السلفية التونسية بين الوحدة والصراع

الأحد 09/ديسمبر/2018 - 04:48 م
طباعة  السلفية التونسية حسام الحداد
 
تصاعدت في الآونة الأخيرة حدةُ المواجهات بين التيارات السلفية في تونس  والدولة، وأخرها المواجهة بين حزب التحرير والقوى السياسية والحزبية في تونس عقب بيان حملة "تعبئة وإنقاذ" التي أطلقها الحزب الجمعة 7 ديسمبر الماضي، وقد نجحت قوات مكافحة الارهاب التونسية الأحد 21 أكتوبر  2018، في تصفية الإرهابي "مراد الغزلاني"، والذي يعد أخطر عناصر كتيبة "جند الخلافة" التابعة لتنظيم "داعش" الإرهابي في تونس.
وقالت وزارة الداخلية التونسية في بيان لها يوم الإثنين 22 أكتوبر 2018، إن وحدات إدارة مكافحة الإرهاب للحرس الوطني بالتنسيق مع وحدات الإدارة العامة لوحدات التدخل للحرس الوطني بمنطقة "الثماد"، تمكنت يوم الأحد 21 أكتوبر 2018، وبعد نصب كمين محكم من القضاء على العنصر الإرهابي الخطير المختص في صناعة المتفجرات المدعو "مراد الغزلاني" وذلك بإطلاق النار عليه بعد عدم امتثاله للأمر بالوقوف وتهديده باستعمال حزام ناسف كان يرتديه.
وبعدما أُدين الفصيل السلفي ليس فقط بالتحريض على العنف بل بممارسته، حيث أشارت أصابع الاتهام لهذا الفصيل في العديد من عمليات الاغتيالات السياسية من بينها اغتيال الحقوقي التونسي شكري بلعيد في فبراير 2013، وقد وصل تصعيد الخلاف بين الطرفين في نهاية 2015، إلى حل الأحزاب المتشددة، وإغلاق بعض المساجد التي يسيطر عليها السلفيون في تونس، بعد أن توالت الدعوات وتصاعدت الدعوات لحلّ الأحزاب السلفية المتشددة في تونس، والتي لا تعترف بالدولة وبنظمها وقوانينها، واعتبر العديد من المراقبين أن حل هذه الأحزاب وعلى رأسها "حزب التحرير" يعد الدُّعامة والركيزة الأساسية للحرب الشاملة ضد الإرهاب، خصوصًا بعد الهجوم على عناصر الأمن الرئاسي. ولا يعترف "حزب التحرير السلفي" ـ  تحصَّل على تأشيرة العمل السياسي سنة 2012 في ظل حكم الترويكا بقيادة حركة النهضة الإسلامية ـ بالدستور، كما يُعارض النظام الديمقراطي وينادي بدولة الخلافة وبتطبيق صريح للشريعة.
وقد سبق هذا القرار في يونيه 2015، غلق 80 مسجدًا غير خاضعة لسيطرة الدولة، بسبب تحريضها على العنف، القرار الذي أصدره رئيس الوزراء التونسي، "الحبيب الصيد"، كإجراء مضاد للهجوم الذي استهدف سُياحًا بولاية سوسة، وأدى إلى قتل 39 شخصًا، لكنه أثار تساؤلات حول مدى تأثيره على الأحزاب الإسلامية في البلاد، لاسيما بعد مطالبة الرئيس، الباجي قائد السبسي، الحكومة بمراجعة بعض تراخيصها.
وسنتناول في أكثر من ورقة بحثية "السلفية التونسية.. الواقع والمآلات"، وفي هذه الورقة الأولى سوف يركز الباحث على نشأة "السلفية التونسية" والعوامل التي أدت إلى تلك النشأة، وارتباطها بالوهابية السعودية، وكذلك عوامل الوحدة والانفصال داخل الفصيل السلفي التونسي، وتداعيات الخطاب السلفي وآليات وأساليب انتشاره داخل المجتمع التونسي، بما يعد تأسيسًا للورقة البحثية التالية، والتي اختار لها الباحث عنوان فرعي "السلفية التونسية.. طرق الانتشار والمواجهات مع الدولة".

مدخل :البدايات

ظهرت السلفية في تونس كتيار اجتماعي منذ نهاية القرن العشرين، ومنذ ذلك الحين لم تتوقف عن التقدم والانتشار في تحدٍّ لسياسات التصفية الأمنية التي سلكتها حكومة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي؛ ففي حوالي عشر سنوات من الملاحقة والإقصاء بلغ عدد المساجين من التيار السلفي وخاصة الجهادي منه حوالي ثلاثة آلاف سجين. رغم ذلك مثّلت السلفية قوة شديدة الجذب للشباب التونسي والجامعي منه خاصة. وفي الوقت الذي كانت فيه مختلف الأحزاب السياسية وحتى الجمعيات في تونس تعاني من العزلة داخل المجتمع التونسي وتستمرئ تفسير ذلك بالحصار الذي تفرضه السلطة على أنشطتها، كان التيار السلفي يتجاوز كل الإجراءات الأمنية والحملات الإعلاميّة ويستقطب آلاف الغاضبين من خيارات السلطة ومن الطبقة السياسية عامة. ولم يتوقف هذا الوضع بعد ثورة الحرية والكرامة في مطلع 2011 بل زادت قوته التأثيرية وقدرته على تجميع الشباب.
      وقد فوجئ المجتمع الإسلامي، بعد ثورات الربيع العربي، ببروز ظاهرة السلفية. وخيّل للبعض أنّها ظاهرة جديدة جاءتنا من الخارج وليس لها جذور في تاريخنا ومجتمعنا. والحق أنّ بلدان الربيع العربي كانت ترزح تحت وطأة الأنظمة الاستبداديّة التي لم تكن لتسمح بظهور كلّ ما يدور في عقول شعوبها في شكل سلوكيات وأقوال ومواقف. فكان كثير من الناس يُظهرون من الولاء للنظام واللاّمبالاة بالسياسة والدين ما يموّهون به على الحكّام، ليعيشوا بسلام في مأمن من القبضة الأمنية والرّقابة السياسية. أمّا النّفوس والضمائر والسرائر، فكانت تشتعل من الغضب.
ويَعُدّ الشيخ محمّد زحل، أحد مؤسّسي العمل الإسلامي بالمغرب المنهج السلفي "هو السائد في أكثر أطوار التاريخ الإسلامي، فإذا نصرته الدولة علا وسما وأقبل عليه الناس، وإذا تنكّرت له توارى واختفى واحتفظ به الناس في ضمائرهم، أو تداولوه بين أهليهم في بيوتهم.”(1)  كما أنّ هذا المنهج السلفي يتعرض للصّعود والهبوط حسب مصادر التلقّي أو مناهج التلقين. ففي بعض فترات التاريخ يطغى عليه الفكر التّكفيري فيُهجر ويستهجن، وفي فترات أخرى يصطبغ بالتقليد والجمود فيقع ازدراؤه… ولا يمرّ كبير وقت حتّى ينبعث من جديد في العقول والممارسة والسلوك. ولذلك لمّا توفّر هامش واسع من الحرّية، بعد ثورة 14 يناير 2011، بادر كلّ مواطن بعرض بضاعته الفكريّة والسياسية والاجتماعيّة والدينيّة على الناس. فكان أن طفت على سطح الأحداث ظاهرة السلفيّة.
فكيف نشأ التيار السلفي في تونس؟ وكيف تطور قبل الثورة؟ وما أهم التحولات التي عاشها تحت تأثير الثورة التونسية؟ وما هو أفق تطوره في المستقبل؟

العوامل التي أدت إلى نشوء التيار السلفي:

ارتبط ظهور التيار السلفي في تونس كما يرى الكثير من الباحثين والمتخصصين في دراسة الحركات الإسلامية، بعاملين رئيسيين خارجيين وعامل داخلي:
- انتشار الفكر الجهادي وأخذه بُعدًا دوليًّا من خلال تأسيس تنظيم القاعدة وما تلا ذلك من أحداث أهمها عملية 11 سبتمبر 2001 واحتلال أفغانستان ثم العراق وعمليات لندن ومدريد.
- حدوث ثورة إعلامية مكّنت من انتشار الفكر السلفي عبر الإنترنت والفضائيات، مصحوبًا غالبًا بخطاب مباشر بسيط وواضح وبمواقف مُدِينة للظلم والاضطهاد الديني الذي تعاني منه فئات واسعة من المجتمعات العربية والإسلامية.
- التصحر الديني داخل المجتمع التونسي بعد تطبيق سياسة تجفيف منابع التدين واستهداف كل مظاهره واستئصال الحركة الإسلامية منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي. هذا فضلاً عن ضعف منظومة التدين التقليدي؛ الأمر الذي ترك فراغًا كبيرًا في تلبية حاجات الناس للموعظة الدينية والتوجيه الأخلاقي.
ويعتقد الباحث أنه لا مجال لاعتبار ظاهرة السلفية مجرّد حركة ظرفية عابرة، وإنّما هي إفراز فكري وعملي تمخّض عن تراكمات من الجدل العقائدي والصراع الإيديولوجي والتجاذب السياسي ممّا لا سبيل لنكرانه. ولكنّ هذا الاعتبار  يولّد بدوره أسئلة أخرى أكثر إلحاحًا حول طبيعة هذه الظاهرة السلفية: فهل هي إحياء مذهب أم حركة إصلاح؟ أم هي مجرّد ردّ فعل أم غير ذلك؟ وهل سنتعامل معها على أنّها حركة تقليد أم حركة تجديد؟ وإذا كانت الأولى؛ أي: حركة تقليد، فهل تأخذ طابعًا تأصيليًّا أم تصبح معضلة إيديولوجية تزيد الإشكالية تعقيدًا؟ وإذا كانت الثانية؛ أي: حركة تجديد، فهل يتسنّى للمجتمع العربي الإسلامي أن يستلهم منها مشروعًا إصلاحيًّا؟ تلك إذن مجموعة من التساؤلات التي سنعمل عليها، من دون أن نزعم أنّنا سنقدّم إجابات قطعيّة، وإنّما هي بمثابة الخطوط العريضة التي على أساسها نبني منهج هذا البحث.

