بالأدلة.. تكفير "قطب" للمجتمع سبق تعذيبه في السجون

الأحد 09/أكتوبر/2022 - 06:00 م
طباعة بالأدلة.. تكفير قطب حسام الحداد
 
• اسم الكتاب: سيد قطب .. سيرة التحولات 
• الكاتب: حلمي النمنم 
• الناشر: دار الكرمة – القاهرة – 2014 

من حين لآخر يكشف لنا التنقيب والبحث في تاريخ ومقالات الشخصيات التي تتصدر ساحة فكر الإسلام السياسي، الكثير من تناقضها وتقلباتها، وفي هذا السياق يقدم لنا الكاتب والباحث حلمي النمنم في كتابه (سيد قطب سيرة التحولات ) قراءة مختلفة لما هو متداول عن سيد قطب، فمثلا دائما يشيع الإخوان وخاصة القطبيون منهم مقولة إن التكفير نتاج التعذيب في السجون، وتم ترديد هذه المقولة خلال فترة حكم الرئيس السادات، حين كانت علاقة الجماعة مع السادات على أحسن ما يُرام، وحين كانت الصفقة التي أعادهم بها السادات إلى العمل العام قائمة، وكان الهدف المشترك عند الطرفين (السادات وهم)، إدانة التجربة الناصرية ووصمها بكل ما هو سيئ ورديء، كانت تلك هي السنوات التي انطلق فيها مصطفي أمين بمجموعته «سنة أولي سجن» وما تلاها من سنوات.. ولم ينتبه السادات إلى أن إدانة الجماعة لعبد الناصر خطوة أولى نحو الانقضاض عليه باعتباره وريث عبدالناصر وكل منهما يحمل نفس الشرعية، شرعية 23 يوليو 1952، و يناقش الكتاب من الناحية الفكرية والتوثيقية، هل كان التكفير عند سيد قطب من جراء التعذيب.. تعذيبه هو أو تعذيب غيره من الإخوان في السجون بعد اصطدامهم بالرئيس عبد الناصر حين حاولوا اغتياله في ميدان المنشية سنة 1954؟ ويقول النمنم إن سجن إنسان أي إنسان ظلماً هو جريمة والتعذيب هو أيضاً جريمة لا يمكن ولا يجوز الدفاع عنها، ومن ثم فإن التعذيب في السجون الناصرية جريمة كاملة، يجب أن يحاكم ويحاسب من قام بها أو شارك فيها ومن أمر بها أو سكت عنها.. لكن يجب القول إن الإخوان لم يكونوا وحدهم هم الذين تعرضوا للتعذيب، ما جرى للشيوعيين حين اعتقلوا جماعياً سنة 1959 يفوق في بشاعته ما تعرض له الإخوان.. ويمكن الرجوع إلى العديد من الشهادات في ذلك مثل كتابات مصطفي طيبة وسعد زهران وفتحي عبدالفتاح ومحمود السعدني وغيرهم وغيرهم، بل إن ما تعرض له تحديداً شهدي عطية الشافعي يفوق ما تعرض له أي معتقل آخر، حيث جري قتله والقضاء عليه تحت التعذيب، وهو لم يكن مسجوناً، أي لم يحاكم ولم يصدر بحقه حكم إدانة.. لم يعرض علي النيابة، ولا وقف أمام محكمة، هو فقط اعتُقل، لكن يبدو أن الإخوان يرون رجالهم شهداء ويرون الآخرين يستحقون ما جرى لهم، وإلا كيف نمنح سيد قطب لقب شهيد، بينما لا يعتبر شهدي كذلك؟ وكيف نعد قطب شهيداً ولا نعد خميس والبقري شهيدين؟! والأهم من ذلك كيف نفسر ظهور التكفير عند سيد قطب بينما لم يظهر شيء من ذلك لدي شهدي الشافعي ومحمود أمين العالم ولويس عوض وإسماعيل صبري عبدالله وفؤاد مرسي وفؤاد سراج الدين، بل ولدي العلامة المحقق الشيخ محمود شاكر؟
