في التآمر الإنجليزي مع الأصوليين.. الصفقات الحرام بين بريطانيا والإخوان (الحلقة الثانية)

الخميس 01/أكتوبر/2015 - 03:53 م
طباعة في التآمر الإنجليزي
 
في الحلقة الأولى من عرضنا للكتاب الوثائقي المهم (تآمر بريطانيا مع الأصوليين) قدمنا فكرة عامة عن الكتاب، وأهم ما يتعرض له ويكشفه من صفقات بريطانية مع حركات الإسلام السياسي في دول أفغانستان وإيران والعراق وليبيا والبلقان وسوريا وإندونيسيا ومصر وبلدان رابطة الدول المستقلة حديثاً، بل حتى في نيجيريا التي تآمرت بريطانيا على خلافة سوكوتو فيها في أوائل القرن العشرين مع متأسلمين هناك؛ وذلك لتحقيق مصالحها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية. وفي هذه الحلقة نعرض لبداية التعاون بين بريطانيا والإخوان من خلال الوثائق التي رفعت عنها السرية واعتمد عليها الكاتب مارك كورتيس الذي يقول شهدت سنوات الحرب نموًّا متواصلاً لحركة الإخوان المسلمين التي تطورت بقيادة حسن البنا إلى حركة جماهيرية متأسلمة. فقد أصبحت أكبر جمعية إسلامية في مصر وأقامت فروعاً لها في السودان الأردن وسوريا وفلسطين وشمال إفريقيا. ونادت جماعة الإخوان التي استهدفت إقامة دولة إسلامية تحت شعار "القرآن دستورنا" بالالتزام الصارم بأحكام الإسلام وقدمت بديلاً دينياً لكل من الحركات القومية العلمانية والأحزاب الشيوعية في مصر والشرق الأوسط – وهى قوى كانت قد طفقت تصبح بمثابة تحد رئيسي لقوة بريطانيا والولايات المتحدة في المنطقة.
وقد اعتبرت بريطانيا أن مصر مرتكز وضعها في الشرق الأوسط منذ أن أعلنت "الحماية" على هذا البلد في بداية الحرب العالمية الأولى. وسيطرت الشركات البريطانية على الاستثمار الأجنبي والحياة التجارية في البلاد، وأصبحت القاعدة العسكرية البريطانية في منطقة قناة السويس هي الأكبر في العالم عندما حان وقت الحرب العالمية الثانية. بيد أن السيطرة البريطانية على البلاد تعرضت للتحدي من قِبل كل من الحركة القومية المتنامية والقوى الإسلامية للإخوان المسلمين، في حين كان حليف لندن في البلاد في نهاية المطاف، هو حاكمها الملك فاروق، الذي تولى العرش في 1936.
وقد دعا الإخوان المسلمون إلى الجهاد ضد اليهود إبان الثورة العربية في 1936- 1939 في فلسطين، وأرسلوا متطوعين هناك بعد نداء وجهه المفتي، كما ساعدهم ضباط ألمان في بناء جناح عسكري. واعتبرت المنظمة البريطانيين قاهرين امبرياليين لمصر، وأثارت الناس ضد الاحتلال العسكري البريطاني للبلاد، خاصة بعد تمرد فلسطين. وفي السنوات الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، انطوت الاستراتيجية البريطانية إزاء الإخوان في مصر في الأساس على محاولة قمعهم. ومع ذلك، حظى الإخوان الذين تحالفوا مع اليمين السياسي، ففي ذلك الوقت، برعاية الملكية المصرية الموالية للبريطانيين، والتي بدأت تمول الإخوان في 1940. فقد اعتبر الملك فاروق الإخوان معارضاً مفيداً لقوة الحزب السياسي الرئيسي في البلاد-حزب الوفد الوطني العلماني- والشيوعيين. ونبه تقرير للمخابرات البريطانية في 1942 إلى أن "الصر بدأ يرى أن الإخوان مفيدون وأضفى حمايته عليهم". وخلال ذلك الوقت، كانت السلطان ترعى كثيراً من الجمعيات الدينية في مصر لمعارضة خصومها أو تعزيز مصالح البريطانيين والقصر ومجموعات أصحاب النفوذ الآخرين.
وتم أول اتصال مباشر معروف بين المسئولين البريطانيين والإخوان في 1941، في وقت رأت فيه المخابرات البريطانية أن الحشود المناصرة للمنظمة وخططها للتخريب ضد بريطانيا هما "أشد خطر يواجه الأمن العام" في مصر. وفي ذلك العام، كانت السلطات المصرية قد سجنت البنا تنفيذاً لضغوط بريطانية، ولكن عند إطلاق سراحه فيما بعد في ذلك العام أجرى البريطانيون أول اتصال مع الإخوان. ووفق بعض التقارير، عرض المسئولون البريطانيون مساعدة المنظمة "لشراء" مساندتها. وكثرت النظريات حول ما إذا كان البنا قد قبل عرض البريطانيين تقديم المساندة أم رفضة، لكن في ضوء الهدوء النسبي للإخوان لبعض الوقت عقب هذه الفترة، فإنه من المحتمل أن تكون المعونة البريطانية قد قبلت.