مصطلح السلفية:

ورد ذكر مفردة "السلف" في القرآن تسع مرّات، منها ما كان مدلوله إيجابيًّا، وهو الأقلّ، ومنها ما كان مدلوله سلبيًّا، وهو الغالب. وإذا رجعنا إلى أدبيّات السلفيين خاصّة نلاحظ أنّ التركيز كان منصبًّا على تناول مصطلح السلفية في جانبه الإيجابي فقط، ويتجلّى ذلك بوضوح في الجمع المطّرد بين لفظ "السلف" وبين لفظ "الصالح". وهذا الجمع، وإنْ كان بريئًا في ظاهره، فإنّه لن يرقى إلى درجة المصطلح العلمي إلاّ إذا وضع في الميزان، بنفس الدرجة تعتبر السلفيّة في الاصطلاح الإسلامي القديم والحديث شكلا من أشكال التصحيح، وينسب لفظ السّلفية للسّلف الصّالح الذي حمل لواء الإسلام الأوّل ونقله للأجيال اللاحقة، تبعا لذلك يفترض أن يكون كلّ المسلمين سلفيّين. غير أنّ لفظ السّلفيّة اكتسب دلالة اصطلاحيّة مذهبيّة مع ابن تيمية 661/728 ه ـ  وتلميذه ابن القيم ت 751 ه ـ ، فقد عاب ابن تيمية على المسلمين في عصره جملة من السّلوكات التي عدّها انحرافا عن منهج السّلف الصّالح، ويتعلّق بعضها بالعقيدة كالتّوسّل بالأموات والتمسّح على القبور … والبعض الآخر بالتّشريع، كتقديس المذاهب الفقهيّة والرّكون إلى التّقليد، لذلك دعا إلى العودة إلى ما أطلق عليه العقيدة السّلفيّة الصّافية.
وناقش ابن تيمية المذاهب الكلاميّة وعقائد الفرق التي عاصرها في كتب متعدّدة جمعت في مدوّنته الضّخمة " الفتاوى ". ويبقى ابن تيمية شخصيّة إشكاليّة مثيرة للجدل، لأنّ ما خلّفه من آثار إذا لم تقرأ قراءة نقديّة تاريخيّة ستكون بمثابة السلّة العجيبة التي يجد فيها كلّ ضالّته: التّكفيريّون والمتسامحون والتّقليديّون والتّجديديّون على حدّ سواء.

السلفية الوهابية:

وتعتبر الحركة الوهابيّة " نسبة إلى محمّد بن عبد الوهاب 1703/1792م" التّرجمة السّياسيّة للعقيدة السّلفيّة على أرض الحجاز، وقد ثمّن الكثير من علماء المسلمين نزوعها الإصلاحيّ، ولكنّهم عابوا عليها التشدّد في عدد من الأحكام والعنف في التّطبيق. وقد تواصلت هذه التّجربة عبر تحالف سياسي عسكري استراتيجي بين عائلتي آل الشّيخ ابن عبد الوهاب وآل سعود، أدّى إلى قيام المملكة العربيّة السّعوديّة. ولم يكن المحيط العربي الإسلامي بمنأى عن التأثير الفكري لهذه التّجربة التي آلت على نفسها تصحيح العقائد ومقاومة البدع. ونذكر في هذا السّياق الرّسالة الوهابيّة الشّهيرة التي أرسلها محمّد بن عبد الوهاب إلى أهل تونس سنة 1803 م يدعوهم فيها إلى العقيدة السّلفيّة ب ـ  " الحجّة والبيان ومن لم يجبها دعوناه بالسّيف والسّنان " كما ذكر في الرّسالة التي حرّرها محمّد بن عبد الوهاب بنفسه،(2) وأوردها ابن أبي الضّياف 1802/1874 م في الإتحاف ج 3 قائلا " ولمّا شاعت فتنة الوهابي وردت رسالته إلى الحاضرة " وقد طلب حمّودة باشا 1759/1814 الذي وصلت الرّسالة في عهده، من علماء الزّيتونة الردّ عليها فكتب الشّيخ إسماعيل التّميمي مثلا كتاب "المنح الإلهيّة في طمس الضّلالة الوهابيّة في 154 صفحة، وتولّى ابن أبي الضّياف نفسه الردّ. وقد لاقت دعوة ابن عبد الوهاب تعاطف بعض التّونسيين خاصّة في ما يتعلّق بالتوسّل بالأولياء والتبرّك بقبورهم، ومن هؤلاء الشّيخ أبو العبّاس البارودي ت 1856هـ ـ  الذي أفتى بتهديم الحجر المعروف ب ـ  " كرسي الصلاّح " على شاطئ سيدي بوسعيد. لكنّ تأثير الدّعوة الوهابيّة بقي محدودا في تونس لتغلغل العقيدة الأشعريّة والتّصوف السنّي.(3)
وفي المقابل كان تأثير حركة الإصلاح الدّيني التي سُميت ب ـ  "السّلفيّة الجديدة " والتي قادها السيّد جمال الدّين الأفغاني ومحمّد عبده لاحقًا في المنطقة العربيّة ولاسيما في حاضرة تونس، خصوصًا بعد زيارة محمّد عبده سنة 1884 م. وقد استلهمت حركات التحرّر الوطني إبّان الاستعمار مضامين الإصلاح والتّجديد التي تضمّنها مشروع عبده والأفغاني. لكن بعد قيام الدّولة الوطنيّة لم تجد هذه الحركة من يستأنف مسارها ويعمّق فكر التّنوير والتّجديد. فلا الدّول النّاشئة ولا المؤسّسات الدّينيّة الرسميّة ولا الحركات الإسلاميّة كانت امتدادا حقيقيّا لحركة الإصلاح الدّيني. وقد ترك هذا الانقطاع أثرا بالغا على الفكر الدّيني ونمط التديّن عموما، إذ تركه عرضة للتّأثير المباشر للدّعاة والوعّاظ والحركيين من أنصار المذاهب والمجموعات السّياسيّة والدّينيّة.
ثمّ عرفت المنطقة العربيّة تيّارا سلفيّا معاصرا هو امتداد للسّلفيّة الوهابيّة الأمّ ولكن شهد بعض التّمايز عنها يمينا أو شمالا، وأفضى إلي تيّارين كبيرين هما السلفيّة العلمية والسّلفيّة الجهادية، مع مصطلح "السلفية" المجرّد عن التوصيف الصالح أو الطالح.
ولقد عرفت الحركة السّلفيّة الوهابيّة انتعاشة كبرى إبّان الجهاد الأفغاني ضذّ الاتّحاد السّوفياتي، حيث لبّى الكثير من الشّباب العربي ولا سيما التّونسي نداء العلماء والدّعاة لمواجهة الغزو الرّوسي الشّيوعي لأفغانستان، وقد دعم شيوخ السّعوديّة "القاعدة المركزيّة للعقيدة السّلفيّة"، هذه الحركة الجهاديّة. وكان الهاجس الأساسي لفصائل الجهاد مواجهة العدوّ الذي كان عدوّا واحدا هو " الغازي الأحمر"، وتداخل في هذه المواجهة الدّفاع عن العقيدة بالدّفاع عن الأرض والوطن. كما لم تمنع أجواء القتال من النّقاش والجدل الحادّ بين أقطاب هذه الحركة حول مستقبل الجهاد واستراتيجيّاته العالميّة وحكمه في الدّول العربيّة والإسلاميّة التي لا تحكم بالشّريعة الإسلاميّة… وشهدت هذه النّقاشات اختلافا في وجهات النّظر و تباينا في الرّؤى، غير أنّ آثار هذا الخلاف لن تظهر إلا لاحقا.
ثمّ تمكّنت العقيدة السّلفيّة بخلفيّاتها الكلاميّة والفقهيّة والسّياسيّة من الانتشار اللافت في المنطقة العربيّة والإسلاميّة منذ ما يزيد عن عقدين من الزّمان وذلك للاعتبارات التّالية:
- دعمها السّابق للجهاد الأفغاني وتسويقه إعلاميّا بكلّ كثافاته الإيمانيّة العاطفيّة التي تحيل على الفتوحات الإسلاميّة .
- إغراق السّاحة بأدبيّات مشائخ السّلفيّة من أمثال ابن عبد الوهاب، ابن الباز، وابن عثيمين والفوزان وتلاميذهم فضلا عن رسائل مبتسرة لابن تيمية وابن القيم .
- الاستفادة القصوى من الانفجار الإعلامي الفضائي والرّقمي عبر الفضائيّات وشبكة الإنترنت.
وقد أسهم ذلك في التّعريف بالعقيدة السّلفيّة وتسويق آرائها في تصحيح العقائد وفتاوى شيوخها وعلمائها في شتّى مجالات الحياة وردودهم على أصحاب المذاهب والعقائد الأخرى.

من الوحدة إلى الانفصال:

وقد حافظت العقيدة السّلفيّة طيلة عقود على وحدتها من دعمها للجهاد الأفغاني. لكنّ ذلك لم يستمرّ إذ عرفت هذه الحركة انقسامات حادّة وإن حافظت على وحدة المرجعيّة العقائديّة. ونجمل أهمّ الأسباب التي أدّت إلى هذا الانقسام في النّقاط التّالية:
- الانفتاح الإعلامي الذي وضع الفكر السّلفي على محكّ الاختبار والمواجهة أمام تجارب إسلامية أخرى.
- حرب الخليج الأولى التي أدّت إلى دخول الجنود الأمريكان إلى أرض الحجاز
- الضّغوط الدّوليّة والأمريكيّة بصفة خاصّة لتغيير مناهج التّعليم والخطاب الدّيني
- لقد أدّت هذه الأوضاع إلى أزمة هويّة في الضّمير السّلفي استجابت لها كلّ فئة بطريقتها فأصبحت السّلفيّة سلفيّات وأدّى الانفجار على مستوى المركز إلى انفصال على مستوى الأطراف.
ويختلف المتابعون للظّاهرة السّلفيّة في تعداد وتصنيف ما آلت إليه من انقسامات، ولكن يمكن إجمالا رصد مدرستين كبيرتين هما السّلفيّة العلميّة و السّلفيّة الجهاديّة وهما الرّائجتان في تونس

السلفية العلمية:

 يعتبر البعض أنّها صنيعة مصالح الأمن الخليجية لمواجهة استقطاب المجاهدين العرب الأفغان إبّان الغزو الأمريكي للعراق واستعانة النّظام السّعودي بالقوات الأمريكيّة الذي أصّلته السلفية العلمية باعتباره اجتهاد وليّ الأمر الذي يعدّ الخروج عليه كبيرة من الكبائر.(4)
وفي هذا السّياق نفسه يعتبر بعض المتابعين أنّ السّلفيّة العلميّة نشأت في تونس تحت أعين المؤسّسة الأمنيّة وبتشجيع مباشر منها أو غير مباشر من خلال غضّ الطّرف على امتدادها وعدم تجفيف منابعها الفكريّة التي كانت معارض الكتاب تعجّ بها في مقابل منع كتب ما أصبح يطلق عليه التيّار الوسطي وذلك بغاية ملء الفراغ الذي خلّفه التيّار النّهضوي وتحسّبًا لعودته من جديد بعد خروج الكثير من أنصاره من السّجن.
غير أنّ دوائر القرار راهنت حسب البعض على متابعة هذه الظّاهرة من خلال اختراقها وتوظيف عناصرها انطلاقا من الفتاوي التي يتّبعونها والتي تلزم صاحب هذه العقيدة بإرشاد أولياء الأمر وتحرّم الكذب عليهم
إنّ هذا التّفسير رغم صحّة بعض المعطيات التي يقوم عليها لا يستقيم حسب تقديرنا لتفسير نشأة ظاهرة ثقافيّة اجتماعيّة لها شروطها الدّاخليّة الموضوعيّة والذّاتيّة.