الإجابة بسيطة وهي أن التكفير، أي رفض وجود المختلف، كان سمة في تكفير وكتابات سيد قطب، بل يمكننا القول إنه عند سيد قطب، في البدء كان التكفير، ويكشف الكتاب عن ذلك بالتفصيل فيقول النمنم.
في عام 1948 أصدر سيد قطب كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام».. وقتها كان قطب في الولايات المتحدة الأمريكية يؤدي بعثة أو منحة تابعة لوزارة المعارف العمومية ممولة من مشروع النقطة الرابعة، وانتبه النقاد إلى الكتاب بعد عودته من الولايات المتحدة، فتصوروا أنه كتبه بعد العودة، لكنه كان قد كتبه ودفع به إلى المطبعة قبل السفر، وبهذا الكتاب تم تدشين سيد قطب في الحركة الإسلامية وتحديداً في جماعة الإخوان المسلمين.. الكتاب يتناول قضية الثروة في الإسلام والتقريب بين الفقراء والأغنياء، وما يجب القيام به في هذا الصدد، وقد عرض الكاتب موضوعه باستفاضة، وما أن انتهي من ذلك كله، حتى بدأ جزءاً جديداً، هو الجزء الأخير من الكتاب ولا علاقة له بموضوعه الأساسي، وجعل له عنواناً جديداً هو «حاضر الإسلام ومستقبله»، طاف في هذا الجزء بالقضايا الإسلامية وحاول الاشتباك مع بعض الكتابات الجديدة عن الإسلام مثل كتابات د. محمد حسين هيكل صاحب «حياة محمد» و«الفاروق عمر» و« في منزل الوحي» وغيرها، في استعراض لواقع أو حاضر الإسلام كما يراه، قال بالحرف الواحد ص183/ طبعة سنة 2002 الصادرة عن دار الشروق، (وحين تستعرض وجه الأرض كله اليوم، علي ضوء هذا التقرير الإلهي لمفهوم الدين والإسلام، لا نري لهذا الدين وجوداً.. إن هذا الوجود قد توقف منذ تخلت آخر مجموعة من المسلمين عن إفراد الله سبحانه وتعالي بالحاكمية في حياة البشر، وذلك يوم أن تخلت عن الحكم بشريعته وحدها في كل شئون الحياة، ويجب أن نقرر هذه الحقيقة الأليمة وأن نجهر بها ولا نخشي خيبة الأمل التي تحدثها في قلوب الكثيرين الذين يحبون أن يكونوا «مسلمين»، فهؤلاء من حقهم أن يستيقنوا: كيف يكونون مسلمين) وهذا يعني أن الكثيرين من المسلمين أو من يتصورون ذلك عن أنفسهم ويحبون ذلك، هم عنده ليسوا مسلمين، ويواصل هو مقدماً الوصفة أو «الروشتة» التي تجعلهم مسلمين أو تعيدهم إلى الإسلام، يقول سيد قطب في نفس الكتاب ص196 (إن استئناف حياة إسلامية لا يتم بمجرد وضع تشريعات وقوانين ونظم مستمدة من الشريعة الإسلامية، فهذا ركن واحد من ركنين يعتمد عليهما الإسلام دائماً في إقامة الحياة، وهو الركن الثاني لا الأول، أما الركن الأول فهو العقيدة الصحيحة وهو تفرد الله سبحانه بالألوهية، ومن ثم تفرده بالحاكمية، وتنكر علي غير الله أن يعرف حق الألوهية بادعاء من الحاكمية ومزاولته فعلاً!) ويستعرض سيد قطب آيات الحاكمية الثلاث بالقرآن الكريم ويقول إنها «نصوص قاطعة لا سبيل إلى تأويلها ولا الاحتيال عليها»، ويقول إنها (كلها تقرر حقيقة واحدة، أنه لا إسلام ولا إيمان بغير الإقرار بالحاكمية لله وحده)