وبحلول 1942 كانت بريطانيا قد بدأت على وجه القطع في تمويل الإخوان. ففي 18 مايو عقد مسئولو السفارة البريطانية اجتماعاً مع أمين عثمان باشا رئيس وزرا مصر، نوقشت فيه العلاقات مع الإخوان وتم الاتفاق على عدد من النقاط، كان أحدها هي أن تدفع ] الحكومة[ المصرية سراً الدعم المقدم من ]حزب[ الوفد للإخوان المسلمين سراً وأنها ستحتاج في هذا الأمر إلى بعض المساعدة المالية من السفارة ]البريطانية[ ". وإضافة لذلك، ستدخل الحكومة المصرية عملاء موثوقاً بهم في صفوف الإخوان لتراقب الأنشطة عن كثب متقدم لنا ]في السفارة البريطانية[ المعلومات التي يحصل عليها هؤلاء العملاء. وسنحيط بدورنا الحكومة بالمعلومات المتحصلة من مصادر بريطانية ."
كما تم اتفاق على أنه "ينبغي بذل الجهد لإثارة الانقسام في الحزب باستغلال أي خلافات قد تحدث بين القائدين حسن البنا وأحمد السكري". كما سيقدم البريطانيون للحكومة قائمة بأعضاء الإخوان المسلمين الذين يعتبرونهم خطيرين، لكن لن تتخذ أي أعمال عدائية ضد المنظمة، بل كانت الاستراتيجية التي تم الاتفاق عليها هي "القتل عن طريق تقديم الأفضال". واتفق على أن يسمح للبنا بإصدار صحيفة ونشر مقالات "تؤيد المبادئ الديمقراطية"- ويعد ذلك طريقة جيدة "للمساعدة في تفكيك الإخوان"، كما أعلن أحد الحاضرين للاجتماع.
كذلك ناقش الاجتماع كيف أن الإخوان يشكلون "تنظيمات للتخريب" ويتجسسون لحساب النازي. كما وصفوا بأنهم تنظيم ديني وظلامي محدود لكنه يمكن أن يحشد "قوات للصدام في وقت الاضطرابات" بما في ذلك "فرق انتحارية". وبعضوية تقدر بنحو 100-200 ألف، كان الإخوان "ضمناً معادين للأوروبيين، ومعادين للبريطانيين بصفة خاصة، وفي ضوء وضعنا الاستثنائي في مصر، ومن ثم فقد كانوا يأملون في انتصار المحور، الذين تصوروا أنه سيجعلهم اصحاب النفوذ السياسي المسيطر في مصر.
وبحلول 1944، كانت لجنة المخابرات السياسية البريطانية تصف الإخوان باعتبارهم خطراً محتملاً، لكنهم بقيادة ضعيفة؛ فقد اعتقدت أن البنا كان هو "الشخصية البارزة الوحيدة" وبدونه "يمكن أن ينهاروا بسهولة". بيد أن هذا التحليل القائل بإمكان زوال الجماعة جرت مراجعته في السنوات التالية، عندما تعهدها البريطانيون وتعاونوا معها في مواجهة العدو المتنامي للاستعمار في مصر.
وهكذا فإنه بحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، توافرت لبريطانيا بالفعل خبرة كبيرة في التواطؤ مع القوى الإسلامية لتحقيق أهداف معينة، في حين أدرك المسئولون البريطانيون أيضًا أن هذه القوى نفسها كانت بصفة عامة معرضة لسياسة بريطانيا الإمبريالية وأهدافها الاستراتيجية، كانوا أعواناً مؤقتين في ظروف محددة لتحقيق أهداف بعينها، عندما كانت بريطانيا تفتقر إلى حلفاء آخرين أو إلى قوة كافية خاصة بها لتفرض أولويتها. وتعمقت هذه السياسة البريطانية النفعية بصورة كبيرة في عالم ما بعد الحرب حيث زادت الحاجة للأعوان في مناخ عالمي أصبح أكثر اتساماً بالتحدي بقدر كبير.
في التآمر الإنجليزي
معضلة جامعة العرب
في مايو 1947، أبلغ السير إليك كيركبرايد، الدبلوماسي الرئيسي لبريطانيا في عمان وأحد مهندسي السياسة البريطانية في الحرب العربية الإسرائيلية، أرنست بيفين وزير الخارجية عن زيارة قام بها إلى الأردن أخيراً، عبد الحكيم عابدين، السكرتير العام للإخوان المسلمين. وكتب كيركبرايد يقول "أعرف عدداً من قادة الفرع المحلي للإخوان المسلمين الأردنية بصورة شخصية، ولا أعتبرهم ممن يثيرون الاعتراضات من الناحية السياسية". وقد لقي عابدين في زيارته كما قال كيركبرايد: "رضي ملحوظاً من لدن عبدالله ملك شرق الأردن". وأخبر ميرمبرايد بأنه إذا اقتصرت أنشطة الإخوان على الأمور الدينية "ربما يكون هناك قدر كبير من الحقيقة فيما قاله الملك، لكن يبدو من التقارير الواردة أن دوافع مؤسس الإخوان كانت سياسية بقدر ما هي دينية". ووافق الملك على إبقاء الإخوان عند الخطوط الأكثر سلامة (بمعنى إبعادهم عن الشئون السياسية) لكن لن يكون هناك "تدخل في الوقت الحالي".
