل و"سنة" مستهدفة. استُخدم هذا الخطاب لكسر شوكة المرأة نفسياً واجتماعياً، وتكريس فكرة أنها "نصف كائن" لا يكتمل إلا بوجود شريكة، وهو ما روج له مشايخ مثل أبي إسحاق الحويني ومحمد حسين يعقوب، اللذين ربطا بين "الفحولة" وقوة الإيمان.
في ملف الاغتصاب الزوجي، يرفض الفكر السلفي جملة وتفصيلاً هذا المصطلح، مستنداً إلى فتاوى ترى أن المرأة ليس لها حق الامتناع عن زوجها إلا لعذر شرعي (كالحيض). هذا التأصيل الفقهي ألغى مفهوم "التراضي" وحوّل العلاقة إلى "واجب تعبدي" قسري، مما شرعن العنف الجسدي داخل الأسرة تحت مسمى "حق الطاعة".
أما قضية الحجاب والنقاب، فقد انتقلت في العقل السلفي من كونها اختياراً إيمانياً إلى كونها "صمام أمان" للمجتمع من الفتنة. وتم ربط الاحتشام بـ "الستر" والنجاة من العقاب، مما خلق ضغطاً اجتماعياً هائلاً وصم غير المحجبات بـ "الفجور" أو "نقص العقل"، وهو ما نراه بوضوح في أدبيات ياسر برهامي التي تضع المرأة في إطار "الفاعل المغوي" دائماً.
تبرز فتاوى "الحسبة" كأداة للرقابة الاجتماعية على الأجساد؛ حيث يُعطي هذا الفكر لنفسه الحق في التدخل في اختيارات الأفراد الشخصية بدعوى "الأمر بالمعروف". هذا التدخل أنتج حالة من "شرطة الأخلاق" غير الرسمية في الشوارع المصرية، والتي تستهدف النساء تحديداً في ملبسهن وحركتهن، مما ضيق الخناق على الفضاء العام للمرأة.
أخيراً، تظل قضية "زواج القاصرات" (أو ما يسمونه زواج الصغيرة) وصمة في جبين هذا الخطاب، حيث يستندون إلى زواج السيدة عائشة لتبرير تزويج طفلات لم يبلغن الرشد البدني أو النفسي. الشواهد في الأرياف المصرية تشير إلى "سوق سوداء" للزيجات غير الرسمية (العرفي) المدعومة بغطاء شرعي سلفي، مما يدمر مستقبل آلاف الطفلات تحت ذريعة "التحصين من الفتنة".

ثانياً: سجل الظلال.. التحرش والاعتداء داخل أروقة التيار
رغم الخطاب الأخلاقي المتشدد، شهد تيار "السلفية" هزات عنيفة تتعلق بقضايا الاعتداء والتحرش الجنسي، وهي مفارقة نقدية تشير إلى أن الكبت والمثالية المدعاة غالباً ما تؤدي إلى انفجارات سلوكية منحرفة. الحساسية في هذا الملف تنبع من "القدسية" التي يحيط بها هؤلاء أنفسهم، مما يجعل ضحاياهم يلوذون بالصمت خوفاً من وصمة "تكذيب رجل الدين".
هناك شواهد عديدة وقضايا وصلت للمحاكم المصرية تورط فيها رموز أو منتمون للتيار السلفي في قضايا "زواج عرفي" من قاصرات أو ممارسة الجنس تحت ستار "الرقية الشرعية". هذه الحوادث تثبت أن "اللحية والجلباب" استُخدما أحياناً كدرع لإخفاء ميول إجرامية أو سيكوباتية، مستغلين جهل وبساطة الضحايا في القرى والنجوع.
النقد التحليلي لهذه الظاهرة يشير إلى أن "الفصل الحاد بين الجنسين" الذي يفرضه السلفيون يخلق حالة من "السعار الجنسي" الخفي. فعندما يتحول المجتمع إلى سجن كبير من الممنوعات، يصبح الجسد هو المحور الوحيد للتفكير، وتتحول كل حركة للمرأة إلى إشارة جنسية في ذهن المكبوت، مما يفسر تورط بعض الأتباع في جرائم تحرش إلكتروني وميداني.
كما سجلت بعض القضايا استغلال "داعية" لمكانته للضغط على نساء يمررن بأزمات نفسية لإقامة علاقات تحت مسمى "الزواج المؤقت" أو "زواج الهبة"، وهي أشكال من الزواج لا يعترف بها القانون وتعتبر زناً مقنعاً. إن غياب المحاسبة داخل التنظيمات السلفية، وتفضيل "الستر" على إظهار الحقيقة، ساهم في تكرار هذه الجرائم واتساع رقعتها.
نجد أيضاً في الفضاء الرقمي "كتائب إلكترونية" سلفية تمارس التحرش اللفظي العنيف ضد كل امرأة تطالب بحقوقها أو تعبر عن فكر تنويري. هذا "التحرش المنظم" يهدف إلى الاغتيال المعنوي للمرأة وكسر صوتها، وهو جزء من استراتيجية أعم تهدف لإبقاء النساء في "منطقة الصمت" والتبعية المطلقة للرجل القوام.