أخلاق إسلامية أو أخلاق جاهلية:

ويتوقف سيد قطب عند الدراسات الاجتماعية والأخلاقية للأفراد والمجتمعات في ذلك العصر، عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية ليقول ص198: (ليست هناك أخلاق زراعية، وأخلاق صناعية، وليست هناك أخلاق للمجتمع البرجوازي، وأخلاق لمجتمع الصعاليك (البروليتاريا) وليست هناك قيم للمجتمع البرجوازي وقيم لمجتمع الصعاليك.. ليست هناك أخلاق رأسمالية وأخلاق اشتراكية ولا قيم رأسمالية وقيم اشتراكية.. وإنما هناك فقط أخلاق إسلامية وأخلاق جاهلية، وقيم إسلامية وقيم جاهلية) ويحاول أن يعرف القارئ بما يعنيه بالقيم الجاهلية فيقول ص199: (التصورات الجاهلية هي كل ما عدا التصور الإسلامي).
ويتحدث هو عن نفسه هنا فيقول إن الذي يقول هذا الكلام إنسان عاش يقرأ أربعين سنة كاملة وكان عمله الأول فيها هو القراءة والاطلاع، في معظم حقول المعرفة الإنسانية، ما هو من تخصصه وما هو من هواياته الثقافية، ثم عاد إلى مصادر عقيدته وتصوره وما هو بنادم علي ما قضى فيه أربعين سنة من عمره، وإنما عرف الجاهلية علي حقيقتها، وعلي انحرافها وعلى ضآلتها.. صفحة 203، أي أن الجاهلية ليست هي الحقبة السابقة علي ظهور الإسلام في الجزيرة العربية، لكنها الحقبة التي عاشها هو، ومن ثم عاشها المجتمع المصري خلال النصف الأول من القرن العشرين.. والقراءات التي عاش عليها، وهي معظمها قراءات أدبية ونقدية تعبر عن «الجاهلية»، أو ما سيطلق عليه بعد ذلك شقيقه محمد قطب «جاهلية القرن العشرين» وينهي سيد قطب كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» بنصيحة إلى ما يسميها «حركات البعث الإسلامي» محدداً لها نقطة البدء الصحيحة في الطريق الصحيح.. وهي أن تعرف تلك الحركات جيداً أنها صفحة 216 (تستهدف إنشاء الإسلام من جديد، أو بتعبير أدق ردة مرة أخري إلى حالة الوجود بعد أن توقف هذا الوجود فترة أي أن الإسلام ذاته ليس موجوداً، وبحاجة إلى تأسيس من جديد ويحذر هذه الحركات بما يسميه «الطريق الآخر» وهو «أن تظن هذه الحركات لحظة واحدة أن الإسلام قائم وأن هؤلاء الذين يدعون الإسلام ويتسمون بأسماء المسلمين هم فعلاً مسلمون".
أي أن من يعتبرون أنفسهم مسلمين ويحملون أسماء المسلمين مثل محمد وأحمد وعلي وإبراهيم وخالد وعمر وحمزة وعمرو، هم في الواقع ليسوا مسلمين.. تري ماذا يمكن أن نطلق على هذا؟ هل هو شيء غير التكفير..؟!
هذا ما كتبه سيد قطب سنة 1947، أي قبل أن يتشكل تنظيم الضباط الأحرار بعامين وقبل قيام ثورة 23 يوليو 1952 بخمس سنوات كاملة!!

معركة الإسلام والرأسمالية:

لم تكن تلك الآراء عارضة لدى سيد قطب ولا طارئة عليه، وكان يمكن أن يعيد النظر فيها ويراجعها ثانية، لكننا نلاحظ أنه أخذ يعمقها بعد ذلك ويتوسع فيها طوال سنوات عمره، أي من سنة 1965 لحظة القبض عليه آخر مرة.. ففي سنة 1950 نراه يواصل ما بدأه من قبل، فقد نشر مجموعة مقالات جمعها في كتاب صدر في العام التالي 1951، بعنوان «معركة الإسلام والرأسمالية»، وأنا هنا أعتمد علي طبعة دار الشروق الصادرة سنة 1979 الطبعة السادسة، يقول ص55: «إذا أريد للإسلام أن يعمل فلابد للإسلام أن يحكم، فما جاء هذا الدين لينزوي في الصوامع والمعابد أو يستكن في القلوب والضمائر، إنما جاء ليحكم الحياة ويعرفها، ويصوغ في المجتمع وفق فكرته الكاملة عن الحياة، لا بالوعظ والإرشاد، بل كذلك بالتشريع والتنظيم».
وسوف نلاحظ في سنة 1950 احتداد أسلوبه أكثر وهجومه الحاد العنيف علي من يمكن أن يخالفه الرأي أو من يعتبرهم خصومه، فهو يتحدث بتهكم عن الذين ينادون بفصل الدين عن الدولة أو ما نسميه مدنية الدولة، يقول بعد استعراض تجربة أوروبا في هذا المجال ص57: «نحن ببلاهة غبية وسطحية ناقصة قد حاولنا بالإسلام هذه المحاولة لا لأن الإسلام لم يتضمن التشريعات التي تحكم الحياة وتصرفها، بل لأننا بشعور العبيد وعلي طريقة القرود، قد أردنا أن نجعل مصر قطعة من أوروبا»، هو هنا يهاجم تياراً كاملاً، ثم ينتقل إلى تيار آخر، أنصار الوطنية المصرية، الوطنية هنا لا مكان لها ولا معني لها لديه.. يقول ص59: «إن العقيدة الوطنية وحدها لم تعد تكفي بدليل أنها لا تستطيع أن تقاوم العقيدة الشيوعية في كثير من أقطار الأرض».. وهو لا يمانع في وطنية إسلامية.. وطنية مصرية لا.. «فكرة الوطنية في الوطن الإسلامي الأكبر حينما مد الإسلام ظله»، ويعود إلى قضيته المفضلة الحاكمية «لا إسلام بلا علم ولا مسلمين بلا إسلام.. «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون»، ويقول أيضاً: «إن الذي يجدي وحده أن يحكم الإسلام الحياة ويصرفها، أن تحكم الدولة حكماً إسلامياً".