وبحلول 1949، اقترح الملك عبدالله، على شاه إيران، وملك العراق ورئيس تركيا، أثناء حركة للجامعة الإسلامية، لزيادة التلاحم والتعاون بين الدول الإسلامية. ولم تحقق هذه الفكرة الكثير، لكن استجابة مسئولي الخارجية البريطانية إزاءها كانت مثيرة للاهتمام. ففي أكتوبر 1949 لاحظ أحد المسئولين:
وبقدر ما تكون حركة الجامعة الإسلامية مصممة لإنشاء جبهه مشتركة ضد الشيوعية فانه من الواضح أننا ينبغي أن نبذل كل ما في وسعنا لمساندتها .. وأرى أنه إذا وجهت حركة الجامعة الإسلامية بصورة صحيحة نحو قنوات الإصلاح الاجتماعي.. فإنها يمكن أن تكون نعمة للشعوب نفسها، ويجب ألا تمثل أي تهديد للعالم الغربي. إن حقيقة أن مثل هذه الحركات جعلت كراهية الأجانب أساساً لها في الماضي القريب يجب ألا تزعجنا. لأنه إذا كانت أهدافها سياسية محضة فستفشل حتماً.. وينبغي أن نبذل كل ما في طاقتنا لتوجيهها نحو قنوات الخدمة الاجتماعية ومعاونتها في ذلك. في ظل مثل هذه الشروط فإنها ستسمو على النزعة القومية ومنازعات الأسر الحاكمة وغيرها.
وكانت المذكرة ردًّا على مذكرة جاءت من السير جون تروتبك من مكتب الشرق الأوسط البريطاني في القاهرة. وقد حاج تروتبك بأنه "ينبغي لنا أن نمضي ببطء شديد في تشجيع هذا المفهوم" لحركة الجامعة الإسلامية. وكتب يقول إنه على الرغم من "أن أحد مصادر جاذبيتها بالنسبة لنا هو افتراض أن التعاون الإسلامي قد يشكل حصنًا منيعًا أمام انتشار الشيوعية"، فإن المشكلة تتمثل في أنها ستوجه أقوى مدافعها نحو الإمبريالية الغربية، التي يعتبرونها أقوى أنصارها". ومن ثم "لا يمكنني الاعتقاد بأننا سنجد أي شيء بناء بدرجة أكبر في رابطة للبلدان الإسلامية."
وفي مذكرة أخرى، كانت هذه المرة موجهة إلى بيفن، حاج تروتبك أيضًا بأن الدول الإسلامية لا تشكل حالياً وحدة اقتصادية، لكنها إن أصبحت كذلك "فإن تأثير ذلك على التجارة البريطانية لا يمكن إلا أن يكون مدمراً". واختتم تروتبك بطرح فكرة أخرى: أن الأقليات المسيحية ستنزعج من التعاون الإسلامي؛ "لأنها تعرف من واقع الخبرة المريرة أنه إذا اجتمع مسلمان أو ثلاثة مسلمين معاً، فإن فكرهم سيجتمع عاجلاً أو آجلاً نحو إمكانية مغرية هي ذبح الكافرين." ورد بيفن على السفارة البريطانية في القاهرة قائلاً:
إن الخاطر الذي يسترعي تروتبك الانتباه إليها هي مخاطر حقيقية تماماً. ومع ذلك، فإنني أعتقد أنه يستحيل علينا يقيناً أن نحبط أي تحرك نحو التعاون بين البلدان الإسلامية، وأنه إذا قام هذ التعاون على وحدة المصالح العملية وليس على إنجازات سياسية، فإنه سيسفر عن نتائج قيمة في تشجيع ثقة الحكومات المعنية وفي تطوير ثروات المنطقة المحتملة على حد سواء.
وانطوت هذه المذكرات على موضوع مهم في السياسة البريطانية إزاء القوى الإسلامية. فقد أوضحت أن المسئولين البريطانيين يرون أن الإخوان المسلمين وحركة الجامعة الإسلامية "حصنان" مفيدان محلياً ودولياً في مواجهة "الشيوعية" (وهو مصطلح فهمه المخططون البريطانيون على نحو واسع للغاية على أنه يعني تشكيلة من القوى المعادية للبريطانيين)، لكن الجامعة الإسلامية باعتبارها قوة موحدة يرجح أيضًا أن تتحدى المصالح الاستراتيجية البريطانية. وفي حين كان المسئولون البريطانيون حينذاك، مستعدين لمساعدة زعماء مسلمين فرادى أو مجموعات بعينها على تحقيق غايات محددة، مثلما حدث في الهند وفلسطين، فإنهم لم يعتبروا "الإسلام" حليفاً استراتيجياً، وهي وجهه نظر ظلت ثابتة طوال عصر ما بعد الحرب. وقد مكنت وجهة النظر هذه التآمر البريطاني مع القوى الفاعلة من ولوج مرحلة جديدة، حيث بدأت شراكات مخصصة لغايات معينة تتعمق مع القوى المتطرفة في عمليات سرية.