السّلفيّة الجهاديّة:

وأمّا السّلفيّة الجهاديّة فيمكن أن نختزل أهمّ العوامل المباشرة التي أدّت إلى انفصالها عن الحركة السّلفيّة الأمّ إلى ثلاث نقاط:
- دخول الجنود الأمريكان إلى أرض الحجاز " الأرض الحرام " وما أدّى إليه من رجّة في ضمير السّلفيين الذين رفضوا هذا التّواجد الأمريكي لا من منطلق سياسي فقط بل من منطلق ديني يتعلّق بفهم الآية "إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا" وعدّوا تبعا لذلك أرض الحجاز كلّها أرضًا حرامًا ووطؤها من طرف المشركين انتهاك للحكم الإلهي يؤثم السّاكت عن مقاومته، وكفّروا حكّام المنطقة الذين أجازوا هذا الانتهاك ودعوا لقتالهم دون احتفاء بما قدّمته السّلفيّة الأمّ من تبريرات فقهيّة من قبيل أنّ حكم الأمريكان هو حكم المعاهَد الذي يجوز الانتصار به فضلا عن وجوب طاعة وليّ الأمر واحترام العهود التي يوقّعها.(5)
- انضمام فصائل من الجماعة الإسلاميّة والتيّار الجهادي المصري  ـ  ـ  بما له من تقارب فكري وتقاطع إيديولوجي مع التيّار السّلفي بفعل الأفكار التي رسّخها كتاب معالم في الطّريق لسيّد قطب  ـ  ـ  إلى صفوف السّلفيّة الجهاديّة من خلال التّحالف بين أسامة بن لادن وأيمن الظّواهري.
- انقلاب الجيش الجزائري على الانتخابات التّشريعيّة في الجزائر وما أدّى إليه من فتح بؤرة جديدة للعنف السّياسي عمّقت لدى شرائح من الشّباب اليأس من الخيار السّياسي السّلمي ودفعت إلى تبنّي العنف خيارًا لإقامة دولة الإسلام وتطبيق شرع الله.
لقد أدّت هذه العوامل إلى تصنيفات جديدة للعدوّ وأولويّات الجهاد وأشكاله وأساليبه وظّف في سبيل بلورتها كلّ المخزون النّظري السّلفي العقائدي والفقهي.

السلفية.. من المنهج إلى المذهب :

رفع بعض السلفيين المتأخّرين شعار : “ننتظم ولا نتحزّب، ونتجمّع ولا نتعصّب”. لكن سرعان ما طرأت على هذا الشعار تغييرات أو انحرافات؛ بسبب التعصّب للرّأي، والتساهل في التبديع والتكفير، والخصومة مع الحركات الإسلاميّة. ولذلك لا بدّ من الرّجوع إلى أصل كلمة “السلفيّة”، لنجد أنّه تقاذفتها تعريفات مختلفة، وربّما متضاربة. خاصة إذا ما وقع الخلط بين تعريفها اللغوي والاصطلاحي. فالسلفية في اللغة تعني اتّباع السلف. وإذا اعتمدنا هذا التعريف فإنّ لفظة “السلف” ستأخذ معنى عامًّا لا ينضبط. ذلك أنّ كل من مضى يمكن اعتباره سلفًا، وبالتالي فإننا سنقع في الخلط بين معنيين، هما السلف والخلف. فالسلف بهذا المعنى هم كانوا خلفًا لمن سبقهم وأصبحوا سلفًا لمن خلفهم. ونحن كذلك وإنْ كنّا خلفًا لمن سبقنا فإننا سنصبح سلفًا لمن سيأتي من بعدنا ويتّبعنا.
وللخروج من هذه الدائرة المفرغة لا بد من التحول من التعريف اللغوي إلى التعريف الاصطلاحي ل ـ ”السلفية”. وهو: منهج في فهم النصوص يقوم على اتّباع الأسلاف من أهل القرون الثلاثة الأولى كما يتبنى هؤلاء السلفيون باعتبارها كما يزعمون خير القرون مستندين لحديث يقول على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: “خير الناس قَرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم”. وهناك بعض الباحثين يؤكدون على أنّ المراد بكلمة "قَرن" هو الطبقة وليس مائة سنة (6). فتكون القرون الثلاثة المشار إليها في الحديث هي طبقة الصحابة ثم طبقة التابعين ثم طبقة تابعي التابعين، وهي بحساب السنين لا يمكن أن تتوزع على أكثر من قرن ونصف القرن بعد الهجرة. 
وبهذا التعريف الاصطلاحي تترشد الخطابات السلفية في الاستشهاد بأقوال السابقين وتوظيف النصوص. فيصبح الاستشهاد مثلًا بقول ابن تيمية أو بقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب على اعتبار أنّهما سلفيا المنهج أو على اعتبار أنهما من السلف، ليس كالاستشهاد بقول صحابي أو تابعي؛ لأن لكلام هذين الأخيرين نوعًا من الحصانة الشرعية و"الخيرية" التي ضمنها له حديث النبي صلى الله عليه وسلم، الشيء الذي لا يتوفر، ضرورة،  لكلام ابن تيمية أو لكلام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله. وليس في هذا الاستنتاج نقص من قيمة العلماء والأسلاف الذين جاءوا بعد القرون الثلاثة الأولى، وإنّما هو تنبيه للسلفيين المعاصرين إلى منهج علمي في التعامل مع أقوال السابقين يقوم على الاتّباع دون التقليد، وعلى التبنّي والموافقة دون التعصب، وعلى النقد دون الانتقاد، وعلى البناء دون الهدم، وعلى التقييم دون التقديس والتمجيد، وعلى الاجتهاد دون الجمود.
ومن الغرابة أنّ المتأمّل في السلفيّة اليوم على مستوى مضمونها المعلن، لا يكاد يعثر على فروق جوهريّة بينها وبين أدبيات الحركة الإسلاميّة. فمعظم السلفيين المعاصرين يؤسّسون دعوتهم على:  
- الدعوة إلى التوحيد الصّافي.
- نبذ الشرك والخرافات وكلّ مظاهر العبوديّة لغير الله تعالى.
- التمسّك بالسلف الصالح في العقائد والسنن والأقوال، والكفّ عمّا كفّوا عنه.
- الدعوة إلى تحكيم الشريعة الإسلامية، مع تباين واضح بين الفصائل السلفيّة في كيفيّة تحقيق هذا المبدأ.
ويمكن اختزال المآخذ التي سُجّلت على السلفيّة في ثلاثة عناصر:
أ‌-        أحاديّة النّظرة إلى النّص الشرعي.
ب‌-     الوقوف على حرفيّة النص ورفض التأويل,
ج- احتكار الخطاب باسم أهل السنّة وإقصاء الآخر.
وفي العصر الحديث تبلورت فكرة "السلفية" لتصبح بديلًا عن اسم "أهل السنة والجماعة”. ذلك أنّ معظم السلفيين اليوم يرون أنفسهم وحدهم حاملين لواء أهل السنّة دون غيرهم. فأرادوا أن يخرجوا غيرهم عن دائرة أهل السنة التي اتّسع نطاقها -في نظرهم- أكثر من اللازم، فاتّخذوا لأنفسهم اسم “السلفية”.(7)

دور النّظام البورقيبي في بروز التيّار السلفي

كان النظام البوليسي والقمعي الذي يقوم على الاستبداد، وإقصاء الإسلاميين من الساحة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتدجين الخطاب الديني، وملء السجون بكلّ من تسوّل له نفسه لعب دور المعارض أو المفكّر أو الدّاعية.. ينحرف شيئًا فشيئًا عن العلمانية الغربية التي ولدت في أوروبا لتكون سدًّا منيعا أمام سلطان الكنيسة المتحجّرة، إلى علمانية متطرّفة لا همّ لها  ـ  في العالم الإسلامي  ـ  سوى إقصاء أي معارض ديني حركي أو تحرّري.
ولم يكن يدور في خلد أيّ مسؤول في النظام أنّه  ـ  بعمله هذا ـ  إنّما هو يقتل ويحيي، في عملية ثنائية من الغباء السياسي والإيديولوجي. ذلك أنّه كان يحاول قتل العقيدة الحزبية والدعوية. وقلّما ينمّ الصوت الحر والنشاط العلني والدعوة الصريحة، عن تطرّف أو تشدّد، أو نوايا خفيّة تخالف المبادئ المعلنة. فالمتطرّف ديدنه العمل السرّي والنوايا الخفيّة والمآرب المبيّتة.
وإذا ما سلّمنا أنّ النظام البورقيبي استطاع التخلّص من منافسة التيّار الإسلامي الحركي والدعوي، وظنّ أنّه قتله أو جفّف منابعه أو كسر شوكته، فإنّ هذا النظام المتعجرف قد أحيا  ـ في ذات الوقت ـ  تيّارًا آخر، فيه من التطرّف والغلوّ والتشدّد، ما يجعله يبكي أسفًا وحسرة على أيّام الحركات الإسلامية والحركة الدعوية؛ لأنّها أصبحت  ـ  مقارنة مع التيّار الديني الصاعد والمتشدّد  ـ  عنوانًا للتسامح والاتّزان والرصانة والهدوء والاعتدال والواقعية.
إنّ تهجّم نظام بورقيبة على الحركات الإسلامية واضطهاده لرموزها، إنّما هو  ـ  في نظر الشارع العربي  ـ  يمثل تهجّم على الإسلام وازدراء لشعائره، ومحاربة لشريعته.. فكان المواطن العربي المسلم  ـ الذي يبدو أنّه ساكت لا يحرّك ساكنًا وكأنّه راض عما يسلّطه النظام على الحركة الإسلامية من تشريد وتعذيب لأتباعها ـ  يتابع عن كثب ما يحدث، ويضمر في نفسه غضبًا وحقدًا ورفضًا.. موجّهًا إلى طرفَي النزاع؛ أيْ هو يرفض كلًّا من النظام العلماني والحركة الإسلامية السياسية الدعوية على السواء. 