السلام العالمي والإسلامي:

في السنة نفسها 1951، أصدر سيد قطب كتابه «السلام العالمي والإسلامي» وهو في الأصل كان مجموعة مقالات نشرها قطب عامي 1949/1950 وهذا الكتاب وضح فيه التكفير كاملاً والدعوة إلى مقاومة الحاكم والدولة التي لا تحكم بما أنزل الله «ويجب القول إن هناك صفحتين تم حذفهما من الكتاب في الطبعات التالية، التي أصدرها الإخوان، لأنه كان بهما تكفير شديد، ومع ذلك فلن نعتمد علي الصفحتين، بل سنعتمد علي الطبعة المتداولة والتي أصدرتها دار الشروق»، يقول قطب متحدثاً عن شروط طاعة الحاكم ص124 «وجوب الطاعة بإقامة كتاب الله دون سواه والقرآن صريح في الحكم علي من لا يحكمون بما أنزل الله: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون» ثم يقول: «والإسلام صريح كذلك في وجوب مجاهدة من لا يحكم بما أنزل الله» وتحريم طاعة المسلم علي الإطلاق» ويقول كذلك: «طاعة الناس للحاكم مرهونة بإقامة هذه الشريعة وتنفيذ ذلك القانون، فإن فسق عنه فقد سقطت طاعته» ويقول أيضاً إن القرآن صريح في الحكم بعدم إيمان من يريدون أو يقبلون التحاكم إلى غير شريعة الله".
من النصوص السابقة، نصوص عامي 1950/1951 نحن بإزاء مجموعة أفكار قال بها سيد قطب، وستظل محور حياته بعد ذلك:
أولاً: إن الوطنية بمعناها المصري الذي نعرفه ليست مقبولة ولا مكان لها عنده، ولكنه يؤمن بالوطن الإسلامي الكبير، ولعل هذا يذكرنا بحديث المرشد السابق مهدي عاكف عن أنه لا غضاضة لديه في أن يحكمه ماليزي مسلم ومقولته «طظ في مصر".
ثانياً: إن أساس الحكم هو بما أنزل الله.. الحكم بالشريعة الإسلامية.
ثالثاً: من لا يحكم بهذه الشريعة فهو كافر أو عديم الإيمان، ومن يقبل أن يحتكم إلى غير الشريعة (القانون الوضعي) هو غير مؤمن، ومن ثم فإن عدم الإيمان هو من نصيب الحاكم والمحكوم، أي المجتمع كله.
رابعاً: طاعة الحاكم مقترنة بالتزامه بالحكم بما أنزل الله، فإن فسق عنها فلا طاعة له.
خامساً: يكفي للمحكوم ألا يطيع الحاكم، بل يجب عليه الجهاد ضده، هو لا يقولها كدعوة أخلاقية أو نداء سياسي، ولكنها هنا حالة وجوبية أي فريضة.
سادساً: سوف نلاحظ أن المفردات عنده لا تعرف المصطلحات الحديثة مثل المواطن.. الفرد.. الإنسان، بل عنده حاكم ومحكوم.. العبيد.. القرود.. عدم الإيمان.. الكافرون.
وفي السنة نفسها صدرت في القاهرة الطبعة الثانية من كتاب أبوالحسن الندوي «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» 1951، وقدم لهذه الطبعة كل من د. محمد يوسف موسي وسيد قطب ود. أحمد الشرباصي، وفي تقديمه يعرف قطب ما يعنيه بالجاهلية: «إنها الجاهلية في طبيعتها الأصلية فالجاهلية ليست فترة من الزمن محددة، ولكنها طابع روحي وعقلي معين، طابع يبرز فور أن تسقط القيم الأساسية للحياة البشرية، كما أرادها الله، وتحل محلها قيم مصطنعة تستند إلى الشهوات الطارئة، وهذا ما تعانيه البشرية اليوم مرحلة الارتقاء الأولي، كما كانت تعانيه من قبل في أيام البربرية الأولي.
كل هذه الآراء والأفكار ولم نصل بعد إلى مرحلة «معالم في الطريق»، حيث توسع في مفهوم الجاهلية والتكفير، «إن العالم يعيش اليوم كله في جاهلية» وجاهلية اليوم أخطر «إنها تسند الحاكمية إلى بشر فتجعل بعضهم لبعض أرباباً، لأن الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولي، ولكن في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم والشرائع والقوانين والأنظمة بمعزل عن منهج الله للحياة» (العالم ص10) وفي كتابه «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» يلمح إلى هذا المعني: «إن التصور الإسلامي من ثم يقوم علي أساس أن هناك حالتين اثنتين للحياة البشرية، ولا علاقة للزمان أو للمكان في تقرير يحكم هاتين الحالتين حالتان اثنتان تتنازعان البشرية علي مدي الزمان واختلاف المكان: حالة الهدي وحالة الضلال، مهما تنوعت ألوان الضلال حالة الإسلام وحالة الجاهلية، مهما تنوعت ألوان الجاهلية، حالة الإيمان وحالة الكفر، مهما تنوعت ألوان الكفر، وإما أن يلتزم الناس الإسلام ديناً أي منهجاً للحياة ونظاماً وإلا فهو الكفر والجاهلية» (ص84 و85).ش

