إسلام المحبة في مواجهة دعاة الكراهية

الأحد 30/أغسطس/2020 - 03:00 ص
طباعة
 
التجربة الصوفية، في كل زمان ومكان، تجربة معرفية وحياتية لا تعرف الخمول "فإذا وقع السكون فلا تصوّف"، على حدّ قول السهروردي؛ فالمُحبّ يُغالب عوائق الطريق أملاً في أن يفتح الله مغاليق قلبه؛ كي تستقبل النور الروحي، وإن كان من الصعب أن نُقدّمَ صورةً متكاملةً لتجربة النزوح الروحي بما يكتنفها من مقامات التحرر والوجد والخيال والحقيقة، إلا أنّنا سنُحاول أن نُجمل أهمّ علامات المحبّ الصادق في النقاط التالية:
- المحبّ يُدرك أنّ النمو الرُّوحي يكمن في استقلال الوعي؛ حيث لا يُوجد وصِيّ بينك وبين الله على إيمانك ولا قيمك ولا مبادئك، فلا تتوجس خيفة من السادة الروحيين شيوخاً كانوا أو أئمة أو رجال دين، فلا يحول أحد بين نفسك وبين الله؛ فالمحبّ "لا يكون تحت رِقّ المخلوقات، ولا يجري عليه سُلْطانُ الْمُكونات"، على حدّ قول القشيري.
- المحبّ على استعداد لتغيير الحياة التي يحياها، فلو تبقى من حياته يومٌ واحدٌ، فلن يُشبه اليوم الذي سبقه، يُركز على الخطوة الأولى، ويمضي في طريقه، لا يعبأ بما يعجّ به العالم من أطماع واضطرابات، فهو لا يسير مع التيار، وإنّما هو تيّار قائم بذاته.
- المحبّ الصادق لا يسعى لفرض قيمه ومبادئه على الآخرين؛ لأنّه يُؤمن بأنّ اللهَ تعالى رغم أنّه خلقنا جميعاً على صورته، إلا أنّه لا يوجد شخصان متشابهان في سعيهما نحو الحقيقة؛ فكلٌّ له تجربته الخاصة، ولو أراد الله أن نكون متشابهين لخلقنا كذلك؛ لذا فإنّ عدم احترام الاختلافات وفرض الأفكار، يعني عدم احترام النّظام المقدّس الذي أرساه الله تعالى.
- أهمّ ما يميّز المحبّ الصادق أنّه لا يتصرف بتطرف، بل يظلّ متسامحاً، ومعتدلاً على الدوام؛ لأنّه لا يصنع من الحقائق التي تتكون لديه أوثاناً، يُحارب من أجلها، وإنّما يبتعد عن عبادة الأصنام بجميع أنواعها حتى لو كانت أفكاراً؛ لأنها تشوّه رؤيته، وتُعيقه عن الله تعالى؛ فالتّطرف بجميع أنواعه يُحطّم الاتزان الداخلي.
- يتجنب العنف؛ لأنّه لا يجد في الحياة ثمّة داعٍ يدفعه إليه، فلا يتشاجر مع أحد حتّى لو كان لديه سبب يدعوه إلى ذلك، "فالصوفي لا يُنحي باللائمة على أحد. فكيف يُمكن أن يُوجَد خصوم أو منافسون أو حتى "آخرون" في حين لا تُوجد "نفس" في المقام الأول"! 
- المحبّ لا يغضب؛ لأنّ لديه على الدوام قدرة مدهشة على رؤية الأشياء من وجهتَيّ النظر؛ وجهة نظره، ووجهة نظر الآخر، فمعظم مشاكلنا سببها أن نرى الأشياء من وجهة نظرنا فحسب، أو من استعمال خاطئ للغة يتبعه سوءُ فهْمٍ يُشعل انفعالات الغضب، وإذا غضب المحبّ فإنه سرعان ما يستعيد سكينة نفسه؛ لأنه يُدرّب نفسه عندما يغضب أن يتخيل وجه شخص يُحبه بدلاً مِن وجه مَن أغضبه.
- المحبّ كلّما قوي إيمانه، فأصبح صلباً كالصخرة، صار قلبه ليناً خفيفاً كالريشة، فظاهر المؤمن قوة، وفي باطنه لين، "إنّ الوسيلة التي تمكنك من الاقتراب من الحقيقة أكثر تكمن في أن يتسع قلبك لاستيعاب البشرية كلّها، وأن يظلّ فيه مُتسع لمزيد من الحب".
- المُحبّ لا ينشغل بإطلاق الأحكام على الآخرين؛ فهو دوماً يُركّز على علاقته الداخلية مع الله، مقتنعاً أنّ القذارة تقبع في الداخل، لا في الخارج؛ فالمتصوف ليس رجل دين متعصباً يتصيد أخطاء الآخرين على الدوام، فليس من مهمة أحدِنا أن يحكمَ على إيمان الآخر، ولا على الطريقة التي يتواصل بها مع الله؛ لأنّ الله تعالى لا يأخذنا بظواهرنا، بل ينظر في أعماق قلوبنا، فممارسة شعائر الإسلام وطقوسه دون قلب مُحبّ، لن تصنع سوى إيمان مضطرب! فالمحبّة جوهر الإيمان وغايته.
- المحبّ لا ينعزل في أبراج علماء التنظير العاجية، بل يُمضي وقته بين الناس، يعيش حياتَه قرآناً متنقلاً بين سائر المخلوقات بأخلاقه، ففرق كبير بين محبّ لا يتّهم أحداً، ومتدين ينشغل بالشكل، مُغلق عينيه وقلبه عن العالم الخارجي، لا يقرأ القرآن الكريم إلا قراءة سطحية، ويُغفل قراءة كتاب الكون المنظور الذي خلقه الله تعالى على صورته؛ لنراه، ونتأمل عظمته وروعته أينما استدرنا ونظرنا..