الانقسامات الكبرى

رغم شهرة الأفغاني وعبده ورشيد رضا وغيرهم من زعماء السلفية، إلاّ أنّ السلفيين اليوم انكبّوا على تجربة محمد بن عبد الوهاب بشكل خاص. وربّما يعود ذلك إلى انتشار التصوف، وازدياد خطر المد الشيعي، وهما قلب الرحى في دعوة ابن عبد الوهاب. وكما يقول السلفيون إن الانحرافات الشركية والقبورية إنّما هي إفرازات صوفية وشيعية. ولا سبيل للقضاء عليها إلاّ بإصلاح عقيدة المسلمين، وذلك بإحياء معالم التوحيد ونشر الفكر السنّي. ولذلك كثر أتباع ابن عبد الوهاب وانتشروا في جميع بلدان العالم(8) وتعتمد المدرسة السلفية على القرآن بفهم السلف، وعلى السُّنّة في العقائد والأحكام سواء أكان الحديث متواترًا أو آحاديًّا. ويقلّ فيها الاجتهاد مقارنة مع المدرسة الإسلامية الحركية، وهي مدرسة سُنّية أيضًا.
ثم تفرّعت السلفية إلى سلفيات:
1 السلفية العلمية: وهي مدرسة تقوم على الدعوة والجهاد بالكلمة، وتولي عناية بالغة بتحصيل العلوم الشرعية ضمن جمعيّات ومدارس أسّسوها لهذا الغرض.
2 السلفية الجهادية: وهي قرينة السلفية الأولى لا تختلف عنها في شيء، إلاّ أنّها تزيد عليها بالتركيز على الجهاد سواء بالقول أو بالقوّة وذلك بحسب ما تقتضيه حالة البلاد التي يعيشون فيها.
3 السلفية المدخلية: المثيرة للجدل، وهي مدرسة كلاسيكية يكاد مجهودها ينحصر في بيان توحيد الألوهية.
4 السلفية الإصلاحية: وهي منهج حركي يعتمد أدبيات الإسلام السياسي، ويمثله أساسًا حركة الإخوان المسلمين وتوابعها.

رحلة في العقلية السلفية:

قد تبيّن لنا أنّ السلفيين في تونس ليسوا على قلب رجل واحد، ولا على نمط واحد، وهم لا يسلكون منهجًا واحدًا، ولا يسعون إلى تحقيق نفس الأهداف. وذلك لاختلاف مدارسهم، وتنوّع شيوخهم، وتأثرهم بآخر ما يقرؤون وبآخر زعيم يستمعون إليه… والواضح أنّ الفوضى المنهجية والسلوكية والفكرية هي السمة الغالبة على معظمهم، باستثناء السلفيين المداخلة الذين تميّزوا بنوع من التعصّب والجمود ممّا جعلهم كتلة متجانسة ومتناغمة مع الآحادية والسطحية والشكلية التي تحكم أدبياتهم وتصوّراتهم.
إنّ السلفية الجهادية كلمة تحمل أكثر من معنى، ممّا يفرض تناولها بشيء من التفصيل والتفريع حتّى يكون هذا التناول قريبًا من الموضوعية والعلمية. فالكثير من الجهاديين السلفيين يسلّمون  ـ  بينهم وبين أنفسهم  ـ  بالانتماء إلى السلفية الجهادية، وهم في حقيقة الأمر طرائق شتّى. والدليل على ذلك أنّ أيّ موقف وأيّ سلوك يصدر عن أحدهم، لا يلاقي بالضرورة القبول من باقي إخوانه.
والجدير بالملاحظة والتنبيه هو أنّهم غير واعين بهذه المفارقة العجيبة التي تقوم على اتّحادهم الظاهري وتنافرهم الداخلي. فهم، على صعيد المواقف السياسية  ـ  الدينية، يبدون أكثر التحامًا وتبدو صفوفهم أكثر تراصصًا من حالهم في الداخل، ولاسيّما على صعيد مواقفهم الاجتماعية وحالاتهم النفسية. فكأنّ السياسة توحّدهم، والمجتمع يفرّقهم ويقسّمهم.
وهذه المفارقة فيها ما هو إيجابي وفيها ما هو سلبي؛ بعبارة أخرى هم يعيشون حالة طبيعية تخضع لسنّة التنوّع. ولكنّ طبيعيّة هذه الحالة لا تكتسي صبغة إيجابية إلاّ إذا كانوا واعين بها، الشيء الذي لا يصرّحون به ولا يسلّمون به. إذ هم ينفرون من هذا التحليل ويستبعدون أن يكونوا متفرّقين متنافرين فكرًا أو سلوكاً. وهم في هذه الحالة متأثرون بالسلفيين المداخلة الذين يسلكون سلوك القطيع، ويلتزمون بأفكار شيوخهم التزامًا شبه عسكري. فكأنّ الجهاديين يحسدون المداخلة على هذا الانضباط “الأعمى”، ويسعون إلى مشاكلته وتحقيقه بين صفوفهم.
أمّا الجانب السلبي في تنوّعهم  ـ الذي ينكرونه ـ  فهو أنّهم يعيشون حالة من التخبط والفوضى الفكرية والسلوكية، ممّا يعطي الحكم عليهم ب ـ ”المزاجية” نوعًا من الصحّة. فإن كان “المداخلة” لا يتّخذون موقفًا ولا يسلكون سلوكًا إلاّ بعد مراجعة شيوخهم  ـ تعصّبًا لهم ـ  فإنّ السلفيين الجهاديين لا يفعلون ذلك إلاّ نادرًا. فأفعالهم وتحرّكاتهم ومواقفهم، تكاد تكون في مجموعها ردود أفعال تصل في غالب الأحيان إلى التشنّج والتسرّع والغضب، وتقع في فخ الاستدراج إلى العنف وفخ الاستفزاز. فهم لا يتصرّفون ابتداء وتأسيسًا وتنظيرًا بقدر ما يتصدّون بشكل انفعالي لكلّ شاردة وواردة. وللأمانة التاريخية والعلمية نسجّل أنّ موقفهم هذا وإن كان ارتجاليًّا ومزاجيًّا إلاّ أنّ له ما يفسره (يفسّره ولا يبرّره). ذلك أنّهم يعتقدون اعتقادًا راسخًا أنّهم  ـ  في هذا العصر  ـ  حماة العقيدة وحرّاس الشريعة. فهم لا يحسبون لأعمالهم حسابات السياسيين، ولا يضبطون مواقفهم بالفقه المدخلي الجامد، وإنّما يتصرّفون وفق ما تمليه اللحظة دون تفكير أو رويّة أو تخطيط، المهمّ عندهم أنّهم على يقين بأنّ عقيدة الولاء والبراء والغضب لله والغيرة على دينه والانتصار لشريعته، هي الدافع الحقيقي الأول والأخير لأعمالهم، وهي الأساس النفسي الذي تنبني عليه مواقفهم. وهذا الشعور  ـ  وإن كان نبيلًا  ـ  إلاّ أنّه يحرم صاحبه من الانتفاع بنصيحة الناصح وتوجيه العالم وتأصيل المجتهد. وقل بعد ذلك ما شئت حول الأخطاء التي يقعون فيها بتسرّعهم: فسواء اقتنعوا بفداحة ما وقعوا فيه، وخطورة ما آل إليه تصرّفهم، أم لم يقتنعوا، فإنّ الأمر بالنسبة إليهم سواء. فقاعدة “الرجوع إلى الحق فضيلة” تصعب على نفوسهم المتشدّدة، وتهدمها فكرة “الغضب لله” التي ينطلقون منها، ويتقدّمون فيها أشواطًا حتّى يعسر عليهم التوقف للمراجعة، فترتكّب الأخطاء على أخطاء مثلها، وتتراكم عليهم بشكل يجعلهم يخافون من الاعتراف ولو بخطأ واحد فتهوى عليهم تبعات جميع الأخطاء.
وإذا حاولنا تفسير هذه “القوّة” وهذا الاندفاع والتشنّج والتسرّع والإصرار.. في مواقف السلفيين الجهاديين، فإنّنا بحاجة إلى الرجوع إلى أصلهم ومنابعهم وبيئتهم التي نشؤوا فيها، ووضعياتهم التي كانوا عليها. وهنا لا بدّ من التذكير بأنّ قسمًا هامًّا من هؤلاء الشباب كانوا  ـ قبل انخراطهم في التيّار السلفي الجهادي ـ  من خرّيجي السجون، وأنّ جزءًا كبير منهم كان تاركًا للصلاة، بل منهم من كان يعاقر الخمر…
وبعد أن منّ الله على هؤلاء بالتوبة ورجعوا إلى الله وندموا على ما فعلوا  ـ  بحكم تأثير السجن على نفسياتهم وبحكم انسداد أفق الحياة أمامهم، وبحكم البطالة والفقر والكبت… ـ  لم يجدوا حلًّا لمشكلاتهم إلّا الصلاة والالتزام الديني الذي مثّل أرضية خصبة لتفريغ تلك الشحنات من النقمة والندم والحسرة. إلاّ أنّ عملية التنفيس عن مكنوناتهم الواعية واللّاواعية، وإن أخذت بعدًا دينيًّا روحيًّا، إلاّ أنّها لم تلتزم بسمت المسلم الهادئ ولا بمنهج الرفق في الأمر كلّه ولا بأصول الدعوة ولا بالضوابط الشرعية للجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فقد ترسّبت في نفوسهم  ـ من حيث لا يشعرون ـ  بقايا زمن "جاهليتهم" إن صحّ التعبير. ومن ذلك ما تعوّدوا عليه من فحش في الكلام وعنف في الخصام، وظلم في التعامل وجهل بالآداب وعزوف عن الأخلاق. فلم يكن يسيرًا عليهم أن يتخلّصوا من كلّ تلك الرذائل التي ألفوها وتدرّبوا عليها، في عهدهم الجديد الذي يحتّم عليهم هجرة كلّ ما هو شر، ونبذ العنف واجتناب المحرّمات.
ولعلّ هذا التحوّل المفاجئ الذي مرّوا  به سبّب لهم نوعًا من التعسّف على نفسياتهم، فأدّى بهم ذلك إلى الدخول في الدين بعنف وشدّة عوض أن يدخلوه برفق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تشادّوا هذا الدين فإنّه لن يشادّ الدينَ أحدٌ إلاّ غلبه”، وكما قال أيضًا: “إنّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق”. فكان هذا الانقلاب الذي هزّ كيانهم بقوّة وعنف من جهة، وما تعوّدوا عليه قبل توبتهم من فحش من جهة أخرى، عامليْن أساسيين في تكوين شخصياتهم الجديدة وسلوكاتهم وأقوالهم. وهذا ممّا يجب ألاّ يغيب عن الحكّام والمصلحين والدعاة.. في معالجتهم للظاهرة السلفية.
هذا بالإضافة إلى مؤثرات أخرى خارجية، تتعلّق بالحالة الدينية التي كانت عليها البلاد التونسية قبل الثورة، وغيرها من البلدان العربية، من معاداة للمتديّنين وإقصاء للحركات الإسلامية من جهة، وتسامح مع العلمانيين، وفتح الباب واسعًا أمام الفجور والفسق والانحراف من جهة أخرى. فهذا ممّا ساعد على تكريس ظاهرة الانفصام التي ابتلي بها الكثير من الشباب المسلم سواء من أبناء الحركات الإسلامية الحزبية أو من أبناء السلفية. وقد ساهم هذا الانفصام في ظهور نوع من القهر والشعور بالظلم والغبن لدى هؤلاء، بسبب ما يشاهدونه وما يسمعونه في الفضائيات الدينية من دروس وتوجيهات ترسّخ في الأذهان أنّ الإسلام هو الحل، وبين ما يعايشونه من فساد وانحراف ومخالفة لأحكام الشريعة في مجتمعاتهم. فظلّت هذه المعايشة، وتلك التوجيهات، تؤجّج في نفوسهم صراعًا يكابدون مرارته ويحصدون ثمراته في كلّ ما يصدر عنهم من أفعال وردود أفعال.
وبهذا نلاحظ أنّ تفسير الشدّة والعنف في سلوكات الجهاديين، لا يعود فقط إلى ماضيهم الأسود  ـ الذي مرّ به بعضهم ـ  وإنّما كذلك إلى الظروف السياسية والاجتماعية التي طبعت نفسية السلفي الجهادي، وإن لم يكن من أصحاب السوابق والمخالفات.