ثالثاً: الزلزال الاجتماعي.. تأثير الخطاب السلفي على المرأة المصرية
أدى تغلغل الخطاب السلفي في المجتمع المصري منذ السبعينات إلى تحول دراماتيكي في هوية المرأة. فبعد أن كانت المرأة المصرية في الخمسينات والستينات شريكة في العمل والسياسة بزي عصري، انسحبت تدريجياً خلف أردية سوداء ثقيلة، ليس فقهاً بالضرورة، بل هروباً من التحرش والوصم المجتمعي الذي غذته الفتاوى السلفية.
تسبب هذا الخطاب في تكريس "ثقافة العار"؛ حيث أصبحت المرأة مسؤولة عن "تحرش الرجل بها". الشواهد اليومية تظهر كيف يُلام الضحية بدعوى "التبرج"، مما أعطى المعتدي مبرراً أخلاقياً لجريمته. هذا التحول الفكري أدى إلى تآكل مفهوم الأمن الشخصي للمرأة في الشارع المصري، وتحوله إلى بيئة عدائية.
على الصعيد الأسري، أنتجت السلفية نموذجاً من "التبعية العمياء"، حيث أصبحت طاعة الزوج تسبق طاعة الوالدين أو حتى العقل. هذا أدى إلى زيادة حالات العنف المنزلي الصامت، حيث ترى الزوجة أن صبرها على الأذى هو "جهاد" يدخلها الجنة، وهو ما عمق الأزمات النفسية داخل البيوت المصرية وزاد من نسب الطلاق الصامت أو الانفجار المفاجئ.
أثر الخطاب السلفي أيضاً على المسار المهني والتعليمي للمرأة؛ فالفتاوى التي تحرم الاختلاط أو ترى أن "قرار المرأة في بيتها" هو الأصل، دفعت بآلاف الكفاءات النسائية للانسحاب من الحياة العامة. هذا "التعطيل المتعمد" لنصف المجتمع ساهم في التراجع الاقتصادي والثقافي، وحصر طموح الفتاة في "الستيرة" والزواج المبكر بدلاً من الإبداع والقيادة.
في المشهد الاجتماعي الأوسع، خلقت السلفية حالة من "الاستقطاب الحاد" بين فئات المجتمع؛ فظهر تقسيم (منقبة مقابل غير محجبة)، وهو ما أضعف النسيج الوطني. المرأة المصرية اليوم تعيش صراعاً بين قيم "الحداثة" التي تفرضها العولمة، وبين "القيود السلفية" التي تشدها للماضي، مما أنتج جيلاً من النساء يعاني من تشتت الهوية والشعور الدائم بالذنب تجاه الجسد والرغبة.

الخاتمة
إن ملف السلفية والجنس ليس مجرد خلاف فقهي، بل هو صراع على "السيادة". لقد استخدم التيار السلفي جسد المرأة كملعب لتثبيت سلطته السياسية والاجتماعية، محولاً الدين من رسالة لتحرير الإنسان إلى أداة لتدجينه. إن مواجهة هذا الخطاب تتطلب شجاعة فكرية تعيد الاعتبار للإنسان بوصفه قيمة مطلقة، وتفصل بين المقدس الإلهي وبين التفسيرات البشرية الذكورية التي استغلت النصوص لشرعنة شهوات السيطرة. إن تحرر المجتمع المصري والعربي مرهون بتحرر المرأة من "فقه الخوف" وانتقالها إلى "فقه الحياة والحرية".

شارك