في التآمر الإنجليزي
التعاون مع الإخوان
في الوقت نفسه الذي كانت فيه بريطانيا ترعى كاشاني في إيران، كانت أيضًا تتواطأ مع أقوى قوة إسلامية متطرفة في مصر، الإخوان المسلمين، ثانية لزعزعة استقرار ضم عدو قومي والإطاحه به. ومثلما رأينا في الفصل الأول، فقد كانت مصر هي مرتكز وضع بريطانيا في الشرق الأوسط، بقاعدتها العسكرية في منطقة قناة السويس وهي الأكبر في العالم، وبموجب أحكام المعاهدة الأنجلو مصرية التي أبرمت في 1936 كان قد سمح لبريطانيا بالاستمرار في استخدام القاعدة لمدة عشرين عاماً. لكن الهيمنة البريطانية على البلاد طفقت تتحداها حركة متنامية والإخوان المسلمون، ففي حين كان حليف لندن الرئيسي في البلاد هو حاكمها، الملك فاروق.
وقد قام المسئولون البريطانيون الذين كانوا يعملون مع القصر في مصر، بأول اتصالاتهم المباشرة مع الإخوان المسلمين في مصر 1941. وقدموا الأموال للمنظمة. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كان تنظيم الإخوان المسلمين واحداً من الحزبين السياسيين اللذين يتمتعان بقاعدة جماهيرية في مصر، إلى جانب حزب الوفد الذي يضم الوطنيين المعتدلين، واستمر الملك فاروق يرى أن الإخوان مفيدون كحصن ضد الأفكار الاقتصادية والاجتماعية الراديكالية. والمعروف أن الإخوان المسلمين نقلوا معلومات للحكومة للمساعدة في مطاردتها المستمرة للشيوعيين الحقيقيين والمشتبه بهم، خاصة في النقابات والجمامعات. بيد أنه كان هناك على الدوام تعايش متقلقل في خضم المعارضة المتزايدة للوجود البريطاني وتيار من العنف صدم مصر بعد 1945.
وسرعان ما تصاعدت المواجهة بين الإخوان– النزاعين لطرد "المحتل" الأجنبي والسعي لإقامة دولة إسلامية في نهاية المطاف- وبين البريطانيين والقصر. وشاعت في منطقة قناة السويس، الهجمات بالقنابل على القوات البريطانية، وادعت السلطات بانتظام أنها كانت تكتشف مخابئ أسلحة لدى الإخوان. كذلك حاول الإخوان القيام باغتيالات شتى بين 1945 و1948، وكان رئيسان للوزارة، ورئيس للشرطة ووزيران من بين من ماتوا على أيديهم. وفي ديسمبر 1948، عقب ادعاء السلطات اكتشاف مخابئ أسلحة سرية لدى الإخوان ومؤامرة للإطاحة بالنظام، تم حل التنظيم، وهو قرار من الواضح أن البريطانيين طالبوا الحكومة المصرية بأن تتخذه للقضاء على نشاطهم المعادي للبريطانيين. وبعد ثلاثة أسابيع، تم اغتيال رئيس الوزراء محمود النقراشي الذي أصدر أمر الحل على أيدي عضو من "الجهاز السري" للإخوان المسلمين، وهو الوحدة شبه العسكرية الإرهابية لديهم التي قامت بهجمات بالقنابل على البريطانيين في منطقة القناة.
وبحلول شهر يناير 1949، كانت تقارير السفارة البريطانية في القاهرة تقول: إن الملك فاروق "سوف يسحق" الإخوان، بحملة ملاحقة كاسحة جديدة واعتقال ما يربو من 100 عضو. وفي الشهر التالي، تم اغتيال حسن البنا مؤسس الإخوان نفسه. ورغم أنه لم يتم التوصل للقاتل مطلقاً، فقد ساد الاعتقاد بأن الاغتيال قام به أعضاء البوليس السياسي، وأن القصر تستر عليه أو خطط له. وكان هناك تقرير لا لبس فيه لهيئات المخابرات الخارجية البريطانية يذكر:
لقد دبرت الحكومة الاغتيال بموافقة القصر.. فقد تقرر أنه ينبغي إزاحة حسن البنا من مسرح نشاطاته بهذه الطريقة؛ حيث إنه ما دام بقي حراً، فالأرجح أن يسبب إزعاجاً للحكومة، في حين أن اعتقاله سيؤدي يقيناً إلى مزيد من الاضطرابات مع أنصاره، الذين لا ريب في أنهم يعتبرونه شهيداً لقضيتهم.
بيد أن حجج النفي كانت قد أعدت فعلاً. فبعد ثلاثة أيام من الاغتيال، سجل السفير البريطاني، السير دونالد كامبل بعد لقاء بالملك فاروق "قلت له إنني أعتقد أن الاغتيال ربما قام به أحد أتباع حسن البنا المتطرفين، خوفاً منه، أو أنه اشتباهاً في أنه سيتخلى عن القضية". واخترع الملك فاروق بدوره هو أيضاً رواية تلقي المسئولية على "السعديين" (وهم مجموعة منقسمة على حزب الوفد، سميت باسم سعد زغلول، زعيم الحزب ورئيس الوزراء السابق). وكان الدبلوماسي الأقدم في السفارة البريطانية مصر بتستر على قتلة البنا لتغطيتهم..