أبو الحسن الندوي:

إذن فكرة الجاهلية والتكفير، تكفير المسلمين حكاماً ومحكومين قديمة لدى سيد قطب، ورصد كتاب حلمي النمنم في الفقرات السابقة قصة ظهورها لديه منذ سنة 1947، مع كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وللحق فإن فكرة تكفير المسلم عموماً والخروج علي الحاكم بالسلاح أو الجهاد ضده ليست من اختراع سيد قطب، هي قديمة في التاريخ الإسلامي وتعود إلى الخوارج وزمن «الفتنة الكبرى»، ألم يقتل أحدهم عبدالرحمن بن ملجم الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لأنه في نظره خرج عن الإسلام؟! علي العموم قصة الخوارج والحشاشين معروفة في التاريخ الإسلامي، لكنها لم تكن معروفة في مصر، ولم تدخل إليها، بل إن مصر حكمها الفاطميون وهم شيعة ثم أسقطهم صلاح الدين الأيوبي السني ومع ذلك لم تشهد مصر صراعاً مذهبياً.. جديد سيد قطب أنه أقحم هذه الأفكار علي الساحة المصرية، التي عرفت من الإسلام وسطيته وسماحته، فمن أين جاءته هذه الأفكار؟
الإجابة قام بها العلامة الهندي «أبو الحسن الندوي»، وقد أتيح للندوي أن يتعرف إلى سيد قطب منذ سنة 1950 في زيارة له إلى القاهرة، وكتب هو عن قصة لقائه وتعرضه إلى سيد قطب في كتابه «مذكرات سائح في المشرق العربي» ويبدو أن الندوي انزعج من أفكار سيد قطب فأصدر كتاباً طبع في القاهرة سنة 1978 وصدرت طبعته الثانية في العام 1980 بعنوان «التفسير السياسي للإسلام في مرآة كتابات الأستاذ أبي الأعلي المودودي والشهيد سيد قطب» وهو كتاب صغير الحجم 160 صفحة، لكنه بالغ الأهمية، ومن أسف أنه لم يجد الاهتمام الكافي من القراء ولا من الدارسين والباحثين.
الندوي يري أن سيد قطب قرأ كتاب أبو الأعلي المودودي «المصطلحات الأربعة في القرآن» وهذه المصطلحات هي الإله.. الرب.. العبادة.. الدين، ويذهب المودودي إلى أن العرب في عصر الرسول استطاعوا فهم هذه المصطلحات لكن فيما بعد أخذ هذا الفهم يستغلق علي العرب.. ويعترض الندوي تماماً علي تفسير المودودي وقوله إن العرب ما عادوا يفهمون هذه المصطلحات، لأن ذلك يشكك في صلاحية هذه الأمة ومركزها القيادي والدعوي وفي فهم هذه الأمة لهذا الكتاب والعمل به في تاريخها الطويل، ويقلل من قيمة مآثر المجددين والمصلحين والمجتهدين العلمية والعملية، فإن الكتاب الذي لم يفهم حق الفهم في أطول مدة وأخصبها علما عملاً وكفاحاً يشكك في إبانته ووضوحه وإفادته، ويشكك في كل ما يقال عنه.. وبعد ذلك يفتح الباب للتوسع في تأويله علي مصراعيه، كما فعلت الباطنية، ويشجع المحاولات التي ترمي إلى تحويل الحقائق الدينية إلى لغز مستعصٍ علي الفهم والإدراك (ص34).