مظاهر الاختلاف داخل الصف السلفي الجهادي:

نعود لنذكّر بأنّنا خلصنا إلى أنّ الصف الداخلي للسلفية الجهادية لم يكن على نفس الدرجة من الوحدة التي يبدو عليها من الخارج. والدليل على ذلك أنّهم وجدوا أنفسهم أمام مدرستين تختصّ إحداهما بالجانب الخارجي أو ما يمكن أن نسمّيه بالجانب السياسي. وتختصّ الثانية بالجانب الداخلي أو ما يمكن أن نسمّيه بالجانب الفكري والفقهي والاجتماعي.
أمّا فيما يتعلّق بالجانب السياسي، فلم يجد السلفي الجهادي كبير عناء في البحث عن التأصيل الشرعي لمواقفه السياسية. فجلّ نصوص السياسة الشرعية تصبّ في نهج مقابل لسياسات البلدان العربية التي يغيب فيها تحكيم شرع الله وتحقيق الحاكمية لله تعالى. "فالمجتمع الإسلامي الحقيقي الذي يتبنّى الإسلام عقيدة وشريعة ومفاهيم وتقاليد وأخلاقًا وحضارة شاملة، غير موجود اليوم"(9). فلم يكن من الصعب على أيّ سلفي جهادي أن يخلص إلى ضرورة معارضة تلك الدول وأنظمتها معارضة شرعية. ولكنّ الصعب حقًّا في هذا الخيار هو تحديد الضوابط الشرعية لهذه المعارضة التي تجيز  ـ في بعض الأحيان ـ  استعمال القوّة، وتنزيل النصوص الشرعية ذات الصلة في الواقع الذي يعيشه.
وبما أنّ السلفية الجهادية  ـ في تونس خاصة ـ  لم يكن لها من المنظرين والمجتهدين من يقوم بعملية التأصيل الشرعي والتوجيه الحركي لعملية الإصلاح والدعوة والجهاد، فإنّه لا مفرّ من التأثر بالقيادات الخارجية لهذا التيّار. وهنا يأتي دور القاعدة كتنظيم بارز وشبه منفرد للتيّار الجهادي. علمًا أنّ الإعلام العربي والعالمي قد لعب دورًا حاسمًا في عملية تصدّر تنظيم القاعدة لهذه المنزلة. ولسنا بصدد تحليل خيارات تنظيم القاعدة السياسية والجهادية، فنهجها أوضح من أن نكتب فيه، وهو نهج "راديكالي" يقوم على بعض النصوص الشرعية دون الأخرى، وهو يقوم على أحادية النظرة للنص الشرعي، ولا يكثر فيه الثراء والتنوّع والاختلاف، لأنّ زعيمه واحد، ومن ثَمّ فإنّ موقفه واحد… ولذلك نرى معظم السلفيين الجهاديين يفتخرون بتبنّيهم مواقف القاعدة، وينتهجون نهجها وإن أدّى بهم ذلك إلى استعمال القوّة ضدّ إخوانهم المسلمين في بلدهم الواحد.. وبغضّ النظر عن سلامة هذا المنحى أو فساده، فإنّه في الحالتين يترجم نمطيّة معيّنة في المواقف السياسية.
أمّا إذا تحوّلنا إلى المنظومة السلفية الجهادية التونسية فإنّنا نرى العجب العجاب. ذلك أنّ المرجعية السلفية الجهادية لا تختصرها مدرسة واحدة كما هو الحال مع المدرسة السياسية. فالسلفيون الجهاديون لم تكن لهم مؤسسات تربوية خاصة، ولا جمعيات مرخص لها تستوعبهم وتؤطرهم، ولم ينخرطوا في أحزاب سياسية لكفرهم بالعمل الحزبي، وإنّما هم خليط من الشباب من بيئات شتّى، ومذهبهم خليط من الأفكار من مصادر شتّى، وشيوخهم أسماء عرّف بها الإعلام، وتصدّرت ـ من دون مقدمات ذاتية ولا موضوعية ـ  المشهد السلفي الجهادي. فيكفي أن تنشر صفحات التواصل الاجتماعي، أو تبث الإذاعات والفضائيات، أو تنشر الصحف والمجلاّت ـ  فتوى في الجهاد أو في تحريم الانخراط في العمل الديمقراطي والحزبي… لأحد السلفيين، حتّى يتحوّل هذا الأخير إلى زعيم، بغض النظر عن معرفة الشباب السلفي ماضيه وأصله ودرجته العلمية… وما أسرع الناس  ـ وبخاصة بعد ثورات الربيع العربي ـ  إلى الانضمام تحت أيّ لواء يرون فيه ممثّلًا لأفكارهم ومعبِّرًا عن مكنونات نفوسهم التي لم يكونوا يبوحون بها قبل الثورة. وهكذا تكوّنت الزعامات وتعدّدت بتعدّد التصريحات النارية والمواقف الجريئة والمتشدّدة، وهكذا أيضًا تكوّنت المجموعات السلفية المتعدّدة بتعدّد تلك الزعامات وبتعدّد أتباعهم في القرى والمدن والأرياف. بعد ذلك أتيح لكلّ الشباب السلفي أن ينخرطوا في جمعيات مقنّنة بقانون الثورة، وهبّ الكثير من الموسرين إلى فتح مدارس ومكاتب لتعليم العلوم الشرعية. وهنا برزت ظاهرة غريبة: وهي غزو الفكر السلفي ـ القادم خاصة من المملكة العربية السعودية ـ  لكلّ تلك المدارس والجمعيات التي ظهرت بعد ثورة 14 يناير 2011م، فما هو السبب؟
من الظلم القول إنّ الشباب السلفي في تونس تبنّى السلفية الإصلاحية والجهادية والعلمية والوهّابية والمدخلية، من منطلق التعصّب أو من منطلق التقليد الأعمى أو من منطلق الرضوخ للغزو الفكري  ـ  الديني القادم من الشرق. فالحقيقة غير ذلك تمامًا. وإنّما يعود السبب في ذلك إلى المجتمع التونسي بالأساس، وإلى مؤسساته الرسمية من جامعات ومساجد وغيرها.
ولتتّضح الصورة أكثر أذكّر بأنّ جلّ سلوكات السلفية الجهادية كانت مبنية على ردود الأفعال. فأيّ فعل هذا الذي يكون ردّ فعله التمسّك بالفكر السلفي “الشرقي”؟!
إنّه بكلّ بساطة ذلك التعصّب الذي لمسه الشباب التونسي لدى النخبة، إزاء كلّ ما يرد عليه من الخارج في مسائل العقيدة والشريعة. فشيوخ جامع الزيتونة وبعض شيوخ الجامعة الزيتونية و”شيوخ” الحداثة في كلية الآداب.. لهم حساسية بالغة تجاه فكر ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهّاب والعثيمين وابن باز. وبعض شيوخ السياسة في تونس لهم كذلك حساسية مفرطة تجاه فكر جمال الدين الأفغاني ورشيد رضا وحسن البنّا وسيد قطب وحسن الترابي ويوسف القرضاوي.. وشيوخ القرّاء في تونس لهم حساسية نفسية تجاه النمط الشرقي في التلاوة والأذان، فتراهم يتعصّبون للنمط التونسي الذي يمثله البرّاق  ـ رحمه الله ـ  أذانًا للصلاة وترتيلًا للقرآن، ولا يقبلون التلاوة الشرقية إلاّ على مضض. وبعض شيوخ الدراسات الأكاديمية من المشرفين على الاطروحات في التعليم العالي لهم حساسية بالغة تجاه كلّ الأقوال والنقول التي يستشهد بها الطالب في رسالة الماجستير والدكتوراه، والتي يشتمّ منها رائحة الفكر الإسلامي السياسي. 
هذا بالإضافة إلى الغربة التي يعيشها الفقه الحنبلي والحنفي والظاهري في مقابل الفقه المالكي. لقد أصبح الانتماء إلى المذهب المالكي فقهًا والفكر الأشعري عقيدة والفكر الطرقي تصوّفًا، عنوانًا وشعارًا يترجمان عن مدى انغلاق الفكر الزيتوني في فترة ما قبل الاستقلال. وربّما تواصل هذا المنهج حتى بعد الاستقلال، إلاّ عند من لديه رغبة في توسيع آفاق الفكر الديني كالشيخ محمد الطاهر بن عاشور وابنه الشيخ محمد الفاضل بن عاشور والشيخ محمد الإخوة والشيخ مختار السلاّمي والشيخ حمدة سعيد والباحث الدكتور علي الشابي وغيرهم من المعاصرين الذين أبوا إلاّ أن يكسروا الحاجز الذي وضعه القدامى بين المدرسة الأشعرية والمدرسة السلفية.
إنّ الانتماء إلى الأشعري في العقيدة وإلى الإمام مالك في الفقه، لم يكن مجرّد اختيار يحمل في طيّاته الاقتناع بالفكر الأشعري والفقه المالكي، وإنّما تجاوز ذلك  ـ عند البعض ـ  إلى رفض ما سواهما. ولكثرة الدندنة حول الأشعرية والمالكية في تونس، بدأ الشباب المتديّن عامّة والسلفي خاصة ـ من منطلق ردّ الفعل أوّلًا ومن منطلق أنّ "كلّ محظور مرغوب" ثانيًا ـ  يتطلّع إلى الفكر السلفي والفقه الحنبلي، ويعيد النظر في الفكر الوهّابي، وبدأ يراجع ردود شيوخ الزيتونة القاسية على رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهّاب، وأصبح هذا الشباب يعير اهتمامًا بكتب شيوخ السعودية المعاصرين أمثال عائض القرني وعثمان الخميس والشيخ العثيمين وابن باز ومن ورائهم ابن عبد الوهّاب ومن ورائه ابن القيم وابن تيمية.. وبعد البحث والنظر والمقارنة تبيّن لهذا الشباب أن ليس بين المدرستين الفقهيتين ولا بين الأشعرية والسلفية كبير فرق ولا عميق اختلاف، وليس هناك ما يوجب كلّ هذا التخوّف من الفكر السلفي وكلّ هذا التوجّس من الفقه الحنبلي. وأدركوا أنّ التعصّب والانغلاق قد ساهما في الوصول إلى هذه الحالة من السجال والجدل والتنافر بين المدرستين.. وآل الأمر بهؤلاء الشباب إلى اعتناق السلفية عقيدة والفقه الحنبلي مذهبًا نكاية في شيوخ الزيتونة، وبعضهم تبنّى الفكر الإخواني انتقامًا من سياسة النظامين السابقين، وبعضهم انسلخ عن طابعه التونسي في شكله وملبسه وعاداته وتفكيره ولبس الطابع السعودي لباسًا، معاندة منهم لكلّ مظاهر الافتخار لدى أقرانه، وبعضهم ثار ثورة شاملة على كلّ المذاهب الفقهية الأربعة وانتحل المذهب الظاهري بدعوى الرجوع المباشر إلى ظاهر الآيات والأحاديث والاكتفاء به عن التفريعات والتفصيلات التي ظهرت على أيدي الفقهاء.
وهكذا تفرّعت السبل بالسلفيين داخل السلفية نفسها، فظهرت سلفيات متنوّعة ومتنافرة أحيانًا كالحال بالنسبة للسلفية المدخلية الرافضة لكلّ من خالفها. وهكذا أيضًا حكم على السلفيين الجهاديين بأن تحكمهم الفوضى الفكرية والسلوكية في المجال الاجتماعي والثقافي، فكلّ واحد منهم يحدّد طريقه وفق ما تأثر به لأوّل عهده بالسلفية، من شيخ أو قائد أو زعيم أو كتاب أو علاقات عبر صفحات التواصل الاجتماعي. ولذلك نرى ونلحظ اختلافًا بيّنًا في علاقة السلفيين الجهاديين بإخوانهم وجيرانهم وذوي قرابتهم، فمنهم من آثر اعتزال المجتمع ولم يتحمّل أذى الناس كما طلب منّا ذلك في الحديث النبوي: "المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم”(10)، ومنهم من لم يكفه اعتزال الناس بل عاداهم وخطّأهم وبدّعهم، ومنهم من لم يشف ذلك غليله فراح يكفّرهم ويفسّقهم ويحمّلهم تبعات كلّ المصائب، ومنهم من لم ير دواء لمجتمعه إلاّ السيف، فأباح لنفسه  ـ  بفتاوى شخصية ليس لها من العلم نصيب ـ  قتل أخيه المسلم وسفك دماء كلّ مخالف له، ومنهم من أخذ على نفسه عهدًا بأن يتفقّه في دينه فانكبّ على الدراسة وأنصت إلى الدعاة والعلماء ونجح في ترشيد نزعته السلفية دون التخلّي عنها. 