وفي أكتوبر 1951، انتخب الإخوان قائدهم الجديد، وهو القاضي السابق حسن الهضيبي، وهو شخصية لم ترتبط علناً بالإرهاب، واشتهر بمعارضته لعنف 45-1949. بيد أن الهضيبي عجز عن أن يؤكد سيطرة الشيع المتصارعة أحياناً في التنظيم. وجدد الإخوان دعوتهم للجهاد ضد البريطانيين، داعين لشن هجمات على البريطانيين وممتلكاتهم، ونظموا مظاهرات ضد الاحتلال وحاولوا دفع الحكومة المصرية إلى إعلان حالة الحرب مع بريطانيا. وذكر تقرير للسفارة البريطانية من القاهرة في أواخر 1951 أن الإخوان "يملكون تنظيماً إرهابياً منذ عهد بعيد لم تقض عليه مطلقاً إجراءات الشرطة"، رغم الاعتقالات الأخيرة. بيد أن التقرير من جانب آخر قلل من شأن نوايا الإخوان تجاه البريطانيين، ذاكراً أنهم "يخططون لإرسال إرهابيين لمنطقة القناة" لكنهم "لا يعتزمون جعل تنظيمهم يتصادم مع قوات صاحبة الجلالة". ونبه تقرير آخر إلى أنه على الرغم من الإخوان المسلمين كانوا مسئولين عن بعض الهجمات على البريطانيين، فربما كان هذا يرجع إلى "عدم الانضباط، ويبدو أنه يتعارض مع سياسة قادتهم".
وفي الوقت نفسه، في ديسمبر 1951، تُبين الملفات البريطانية التي رفعت عنها السرية أن المسئولين البريطانيين كانوا يحاولون ترتيب لقاء مباشر مع الهضيبي. وقد عقدت عدة اجتماعات مع أحد مستشاريه، فرخاني بيه وهو شخص لا يعرف عنه الكثير، رغم أنه من الواضح أنه لم يكن هو نفسه عضواً في الإخوان. وتدل البيانات المستمدة من الملفات على أن قادة الإخوان كانوا مستعدين تماماً للقا مع البريطانيين سراً، رغم دعوتهم العلنية لشن هجمات عليهم. وبحلول ذلك الوقت، كانت الحكومة المصرية تعرض على الهضيبي "رشاوى ضخمة" لمنع الإخوان من ارتكاب مزيد من أعمال العنف ضد النظام حسبما أوردت وزارة الخارجية.
وعندئذ، قامت مجموعة من ضباط الجيش الوطنيين الذين عقدوا العزم على الإطاحة بالملكية المصرية ومستشاريها البريطانيين، بالاستيلاء على السلطة في يوليو 1952، وأعلنوا أنفسهم مجلساً لقيادة الثورة واختاروا اللواء محمد نجيب رئيساً له والعقيد جمال عبد الناصر نائباً للرئيس. وخلع ما يسمى "الضباط الأحرار" فاروق الموالي للبريطانيين، ونحوا جانباً الحرس القديم واعدين بسياسة خارجية مستقلة وإجراء تغيير داخلي واسع النطاق، خاصة القيام بإصلاح زراعي. وأدى نزاع نشب بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر تدريجيًّا إلى عزل نجيب في أواخر 1954 وتولى عبد الناصر السلطة كاملة. وفي البداية ساند الإخوان الانقلاب، فقد أسعدتهم رؤية فاروق وهو يرحل، والواقع أنهم كانت لهم بعض الصلات المباشرة بالضباط الأحرار، ومن بينهم أنور السادات الذي وصف دوره فيما بعد بأنه كان وسيطاً فيما قبل الانقلاب بين الضباط الأحرار وحسن البنا. وقد كتب السير ريتشارد بومونت السفير البريطاني في القاهرة، وبعد أن خلف السادات عبد الناصر رئيساً في 1970، يقول: "من الواضح أنه كان واحداً من الضباط الأحرار، يتم الاعتماد على صلته بهم للمساعدة في تدعيم أهدافهم السياسية." ومنح الإخوان قادة الثورة تأييداً محلياً مهماً، وتم الحفاظ على العلاقات الطيبة باقي عام 1952، وطوال العام التالي في معظمة.