- يعرف المتصوف الخلوة ولا يعرف الوحدة، فهما شيئان مختلفان، فكم من إنسان يخدع نفسه، ويُخيل إليه أنّه يسير على الطريق القويم، وهو يعيش الوحدة معزولاً، بخلاف الخلوة فهي صحبة حبيب لا يغيب، يشعر به من اكتشف الرّوح الإلهية في داخله، وهذا ما لا يُدركه المتدينون المتعصبون؛ فبدلاً من أن ينشغلوا بإفناء ذواتهم في حب الله، ومجاهدة أنفسهم، نجدهم يحاربون أناساً آخرين، يُولدون موجة بعد أخرى من الخوف، ينظرون إلى الكون كله بعيون يشوبها الخوف، يتوقعون أن الله سبحانه وتعالى سيتدخل بالنيابة عنهم ويثأر من أجلهم، وتغمر حياتهم حالة متواصلة من المرارة والعداوة.
- المُحبّ الصادق لا يجد مشكلة مع الألم والمعاناة؛ فالصوفي يتعلّم أن يتقبل الشوكة والوردة معاً، مساوئ الحياة ومحاسنها، ويرى في تحقق تلك الحالة من القبول علامة حبّ، فالحبّ لا يكتمل إلا بالألم، "إن يدك تفتح وتغلق باستمرار، وما لم تفعل ذلك، فإنك تصاب بالشلل. إن أعمق وجود بالنسبة لك يقبع في كل انقباض وتوسع مهما كانا صغيرين، وكلاهما متوازن ومنسق على نحو جميل مثل جناحي طائر.. فالمتعة والحزن يعتمد أحدهما على الآخر مثل جناحي طير".
- المتصوف يُرحب دوماً بالقدر، فلا يحمد الله على ما منحه إياه فحسب، بل يحمده أيضاً على كلّ ما حرمه منه؛ لذا قالوا: "سكونك تحت أقدار الله ولاية"، فقد خَلق الله المعاناة حتى تظهر السعادة من خلال نقيضها، فالأشياء تظهر من خلال أضدادها. 
لكن في الوقت نفسه لا يعني القدر "أنّ حياتك محددة بقدر محتوم"؛ فترك كلّ شيء للقدر، وعدم المشاركة في عزف موسيقى الكون دليل على جهل مطلق؛ "إن موسيقى الكون تعمّ كل مكان وتتألف من أربعين مستوى مختلفاً. إنّ قدرك هو المستوى الذي تعزف فيه لحنك، فقد لا تُغيّر آلتَك الموسيقية بل تُبدل الدّرجة التي تجيد فيها العزف".
- المُحبّ دوماً هادئ متزن؛ فعندما تُصبح صُوفياً تُقيم عهداً مع الله "أن تفعل ما يجب أن تَفعله بحسب مقدرتك، وأن تترك الباقي له، وله وحده فقط، وأن تقبل الحقيقة بأنّ هناك أشياء تتجاوز حدودك ومقدرتك، فلا يمكنك أن ترى من المشهد الكبير إلا بعض الأجزاء، أمّا المخطط الأكبر فهو يتجاوز إدراكك".
فيُميز المتصوف بين حالة التقاعس حيث لا يفعل الإنسان شيئاً على الإطلاق، ولا يُبدي اهتماماً عميقاً بالحياة، وبين احترامه لما يُطلِق عليه الإيمان بالعنصر الخامس، وهو تلك الأشياء التي لا يُمكننا تفسيرها، ولا يُمكن التّحكم بها، فهذا "الغيب/ الفراغ/ الشغور"، حيث تنعدم رؤيتك، وتتلاشى قدرتك، عنصر إلهي لا يمكن، ولا نستطيع نحن البشر أن نفهمه، ومع ذلك يجب أن نتعايش معه طوال الوقت. 
- الوعي بالعدم وما يُمثّله الإنسان من قيمة صفرية من المعاني الحاضرة في نفس المتصوف، فعلى الرغم من أنّ المرء في هذا العالم يجاهد؛ ليحقق شيئاً، ويُصبح شخصاً مهماً، فإنّه سيترك كل شيء بعد موته، فالوعي بالعدم وليس ما نتطلع إلى تحقيقه، هو الذي يبقي المحبّ يُواصل الحياة.
- المحبّ لا يكفّ عن القصّ، فيتكدس في صدره حشد من الكلمات، وقصصٌ كثيرة ينتظر أن يحكيها، كما أنّه لا يكتفي بظاهر القصة بل يسعى خلف مغزاها، ويرى "أنّ الرجل الذي لا وقت لديه لسماع القصص لا وقت لديه من أجل الله؛ فـ "الكون كائن واحد، يرتبط كل شيء وكل شخص فيه بشبكة خفية من القصص، وسواء أدركنا ذلك أم لم ندرك، فإننا نُشارك جميعاً في حديث صامت".
أخيراً المُحبّ يسأل نفسه ما الذي يُمكن أن أُضيفه إلى الحياة؟ هل أضيف استياء، أو عداوات، أو غضباً، أو عنفاً؟ أم أضيف حبّاً وانسجاماً؟ على حدّ قول شمس التبريزي: "إنّ العالَم قِدْرٌ ضخمٌ يُطهى فيه شيء ضخم؟ لكننا لا نعرف ما هو حتى الآن. فكل ما نفعله، أو نلمسه، أو نفكّر فيه، هو أحد مكونات ذلك الخليط. يجب أن نسأل أنفسنا ماذا نُضيف إلى القِدْر؟ ما هي المكونات التي تظنّ أنّك تُضيفها إلى حساء البشرية المشترك؟" 

شارك