تداعيات الخطاب السلفي:

يتّضح ممّا سبق أنّ السلفيين كانوا أمّة واحدة يجمعهم الانتماء إلى أهل السنة والجماعة، ويتّفقون حول فهم النصوص بفهم سلف الأمّة من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والأئمّة والعلماء. ثم وقع الخلاف فيما بينهم وطالتهم سنّة التفرّق بعد الاجتماع، والتنوّع بعد الأحادية، والخصومة بعد الوئام.
وكاد ذلك يمرّ بهم مرورًا سليمًا لو وعوا حقيقة الحال، ولو فهموا أنّ النص الشرعي حمّال أوجه لا يحتكره فهم واحد ولا ينغلق عليه اجتهاد واحد.
فالذي فاتهم حقيقة هو أنّ هذا الاختلاف الذي جدّ فيما بينهم  ـ  خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر ـ  إنّما هو ظاهرة صحّية مردّها ثراء النص الشرعي واكتنازه لمضامين متعددة وانطواؤه على رؤى مختلفة تفتح أمام المسلمين أبواب الإضافة والإبداع بعد التأصيل والاستقراء.
كما فاتهم كذلك أنّ الاختلاف في فهم النص الشرعي يؤول حتمًا إلى الاختلاف في التصوّرات والمناهج، ومن ثَمّ تختلف السبل والوسائل وتتحدّد الأولويات بحسب أهمّية الأهداف. وهذا بطبيعة الحال يحتّم قبول نظرية تعدّد الفرق والطوائف والجماعات والأحزاب والحركات، من دون الخروج عن إطار كبير وشاسع ورحب ومنفتح، وهو إطار أهل السنة والجماعة. هذا الإطار الذي منه نبعت السلفية وإليه تنتمي الحركات الإسلامية، وضمنه تبلورت الأشعرية والماتريدية، وهو كذلك الإطار الذي يضمّ تحت جنبيه جميع المذاهب الفقهية: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي والظاهري.
ونعود إلى السلفيين لنجد أنّ الصراع احتدم بينهم حتّى انحصر بين جبهتين:
جبهة عريضة استطاعت أن تخرج من تقوقعها وتنفتح على جميع الحركات الإسلامية مع تحفظات قليلة لم تفسد للودّ قضية. وهذه الجبهة هي السلفية العلمية والسلفية الجهادية مع تشدد الثانية ونزوعها إلى العنف والقوة مقارنة مع الأولى.
أمّا الجبهة الثانية فهي ما يمكن تسميتها بـ "السلفية المدخلية" نسبة إلى أبرز رموزها ربيع بن هادي المدخلي. وهي جبهة دخلت في صراع مع كلّ السلفيين الآخرين، ثم احتدّ تطرّفها وانغلاقها إلى درجة معاداة جميع الحركات والأحزاب والجماعات الإسلامية، فدخلوا في صراع مع حزب التحرير وجماعة الدعوة والتبليغ والسلفية العلمية والجهادية والحركات الإسلامية والأحزاب السياسية والأشاعرة.
والغريب أنّ كلتا الجبهتين تتمسّك بكونها الصورة المثلى لأهل السنّة والجماعة، حتّى إنّ الصراع بينهما أخذ منحًى تصاعديًّا على مستوى تبادل اللمز والشتم. وكلّ جبهة تحاول إخراج الأخرى من حظيرة أهل السنّة والجماعة وإلحاقها بأشدّ الفرق مباينة لها. فالسلفية العلمية والجهادية تنعت "السلفية المدخلية" بالإرجاء، وذلك بسبب إغراقها في تحريم الخروج على ولاّة الأمور والأنظمة القائمة. والسلفية المدخلية تنعت السلفية العلمية والجهادية ب ـ  ـ  "الخوارج" بسبب اعتمادهما مبدأ التغيير وتجويز الخروج على ولاة الأمور إذا ما انحرفوا عن مبادئ الشرع الإسلامي.
والغريب أنّ هذا السبّ المتبادل بين السلفيين لم يمنع أبا محمد المقدسي -وهو من التيّار السلفي الجهادي- من القول: "ومهما عنّفنا إخواننا الموحّدين المنحرفين عن جادّة الصواب، ومهما شدّدنا في النصح لهم ونقد طرائقهم المخالفة لطريق الأنبياء.. فالمسلم للمسلم كاليدين تغسل إحداهما الأخرى.. ولا نستجيز بحال من الأحوال التبرُّؤ منهم بالكلّية؛ لأنّ للمسلم على أخيه حق الموالاة التي لا تنقطع إلاّ بالردّة والخروج من دائرة الإسلام (11)
هذا بالإضافة إلى أنّ الخطاب التكفيري للمجتمعات الإسلامية عمومًا وما فيها من فرق وطوائف هو خطاب مرفوض تمامًا. وحتّى حديث (افتراق الأمّة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلّها في النار إلاّ واحدة، وهي الناجية) فليس فيه تكفير لهذه الفرق، ولا تقتضي ألفاظه الخلود في النار. كما أنّه يجعل هذه الفرق المختلفة كلّها ضمن الجسم الكبير لأمّة الإسلام أو أمّة محمد بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "ستفترق أمّتي"(12) فعدّهم من صميم الأمّة، فلا يجوز إخراجهم منها بالتأويل والتحكّم، قال أنس رضي الله عنه: “من شهد أن لا إله إلاّ الله، واستقبل قبلتنا، وصلّى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو مسلم، له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم" (13) رواه البخاري. وعلى هذا الحديث بنى الشيخ القرضاوي قوله: “ومعنى هذا: أن نحكم بإسلامه، وتجري عليه أحكام الإسلام، وإنْ اقترف معصية أو أخطأ في بعض مسائل العلم، سواء كانت في الفروع أم في الأصول”(14). وفي سيرة الصحابة ما يؤيّد ذلك، إذ إنّهم لم يكفّروا الخوارج الذين كانوا يكفّرون سيّدنا عليَّا رضي الله عنه. وقد سئل عنهم: هل هم كفّار؟ قال: من الكفر فرّوا. قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بالأمس، بغوا علينا اليوم. وهذا الإمام أبو الحسن الأشعري يقول في أوّل كتابه (مقالات الإسلاميين): ضلّل بعضهم بعضًا، وتبرّأ بعضهم من بعض، فصاروا فرقًا متباينين، إلاّ أنّ الإسلام يجمعهم ويعمّهم.
فالفريق الأوّل بريء من فكر الخوارج والفريق الثاني بريء من الإرجاء. ومن ثَمّ فمن الظلم تحويل الخصومة بين الفريقين من اختلاف في المنهج إلى اختلاف في العقيدة. فهذا ما يريده الغرب وأعداء الإسلام من المسلمين، يريدونهم أن يختلفوا فيتخالفوا فيكفّر بعضهم بعضًا فيتناحروا ويقتتلوا. جاء في صحيفة الحياة بتاريخ 12 / 12 / 2003م ما يلي: أكّد رئيس لجنة مجلس الأمن لمراقبة ومطاردة تنظيم "القاعدة" هيرالدو مونيوز لـ ـ  "الحياة" بعد عودته من السعوديّة، أنّ السلطات "صعّدت وعزّزت الإجراءات في المعركة ضدّ الإرهاب، بما فيها اتّخاذ القرار الجذري بأن لا مفرّ من المواجهة العقائديّة، باعتبار رجال الدين مفتاحًا لإلحاق الهزيمة بعقيدة القاعدة وبالقاعدة. ووصف مونيوز قرار المواجهة على أساس عقائدي بأنّ له “أهمية بالغة”(15)
وللأسف فقد وقع السلفيون بجميع أصنافهم في هذا الفخّ، وراحوا يتبادلون التّهم والسباب والشتم حتى وصل بهم الأمر إلى توظيف النصوص الشرعية أو تأويلها في سبيل تكفير خصومهم.  ولكوْن الصحوة الإسلامية وجدت في كلّ بقاع العالم الإسلامي المترامي الأطراف، فقد تعدّدت الحركات الإسلامية، وتنوّعت بحسب اجتهاد كلّ جماعة. وعملت كلّ حركة على استقطاب المسلمين إلى صفوفها. ثمّ تطوّر الأمر ببعضهم إلى الدعاية لصحّة منهجهم، جاعلين أنفسهم هم الفرقة الناجية، ومن سواهم فرقًا ضالّة مآلها النار. فاستغلّ الأعداء هذه الدعوات للفرقة ليعمّقوا الفتنة، ووظّفوا  ـ  في سبيل ذلك  ـ  حديث "افتراق الأمّة". وهو حديث مستفيض ومشهور بين المسلمين سندًا ومتنًا، ولكنّه يحتاج منّا قراءته قراءة متأنّية، تجعل منه عامل وحدة لا فرقة.