وفي أوائل 1953، اجتمع مسئولون بريطانيون مباشرة بالهضيبي، ظاهرياً لمعرفة موقف الإخوان تجاه المفاوضات الوشيكة بين بريطانيا والحكومة المصرية الجديدة بشأن جلاء القوات البريطانية من مصر، وكانت اتفاقية العشرين عاماً الموقعة في 1936 توشك أن تنتهى بعد فترة وجيزة كما هو مقرر. وحيث إن بعض الملفات البريطانية لا تزال قيد الرقابة، فليس من المعروف على وجه الدقة ما الذي حدث في هذه الاجتماعات، لكن ريتشارد ميتشل، المحلل الغربي الرئيسي لشئون الإخوان المسلمين المصريين وثق فيما بعد ما قاله عنها مختلف الأطراف- الحكومتان البريطانية والمصرية والإخوان المسلمون. ويخلص ميتشل إلى أن دخول الإخوان في هذه المفاوضات تم بطلب من البريطانيين وأثار صعوبات بالنسبة لمفاوضي الحكومة المصرية، موفراً "للجانب البريطاني أداة للتأثير". والواقع أن البريطانيين في سعيهم لاستطلاع وجهات نظر الإخوان المسلمين، كانوا يلمون بوزنهم في شئون الأمة، وكان الهضيبي في موافقته على إجراء المحادثات، يدعم هذه الفكرة وبذا يضعف موقف الحكومة. وأدانت حكومة عبد الناصر هذه الاجتماعات بين البريطانيين والإخوان باعتبارها "مفاوضات سرية من وراء ظهر الثورة" واتهمت المسئولين البريطانيين صراحة بأنهم يتآمرون مع الإخوان، كما اتهمت الهضيبي بأنه قبل شروطاً معينة للجلاء البريطاني من مصر تغل أيدي مفاوضي الحكومة.
ويبدو من المعلومات المحدودة المتوافرة، أن الاستراتيجية البريطانية هي استراتيجية "فرق تسد" التقليدية، والتي تهدف لاكتساب "وسيلة للتأثير على النظام الجديد في سعيه لتحقيق مصالحه". واستغلال البريطانيين للإخوان المسلمين لم يكن يمكن إلا أن يفاقم التوترات بين نظام الإخوان ويقوي مركز الأخيرين. وتبين مذكرات داخلية بريطانية أن مسئولين بريطانيين أخبروا عبد الناصر عن بعض اجتماعاتهم مع الهضيبي وغيره من أعضاء جماعة الإخوان، وطمأنوه بالطبع بأن لندن لا تفعل شيئًا في الخفاء. بيد أن حقيقة إجراء المفاوضات نفسها زرعت بلا ريب الشك في عقل عبد الناصر بشأن جدارة الإخوان بالثقة. وفي ذلك الوقت، كان المسئولون البريطانيون يعتقدون أن الإخوان وجماعتهم شبه العسكرية كانا رهن إشارة السلطان العسكرية، وأن الإخوان كانوا يريدون أن يدفع النظام نوعاً من الثمن السخي لتأييدهم له، مثل تطبيق "دستور إسلامي".
كما تحتوي الملفات على مذكرة عن اجتماع عقد بين المسئولين البريطانيين والإخوان في 7 فبراير 1953، أخبر فيه شخص اسمه أبو رقيق المستشار الشرقي للسفارة البريطانية، تريفور ايفانز، أنه "إذا بحثت مصر في كل أرجاء العالم عن صديق فلن تجد سوى بريطانيا". وفسرت السفارة البريطانية في القاهرة هذا التعليق بأنه يكشف عن وجود مجموعة داخل قادة الإخوان مستعده للتعاون مع بريطانيا، حتى وإن لم تتعاون مع الغرب (اذ كانوا عديمي الثقة في النفوذ الأمريكي). ويرد في ملاحظة مكتوبة بخط اليد في هذا الجزء من مذكرة السفارة: "إن هذا الاستنتاج له ما يبرره على ما يبدو وهو يدعو للدهشة". كما تلاحظ المذكرة أن الاستعداد للتعاون "ربما ينبع من تزايد نفوذ الطبقة الوسطى في الإخوان، مقارنة بالقيادة الشعبية في الأساس للحركة في أيام حسن البنا"
وأصبح الاستعداد الجلي للتعاون بين البريطانيين والإخوان أكثر أهمية بحلول نهاية 1953، ففي ذلك الوقت كان نظام عبد الناصر يتهم الإخوان بمقاومة الإصلاح الزراعي وتدمير الجيش من خلال "جهازهم السري". وفي يناير 1954، تصادم أنصار الحكومة والإخوان في جامعة القاهرة، وأصيب عشرات الأشخاص وجرى إحراق سيارة جيب تابعة للجيش. ودفع هذا عبد الناصر إلى حل التنظيم. وكان من بين القائمة الطويلة من الاتهامات الموجهة للإخوان في مرسوم الحل، الاجتماعات التي عقدها الإخوان مع البريطانيين، التي رفعها النظام فيما بعد إلى مستوى "معاهدة سرية".
وفي أكتوبر 1954، وهو الوقت الذي كان الإخوان يسعون فيه إلى إثارة انتفاضة شعبية، حاول "الجهاز السري" اغتيال عبد الناصر وهو يخطب في الإسكندرية. وعقب ذلك جرى اعتقال مئات من الإخوان، في حين ذهب الذين هربوا إلى منفى في الخارج. وفي ديسمبر، تم شنق ستة من الإخوان. وتم سحق التنظيم بصورة فعالة. وكان سيد قطب من بين من اعتقلوا وعذبوا بوحشية، وكان عضواً في مجلس الإرشاد، وحكم عليه بالسجن خمسة وعشرين عاماً أشغالاً شاقة، وقد أصبح بحلول الستينيات من المنظرين الأساسيين للتطرف الإسلامي بكتاباته في سجن عبد الناصر.