الواقع أن الندوي استطرد في تفنيد أقوال المودودي، فالقرآن الكريم ليس غامضاً ولا مستعصياً علي الفهم، إلى هذه الدرجة، لكن المشكلة أن سيد قطب لم يتعامل مع كتاب المودودي بروح وعقلية الندوي، أقصد العقلية النقدية، كان موقفه مختلفاً تماماً ويقول الندوي: «أُعجب سيد قطب إعجاباً شديداً بكتاب الأستاذ المودودي، ووافقه كل الموافقة في الآراء والأفكار التي يتضمنها، وقد جعل الحاكمية أخص خصائص الألوهية، وكتاباته تقلل من شناعة عبادة الأصنام والأوثان وعبادة غير الله في الجاهلية، لأنه يعتبرها صورة ساذجة بدائية للجاهلية الأولي، وينتقد الندوي بشدة تركيز سيد قطب ومن قبله المودودي علي مفهوم الحاكمية. «الواقع أن صلة الخالق والمخلوق والعبد والمعبود هي أشمل وأوسع وأعمق وأدق بكثير وكثير من صلة الحاكم والمحكوم، والآمر والمأمور، والسلطان والرعية، وقد لهج القرآن الكريم بذكر أسماء الله وصفاته في بسط وتفصيل وأسلوب شيق وجميل لا يدل علي أن المطلوب من العبد هو الإيمان بمجرد حاكميته المطلقة والإذعان لسلطته العليا وألا يشرك آخرين معه في سلطته». ويبدي الندوي تخوفه علي كل من يختزلون الله سبحانه وتعالي والإسلام في حق الحاكمية والسلطة العليا، أخاف أن يكون قد صدق عليهم قول الرب تبارك وتعالي: «وما قدروا الله حق قدره»، أفاض الندوي في تفنيد فكرة الحاكمية ومن ثم أفكار المودودي وسيد قطب، لكن ربما كان لدي المودودي مبرر وهو أنه كان يكتب في بيئة غلب فيها الهندوس ووقعت مواجهات دامية لهم مع المسلمين، لكن لا مبرر لسيد قطب سوي الانبهار بالمودودي كما شرح الندوي وساعد علي ذلك طبيعة سيد قطب الشخصية، كان إنساناً حاداً، أحادي التفكير فوقع أسير المودودي، تري هل يمكن أن نضيف إلى ذلك ضحالة ثقافته الإسلامية، فهو خريج دار العلوم ومنشغل طوال عمره بمحاولة كتابة الشعر ومحاولة النقد، فدخل المجال الإسلامي دون تكوين فقهي وعلمي ثقيل. تلك حكاية سيد قطب مع التكفير والحاكمية حتى سنة 1951، وتقع ثورة يوليو ويمر شهر عسل بين الضباط الأحرار وجماعة الإخوان، لكن بدأت العلاقات تفتر بينهما منذ ديسمبر 1953، وفي فترة العسل، راح سيد قطب يكتب مسانداً لمحمد نجيب ورفاقه، ورفعهم إلى مصاف القديسين، ويقترب بهم من مصاف الأنبياء، ودعاهم إلى الإطاحة بكل من يقف في طريقهم، ووصلت به الجسارة إلى القول كما جاء في «روز اليوسف» 10 سبتمبر 1952: «لأن نظلم عشرة أو عشرين من المتهمين خير من أن ندع الثورة كلها تذبل وتموت».

شارك