وسائل وآليات انتشار الفكر السلفي:

مع قلة الموارد المالية لدى الشباب التونسي اتجه زعماء هذا الفصيل إلى استحداث آليات جديدة لنشر أفكارهم وكانت كالتالي:
ثقافة الإنترنت:
لعلّ أبرز ما يمكن الانطلاق منه في توصيف الظّاهرة السّلفيّة التّونسيّة، مقارنة بالتيّار الإسلامي التّونسي الذي عرفته السّاحة التّونسيّة منذ عقود، أنّ المصادر الأساسيّة للمعرفة والتّثقيف لدى هذه الأخيرة هو الكتاب الورقي والمقالات وبعض المجلاّت، ثمّ بدرجة ثانية الأشرطة المسموعة، وبدرجة أقلّ أشرطة الفيديو التي توفّر مادّة خطابيّة تدريسيّة أو وثائقيّة أو إنشاديّة، والملاحظة أنّ المضمون المعرفي لهذه المصادر ابتدأ بمنحى إصلاحي إخواني ثمّ انفتح ليشمل كلّ روافد المدارس الفكريّة والسّياسيّة في المنطقة العربيّة والإسلاميّة، وذلك تحت تأثير الاحتكاك والصّدام مع المخالف الفكري والسّياسي في الجامعة، ثمّ اتّسعت دائرته ليشمل ما يكتب باللغات الأجنبيّة خاصّة الفرنسيّة، وبدرجة ثانية الانجليزيّة بحكم الاختصاص الدّراسي لمنظري هذا التيّار في العلوم الإنسانيّة والفلسفة والآداب واللغات ومختلف الاختصاصات العلميّة (16)
أمّا الظّاهرة السّلفيّة بشقّيها العلمي والجهادي، فإنّ الإنترنت كانت ولا تزال المصدر الأساسي لتشكيل الوعي والثّقافة والمعرفة، وبدرجة ثانية الكتب التي يوفّرها من حين لآخر معرض الكتاب الدّولي رغم الرّقابة والفرز الدّقيق، وهذا المصدر الأساسي "الإنترنت "، يقدّم مادّة متنوّعة تتفاوت بين الكتاب الرّقمي والفقرات السّمعيّة والمصوّرة ومادّة الفلاش أو البرامج التّفاعليّة، كالاستفتاء والاستفهام عن أمور شتّى.
لقد شكّلت مرجعية الانترنت والفتاوى التي تبثّ من خلالها، أساسا لوحدة عاطفيّة عقائديّة فكريّة، أفضت في مرحلة متقدّمة إلى وحدة عضوية تنظيميّة يعتنق فيها الشّباب الأفكار ويعقدون الولاء والبيعة لمن لا يتّصلون به فعليّا، ويلتزمون بطاعته وتطبيق تعليماته وفتاواه ونشر دعوته والعمل على إنفاذها في الواقع بأساليب تتفاوت بين الدّعوة السلميّة والعنف.
الكتاب الرّقمي:
لقد أصبح لمنظري هذا التيّار مواقع تربطهم بها علاقة حميميّة بايعوها بيعة رمزيّة عندما بايعوا الشّيوخ الذين يتواصلون معهم عبرها، وذلك من خلال الكتب التي تنشر على هذه المواقع، وتنقل في أقراص مضغوطة، وتقرأ على الحواسيب بطرق وأساليب تعكس خصائص مقروئيّة النصّ الرّقمي التي تتّسم بصعوبة المتابعة البصريّة للنّصوص الطّويلة أو ذات المضمون النّظري العميق، مع المحاذير الأمنيّة والصّعوبات الماديّة التي تحول دون تحويلها إلى نصوص ورقيّة. لقد أدّى هذا إلى الاكتفاء بالنّصوص القصيرة وهي عبارة عن رسائل وكتب ذات مضمون عقائدي أو دعويّ تربويّ أو تثقيفيّ سياسيّ أو سجالي في شكل ردود على المخالفين تفنيدًا لدعاواهم أو في شكل فتاوى وأجوبة عن أسئلة.
أمّا الكتب المطوّلة فإنّ صعوبة قراءتها على عموم منظري هذا التيّار تدفع الغالبيّة إلى قراءة ملخّصاتها التي يعدّها المتقدّمون في الانتماء أو أصحاب المواقع أنفسهم، أو الاقتصار على تصفّحها والاطّلاع على مضامينها بشكل انتقائيّ مشوّش مع ما يؤدّي إليه ذلك من استحالة التمثّل التّأليفي النّسقي لهذه الأدبيّات بشكل ييسّر تبيّن الخيط النّاظم، ممّا قد يمكّن لاحقا من ممارسة مجهود الفهم والتّحليل والنّقد، وينشأ عن هذا الضّرب من العلاقة بين مصادر المعرفة والمتلقّي حالة من الاستلاب الذي يفضي إلى الوثوقيّة.

السّمة المشتركة لهذه المدوّنة الرّقميّة:

- طابعها التّأسيسي التّأصيلي القائم على ترسيخ ما يفترض أنّه عقيدة الفرقة النّاجية والطّائفة المنصورة والجماعة المرضيّة ومنهجها الربّاني القائم على الفهم الحقيقي للقرآن والسنّة، وذلك بكلّ وثوقيّة واحتكار للحقيقة الدّينيّة والنّطق باسم الإرادة الإلهية.
- طابعها السّجالي الإقصائي القائم على نقض كلّ العقائد والتصوّرات والأفكار المخالفة، باعتبارها شركيّة كفريّة وفي أدنى الأحوال بدعيّة فسقيّة.
- الغياب الكامل للإحالة على قضايا التنمية ومكافحة البطالة والفقر ونشر المعرفة الحديثة وتبيئة التكنولوجيا فضلا عن مسائل الديمقراطية والمشاركة السياسية والضمانات الدستورية وحقوق الأقليات والحريّات العامّة والأساسيّة التي تعدّ من المكفّرات.
وتقوم نشرات الفتاوى، أو الاستفتاء الحيّ المباشر، بتأثيث هذه القناعات من خلال الجواب عن فروع المسائل وتغطية كلّ مناحي الحياة وتفاصيلها، بتحديد ما يفترض أنّه الحكم الشّرعي في كلّ ذلك.

المادّة الفنيّة:

أمّا الموادّ ذات المنحى الفنّي كالفقرات المصوّرة والمسموعة أو الفلاشات والأناشيد، فتساهم في خلق مناخ نفسي عاطفي يحقّق الانسجام والتّوازن الدّاخلي على مستوى الأفراد واللحمة والإحساس بالانتماء على مستوى المجموعة.
وتعكس تلك الفقرات خبرة إعلاميّة فائقة وحذقا للبرمجيّات، إذ نجد بعض الأشرطة المصوّرة مثلا، وخصوصًا الموسومين بجحيم الرّوس وسيرة الخطّاب، الذين تواتر ذكرهما في التّحقيقات والأبحاث الابتدائيّة لموقوفي التيّار السّلفي الجهادي، وتتوفّر على كلّ المؤثّرات السّمعيّة والبصريّة من خلال الاشتغال على تطوير إخراج الصّور الثّابتة والمتحرّكة المنتقاة، وخاصّة تلك التي تعرض ما ورد تحت عنوان مظالم الأمّة في فلسطين وأفغانستان والشّيشان والبوسنة، والمشاهد التي تصوّر حياة المجاهدين في الجبال والوديان والمناطق الوعرة، ومشاهد القتال وإلحاق الخسائر بالعدوّ، وخاصّة لقطات الاستشهاد حيث تفيض الرّوح من وجوه مبتسمة و تدفن الأجساد بين الصّخور و الثّلوج على أرض المعركة، ليشكّل كلّ ذلك قصّة منسجمة متناسقة بغطاء سمعيّ يتراوح بين الأناشيد الجهاديّة والخطب التّعبويّة، وقد برز صوت الشّيخ خالد الرّاشد الدّاعية السّعودي في عدد من هذه الأشرطة المصوّرة.

مضمون المادّة الفنيّة:

- عرض ما أطلق عليه مظلوميّة الأمّة، من خلال إبراز الانتهاكات التي تتعرّض لها، في الخارج من خلال ما سمّي بالحملة الصّليبيّة، والدّاخل من خلال ما اعتبر محاربة لشرع الله.
- التّأكيد على أنّ الجهاد هو الحلّ لإيقاف هذه المظلوميّة وإقامة دولة الإسلام.
- تقديم النّماذج الحيّة لهذا المنهج الجهادي والانتصارات التي حقّقها على الأرض في دول كانت عرضة للاستعمار الأجنبي .
- تعبئة الشّباب واستنفارهم للنّصرة ودعوتهم للنّسج على نفس المنوال.
- ولعلّ انضمام العشرات من الشّباب التّونسي إلى صفوف المقاومة في العراق يؤكّد نجاح هذه الاستراتيجية الإعلامية في إنجاز أهدافها، إذ غادر هؤلاء الشّباب مقاعد الدّراسة والوسط العائلي طلبا للشّهادة.