وبعد فشل محاولة اغتيال عبد الناصر، بعث إليه ونستون تشرشل رئيس الوزراء رساله شخصية يقول فيها: "أهنئك بنجاتك من الهجوم الخسيس الذي وقع على حياتك في الإسكندرية مساء أمس." بيد أنه سرعان ما بدأ البريطانيون يتآمرون مرة ثانية مع الناس أنفسهم لتحقيق الغايات نفسها.
وخلال سنوات ثلاث من النظام الجديد، شملت إصلاحات عبد الناصر الداخلية إعادة توزيع الأراضي لصالح فقراء الريف، واتخاذ خطوات نحو تعزيز الإصلاح الدستوري للحكم ليحل محل الحكم المطلق. وفي يوليو 1955، لاحظ السير رالف ستيفنستون السفير البريطاني في القاهرة الذي كان قد تقرر رحيله، أن النظام كان "جيداً بقدر ما كانت أي حكومة مصرية سابقة منذ 1922، وهو أفضل من أي نظام في إحدى النواحي، ألا وهو محاولته أن يفعل شيئاً لشعب مصر، بدلاً من مجرد الحديث عنه". وحاج ستيفستون هارولد ماكميلان وزير الخارجية في حكومة انطونى إيدن "بأنهم ]قادة مصر[ يستحقون، في رأيي، كل مساعدة تستطيع بريطانيا العظمى أن تقدمها لهم على الوجه الصحيح." وبعد كتابه هذه المذكره بتسعة شهور، قرر البريطانيون إزاحة عبد الناصر.
كان البريطانيون والأمريكيون قد أصبحوا منخرطين حينذاك في تشكيلة متنوعة من المؤامرات للانقلاب ضد سوريا والسعودية، كذلك مصر، باعتبارها جزءاً من عملية إعادة تنظيم أكبر مخططة للشرق الأوسط لدحر "فيروس القومية العربية". وحسبما جاء في مذكرة بالغة السرية لوزارة الخارجية، فإن أيزنهاور رئيس الولايات المتحدة وصف للبريطانيين "الحلجة إلى خطط ميكافيلية رفيعة المستوى للتوصل لوضع الشرق الأوسط موات لمصالحنا" يمكنه أن "يقسم العرب ويهزم أهداف أعدائنا."
وفي مارس 1956، عزل حسين ملك الأردن الجنرال البريطاني جون جلوب قائد الفيلق العربي، وهي خطوة حمل إيدن وبعض المسئولين البريطانيين مسئوليتها لنفوذ عبد الناصر. وعندئذ كانت الحكومة البريطانية قد خلصت إلى أنها لم تعد تستطيع العمل مع عبد الناصر، وأن تخطيطاً بريطانيا وأمريكياً جاداً للإطاحة بنظامه قد بدأ، وأخبر إيدن وزير خارجيته الجديد، أنطوني ناتنج أنه يريد "اغتيال" عبد الناصر. وكان هذا قبل اتخاذ الأخير لقراره بتأميم قناة السويس في يوليو 195، وهو عمل "كان من المحتم أن يؤدي إلى خسارة مصالحنا ومصادر قوتنا الواحدة تلو الأخرى في الشرق الأوسط"، كما شرح إيدن في مذكراته، خائفاً من تأثير التداعي الذي سيترتب على الإجراء الذي اتخذته مصر. وقد شرح الموقف إيفون كيرباتريك الوكيل الدائم لوزارة الخارجية، قائلاً: "إذا سمحنا لعبد الناصر أن يفلت بضربته في قناة السويس، فإن العاقبة ستتمثل في القضاء على الملكية في السعودية"؛ وذلك لخوفه من أن تستلهم القوى الوطنية تحدي عبد الناصر الناجح للغرب في مصر.
لا يزال الكثير من القوات البريطانية الخاصة "بأزمة قناة السويس" قيد الرقابة، لكن بعض المعلومات تسربت على مر السنين حول مختلف المحاولات البريطانية للإطاحة بعبد الناصر أو اغتياله. وانطوت واحدة على الأقل من هذه الخطط على التآمر مع الإخوان المسلمين. ويلاحظ استيفن دوريل أن نيل "بيل" ماكلين المسئول التنفيذي السابق عن العمليات الخاصة وعضو البرلمان، وجوليان إيمرى، سكرتير "مجموعة السويس" من أعضاء البرلمان، ونورمان دارشير رئيس محطة المخابرات الخارجية البريطانية في جنيف، أجروا جميعاً اتصالات بالإخوان المسلمين في سويسرا، وكان ذلك في هذه المرة جزءاً من علاقاتهم السرية مع المعارضة لعبد الناصر، ولم يظهر مطلقاً مزيد من التفاصيل عن اجتماعات جنيف هذه، ولكنها ربما انطوت على بحث لتنفيذ محاولة للاغتيال وإقامة حكومة في المنفى تحل محل عبد الناصر بعد حرب السويس. وفي سبتمبر 1956، كانت إيفون كيرباتريك على اتصال مع مسئولين سعوديين في جنيف، أخبروه بوجود "معارضة سرية ضخمة لعبد الناصر على قناة السويس إلى القضاء على المقاومة المصرية، وهو ما يحتمل أن يعني الإخوان المسلمين".
وعلى وجه التأكيد، كان المسئولون البريطانيون يرصدون بانتباه أنشطة الإخوان المعادية للنظام، ويعترفون بأنها قادرة على أن تشكل تحدياً جاداً لعبد الناصر. وهناك أيضًا أدلة على أن البريطانيين أجروا اتصالات مع التنظيم في أواخر 1955، عندما زار بعض الإخوان الملك فاروق، الذي كان حينذاك منفياً في إيطاليا، لبحث التعاون ضد عبد الناصر. ومنح حسين ملك الأردن قادة الإخوان جوازات سفر دبلوماسية لتيسير تحركاتهم لتشكيل تنظيمات ضد عبد الناصر، في حين قدمت السعودية التمويل. كما وافقت وكالة المخابرات المركزية على تمويل السعودية للإخوان، ليعملوا ضد عبد الناصر، حسبما قال روبرت باير المسئول السابق بالوكالة.
وفي أغسطس 1956، اكتشفت السلطات المصرية حلقة تجسس بريطانية في البلاد، وألقت القبض على أربعة من رعايا بريطانيا، ومنهم جيمس سوينبرن، وكان يعمل مدير أعمال في وكالة الأنباء العربية، وهي واجهه لهيئة المخابرات المركزية في القاهرة. وتم طرد اثنين من الدبلوماسيين البريطانيين تورطا في جمع الاستخبارات. ومن الواضح مثلما لاحظ دوريل، أنهما كانا على اتصال "بعناصر طلابية لها اتجاهات دينية" بفكرة تشجيع أعمال الشغب التي يقوم بها الأصوليون، والتي يمكن أن توفر مسوغاً للتدخل العسكري لحماية أرواح الأوروبيين.
وفي أكتوبر، شنت بريطانيا في تحالف سري مع فرنسا وإسرائيل، غزوًا على مصر للإطاحة بعبد الناصر، لكن رفض الولايات المتحدة تأييد التدخل هو في الأساس الذي أوقفه. وتم الاضطلاع بالغزو والبريطانيون يدركون أن الإخوان المسلمين قد يصبحون هم المستفيد الأول، ويشكلون حكومة ما بعد عبد الناصر، وتبين المذكرات أن المسئولين البريطانيين كانوا يعتقدون في هذا السيناريو القائم على "الاحتمال" أم "الترجيح". ومع ذلك، ففي انعكاس لصدى نتائج تقييم كشاني زعيماً محتملاً في إيران خشي المسئولون البريطانيون من أن ينتج استيلاء الإخوان على السلطة، "شكلاً أكثر تطرفاً من الحكم" في مصر. ومرة ثانية، فإن هذا لم يوقفهم عن العمل مع هذه القوى.
وبعد هزيمة عبد الناصر للبريطانيين ببضعة أشهر، كان تريفور إيفانز، وهو المسئول الذي قاد الاتصالات البريطانية مع الإخوان قبل أربع سنوات، يكتب مذكرات في مطلع 1957 يوصي فيها بأن "اختفاء نظام عبد الناصر ... يجب أن يكون هدفنا الأول". ولاحظ مسئولون آخرون أن الإخوان ظلوا نشيطين ضد عبد الناصر في الداخل والخارج على حد سواء، خاصة في الأردن؛ حيث كان يتم شن "حملة دعاية ضارية" ضده. وتبين هذه المذكرات أن بريطانيا ستواصل التعاون مع هذه القوى في المستقبل القريب- وقد حدث هذا فعلاً.
ومن ثم، فقد كانت بريطانيا مستعدة في كل من إيران ومصر للتآمر مع القوى المتأسلمة، واستخدامها ثانية لتحقيق غايات إمبريالية، كجزء من ترسانة للأسلحة تستخدم في العمل السري. ولم تعتبر هذه القوى حليفاً استراتيجياً، وإنما كان من المسلم به أنها معادية تماماً للبريطانيين. والمدهش أن بريطانيا لجأت للعمل مع هذه القوى وهي تعلم أنها حتى أكثر عداء للبريطانيين من النظم التي كانت هوايتهول تحاول الإطاحة بها. وكانت جدواها تتمثل في عضلاتها وقدرتها على التأثير على الأحداث، بالعمل كفرق صدام لمساعدة بريطانيا في استقالتها للاحتفاظ ببعض نفوذها في عالم ما بعد الحرب؛ حيث أخذت قوتها تذوي. وتكرر اللجوء إلى التعاون مع هذه القوى، مهما كانت معادية للبريطانيين ومهما كان تعارضها مع المصالح طويلة الأجل، في العقود الأخيرة، حتى عندما ظهرت في الصورة الجماعات الجهادية الصريحة.
 للرجوع للحلقة الأولى من الكتاب.. اضغط هنا

شارك

موضوعات ذات صلة