ثقافة الفتوى:

إذا كانت السّلفيّة المشرقيّة متّصلة برموزها من المشائخ والدّعاة والأدبيات التي يتيسّر الحصول عليها، فإنّ نظيرتها في تونس مقطوعة عن كلّ ذلك إذ لم تفرز مشائخ ولا دعاة، ولم تنتج أدبيات خاصّة بها، ويعسر عليها التّواصل مع الأدبيات الأصلية إلاّ من خلال الإنترنت او بعض الكتب والرّسائل المتسرّبة. لذلك اتّخذت الفتوى شأنًا كبيرًا لافتًا للنّظر، إذ ليست الفتوى لدى أتباع التيّار السّلفي التّونسي بشقّيه العلمي والجهادي مجرّد مسلك لاستبيان الحكم الشّرعي في واقعة من الوقائع الحادثة، بل يتجاوز الأمر ذلك إلى الإعلاء من شأنها لتكون مسلكا أساسيًا لتشكيل الثّقافة الدّينيّة الشّرعيّة في شتّى مجالات الحياة، ولتتحوّل إلى أداة أساسيّة للبناء المعرفي وتشكيل الوعي العام حتّى في مسائل لا تفي العلوم الدّينيّة والشّرعيّة بتحصيلها، ولعلّ من المفارقات الكبرى أنّ من طلبة كليّة العلوم بتونس من لا يؤمن بكرويّة الأرض، لأنّ الشّيخ ابن باز أفتى ببطلان ذلك وإهدار دم من يقول به! كما وقع الانزياح بالفتوى من مجرّد رأي اجتهادي غير ملزم إلى حكم شرعيّ مطابق للمقصود الإلهي يتأسّس عليه النّشاط البشري وفق إرادة الله التي يوقّع عنها أهل الفتوى.
وتشترك السّلفيّتان العلميّة والجهاديّة في تبنّي الفتاوى ذات المضمون العقائدي المتعلّق بالمسائل الكلاميّة كالذّات والصّفات، ومحاربة ما يعدّ من الشّركيّات في هذا المجال، كما يتّفقان في التزام الفتاوى التي تحدّد الحكم الشّرعيّ من المخالفين من الجماعات الإسلاميّة الأخرى، كالصّوفيّة وجماعة الدّعوة والتّبليغ وحركة الإخوان المسلمين، ممّا أنشأ في أوساط الشّباب المتديّن حديثًا في تونس ضربًا من المباينة والمفاصلة والتّدافع مع فئات أخرى من المتديّنين لهم تقاليد في الدّعوة لأفكارهم ومعتقداتهم مثل الصّوفيّة والدّعوة والتّبليغ.
وللتّصدّي لهذا الواقع الذي يعتبره سلفيو تونس مثل غيرهم شركيّا بدعيّا، يستلهمون من الفتاوى الوافدة الأحكام التي تحدّد كيفيّة التّفاعل مع هذا الواقع دون الإدراك بأنّ الفتوى إبانة عن حكم شرعي متعلّق بواقعة مظروفة بملابساتها الموضوعيّة ولا يمكن تعميمها وسحبها على وقائع مماثلة إلا ضمن شروط دقيقة لا يمكن تفصيلها إلا من طرف المفتين والمجتهدين المعايشين لتلك الواقعة.
لكنّنا نجد الظّاهرة السّلفيّة التّونسيّة، ودون وعي منها بحجم الاختلاف الثّقافي والاجتماعي والسّياسي بين البيئة التّونسيّة وغيرها من البيئات، تستلهم فتاوى أنتجها واقع مغاير محكوم بإكراهاته الخاصّة. وتتفاوت تلك الفتاوى بين التّفسيق والتّبديع والطّرد من أهل السنّة والجماعة والإخراج من الفرقة النّاجية الجماعة والتّكفير. وتقوم هذه الفتاوى على فكرة أساسيّة مفادها رفض التحزّب والانقسام إلى جماعات متفرّقة واختلاف الكلمة، باعتبار أنّ طريق الحقّ واحد. كما تدعو هذه الفتاوى إلى وجوب تحذير الشّباب والعوام من هذه الجماعات الحزبيّة التي تنتمي إلى الاثنتين والسّبعين فرقة الضّالة. ويترتّب عن هذه الفتاوى سلوكات تجاه هذه الفرق والجماعات تتفاوت بين وجوب النّصح مع عدم الموادّة، وبين المفاصلة والمباينة وما تستدعيه من عدم المجالسة والمؤاكلة والمصافحة والمصاهرة وحتّى اتّباع الجنائز… ثمّ تختلف السّلفيّتان في الحكم الشّرعيّ المتعلّق بالسّاسة إن كانوا مسلمين أو كفّارا والموقف منهم بين الولاء والطّاعة والخروج والجهاد.

استخلاصات

ولعلّ من أهمّ نتائج انخراط الشّباب التّونسي في هذا الضّرب من الجدل وتواصله المعرفي والوجداني مع هذه الفتاوى وارتهانه لها باعتبارها مسلكًا للبناء المعرفي والسّلوكي:
-  حالة التمزّق الوجداني والمعرفي الحادّ بين مضمون هذه الفتاوى والقيم التي حاولت المدرسة الحديثة والجامعة التّونسيّة ترسيخها في وعي النّاشئة عبر اختصاصات متعدّدة في كليّات الحقوق والعلوم الإنسانيّة والسّياسيّة والفلسفة والآداب، بل والكليّة الزّيتونيّة نفسها التي تعدّ عموما امتدادا لثقافة الإصلاح والتّنوير والاجتهاد التي تصدر عن المدرسة المقاصديّة التي رسّخ معالمها الشّيخ الطّاهر بن عاشور. غير أنّ هذا الإحساس بالتمزّق يتقلّص كلّما ترسّخ اعتقاد المنتمي إلى هذا الفكر وانخرط في مجموعة يربطها سلوك مشترك وإحساس بالتّضامن، ويتحوّل إلى إحساس بالغربة باعتبارها الرّابطة الشّعوريّة التي تجمع بين القلّة التي تعيد للإسلام مجده.
-  الانحراف عن مسلك اكتساب المعرفة الدينيّة من مظانّها من خلال الاطّلاع على مدوّنات العلوم بعقل تحليلي تأليفي ومنهج تاريخيّ مقارني وروح نقديّة حرّة بشكل يمكّن من إحداث التّراكم المعرفي والفرز والغربلة بقصد الحفاظ على الإنساني الأصيل وتجاوز الظّرفي المحلّي المطبوع بملابسات لحظته التّاريخيّة. ولعلّ هذه القيم هي من أهمّ ما راهنت عليه المؤسّسة التّعليميّة في تونس.
-  الانحراف عن القيم نفسها التي نهضت السّلفيّة الأولى مع ابن تيميّة بالدّعوة لها مثل تحريم ثقافة الاتّباع والتّقليد، ورهن الإرادة للشّيخ المفتي.
غير أنّ الملابسات السّياسيّة والثّقافيّة التي وجدت فيها السلفيّة التّونسيّة لم تشجّع على سلوك مسلك النّظر والاجتهاد.
ويمكن اختزال هذه الملابسات خاصّة في تسارع نسق التّحديث وغياب الأطر التي تضطلع بدور متابعة نتائج هذه السّياسة وآثارها على الوعي والسّلوك العام للتّونسيين والعمل على تبيئتها والملاءمة بينها وبين الموروث الثّقافي.
لقد أدت كلّ هذه الملابسات إلى الشكّ والتّشكيك في صدقيّة سياسة التّحديث، وفي المقابل أدّت إلى انتهاج مسلك التّقليد الذي راهن على أنّ من قلّد عالما فقد لقي الله سالما، ولا بدّ لكلّ مسلم من شيخ يبيّن له حكم الشّرع في كلّ مجالات الحياة.
كما أدّت إلى انخراط فئات من الشّباب التّونسي المتديّن الذي شكّل لاحقًا الظّاهرة السّلفيّة في حالة من الانفصام الباثولوجي بين الشّرعي والوضعي والدّيني والمدني، مستشعرًا الإحساس بالغربة ومنخرطا في ثقافة الغربة بكثافاتها العاطفيّة التي أحال عليها الحديث النّبويّ " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء "
أمّا مع السّلفيّة الجهاديّة فالأمر يتجاوز ثقافة العزلة واستشعار الغربة إلى ثقافة النّفير والتّعبئة والتّرغيب في الجهاد والشهادة والجنّة والتّرهيب من القعود والتولّي يوم الزّحف.
وتبقى السّمة البارزة لكلا السّلفيّتين هي غياب المعرفة التي تؤسّس لفهم حركة الواقع واستيعاب مستجدّاته، ويبقى الفكر السّلفي غائبا عن الثّورة المنهجيّة في مجال المعارف التي تتناول مسائل الدين وعلومه.

المراجع والمصادر

(1) في حوار ل ـ  "التجديد" عدد 492 أكتوبر 2002.
(2) ابن أبي الضّياف 1802/1874 م، الإتحاف ج 3
(3) المنح الإلهيّة في طمس الضّلالة الوهابيّة ص 95
(4) السلفية في مناخ تونسي 1/3 www.alawan.org/article4628.html
(5) التيار السلفي في تونس: المكونات والفئات الاجتماعية www.alrafedein.com
(6) أحمد نظيف: السلفية واخواتها من تراث الحنابلة الى افكار الجهاد مرورا بالوهابية – www.assaa.tn
(7) السلفية في تونس، الواقع والتحديات rouyaturkiyyah.com
(8) نفس المصدر
(9) يوسف القرضاوي: فتاوى معاصرة، المكتب الإسلامي، ط1، 1421ه ـ  / 2000م، الجزء الأول، ص 505.
(10) معجم ابن المقرئ، رقم الحديث: 633 (حديث مرفوع) حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ نفْطَوَيه ، ثنا شُعَيْبُ بْنُ أَيُّوبَ ، ثنا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ ، عَنْ دَاوُدَ الطَّائِيِّ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ ، خَيْرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ ، وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ " ، هَكَذَا حَدَّثَنَاهُ ، وَقَدْ ، حَدَّثَنَا غَيْرُهُ عَنْ شُعَيْبٍ ، فَقَالَ عَنْ يَحْيَى ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَاهُ ابْنَ عُمَرَ : الْحَدِيثَ .
(11) أبو محمد المقدسي: ملّة إبراهيم ودعوة الأنبياء والمرسلين، 1405ه ـ  ، ص 10
(12) الحديث المشهور الوارد في افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة هو حديث مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ : (أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِينَا فَقَالَ : أَلَا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً ، وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ ، ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ) رواه أبو داود (4597) وغيره وصححه الحاكم (1/128) بل قال : إنه حديث كبير في الأصول ، وصححه ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (3/345) والشاطبي في "الاعتصام" (1/430) والعراقي في "تخريج الإحياء" (3/199) .
(13) سنن النسائى الصغرى رقم الحديث: 3930(حديث موقوف) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ ، قَالَ : أَنْبَأَنَا حُمَيْدٌ ، قَالَ : سَأَلَ مَيْمُونُ بْنُ سِيَاهٍ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ، قَالَ : يَا أَبَا حَمْزَةَ ، مَا يُحَرِّمُ دَمَ الْمُسْلِمِ , وَمَالَهُ ؟ فَقَالَ : " مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَصَلَّى صَلَاتَنَا ، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَهُوَ مُسْلِمٌ لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ"، وكذلك في البخاري 392 - حَدَّثَنَا نُعَيْمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ المُبَارَكِ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا، وَصَلَّوْا صَلاَتَنَا، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» 393 - قَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، قَالَ: سَأَلَ مَيْمُونُ بْنُ سِيَاهٍ، أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، مَا يُحَرِّمُ دَمَ العَبْدِ وَمَالَهُ؟ فَقَالَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَصَلَّى صَلاَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَهُوَ المُسْلِمُ، لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِ، وَعَلَيْهِ -[88]- مَا عَلَى المُسْلِمِ»
(14) د. يوسف القرضاوي: فتاوى معاصرة، الجزء الرابع، ص236. علمًا أنّ الباحث اليمني سقاف بن علي الكاف يقرأ حديث “افتراق الأمة” قراءة مغايرة: انظر صفحة 96.
(15) أبو بكر ناجي: الخونة أخسّ صفقة في تاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة، نشر مركز الدراسات، منبر التوحيد والجهاد، ص119
(16) راجع دراسة عبد الباقي الهرماسي الإسلام الاحتجاجي في تونس

شارك