الحراك الشعبي والإسلام السياسي في الجزائر

الأحد 08/ديسمبر/2019 - 12:48 م
طباعة
 
منذ ما يزيد عن  عشرة أشهر ونتابع في مصر والوطن العربي بل وفي العديد من الدول الغربية الحراك الشعبي والمخاض السياسي في الجزائر، ومع ظهور صوت الإسلاميين الراديكاليين فيه، ورفع بعض الشعارات التي تذكّرنا بأيام (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) الدموية، تضعنا هذه الحال أمام اسئلة متعددة حول الوضع الجزائري خصوصا في ظل تداخل التيارات والفصائل في المعادلة السياسية الجزائرية الأكثر تعقيدا في الوطن العربي لمرور هذا البلد بعشرية سوداء راح ضحيتها الآلاف من الشعب الجزائري وخلفت الكثير من الأمراض النفسية والاجتماعية التي ما زالت الأسر الجزائرية تعاني منها حتى الأن.
وهناك العديد من التقارير الصادرة من مراكز حقوقية تناقش الوضع على الأرض وفي مجملها تتهم السلطات الجزائرية بـ"تشديد الخناق" على الحركة الاحتجاجية، منددة باعتقالات وانتهاكات لحرية التعبير والتجمع وتدابير أمنية مشددة.
وإسلاميو الجزائر، ممثلين في الجبهة الإسلامية للإنقاذ، التي خرجت منها جميع التنظيمات الإسلامية في الجزائر اليوم، نجدهم ومنذ التسعينيات يتميزون بالخطاب المليء بالغضب ومعاداة الجميع، في الداخل والخارج، وعلى الرغم من مرور أزيد من ربع قرن، لم يستطع الإسلاميون الجزائريون التحرر من خطاب الشكوى والأنين والبكاء على أطلال انتخابات التسعينيات، لم يتطهروا من ثقافة "النوستالجيا" السياسية، ولم يتحرروا من إحساس "الضحية".
ووجود الإسلاميين الجزائريين في الحراك اليوم وبالأوصاف عينها، مدججين  بالغضب وحس الانتقام من الجميع، واستعجال الأمور والتلهف على السلطة ومعاداة شركائهم في الشارع ورفع الشعارات الحادة التي تفرق أكثر ما تجمع، وعدم فهمهم للأولي والثانوي وخلط الأوراق السياسية، كل هذا جعل النظام قادراً على إعادة إنتاج ذاته، فالإسلاميون الجزائريون بما هم عليه من سلوكيات فردية وجماعية، هم أداة في يد النظام وليسوا آلة لإسقاطه، إنهم يخدمون النظام في الوقت الذي يعتقدون بأنهم يهاجمونه أو يهددون وجوده، إنهم لا يشكّلون أي خطر على النظام، بل يشكلون خطراً على الجزائر.
إن إسلاميي الجزائر لا يريدون تقاسم السلطة مع غيرهم، لو مرحلياً وتكتيكياً، كما في تونس، هم يريدون السلطة لهم ولهم وحدهم وكاملة، إما هم وحدهم أو الطوفان، الإسلاميون الجزائريون يحلمون برعية لا بمواطنين، يفكرون في مجتمع من دون معارضة، فالسلطة بالنسبة إليهم ليست مسألة سياسية، إنها قضية دينية، أساسها  الـ "طاعة" للشيخ الزعيم.
ومن أجل التشويش على الحراك الذي هو قوة سوسيولوجية عارمة وإيجابية وحالة تاريخية فريدة، يعمل الإسلاميون على خلق "التفرقة" في أوساطه برفع شعارات بعينها. وأمام هذا، تعمل السلطة الجزائرية أو بقايا النظام البوتفليقي، على الاستثمار في شبكات التواصل الاجتماعي، إذ يصار إلى ترويج تصريحات بعض "القادة" الإسلاميين، وكذا بعض مناضليهم والمتعاطفين معهم والتي تصب في خانة إذكاء "الفتنة"، ما يزعزع وحدة الحراك.
وفي عز الحراك الشعبي، لم يتخلص الإسلاميون الجزائريون من مواصلة زرع ثقافة "التكفير" ومعاداة المثقفين التنويريين وتخوين قيادات بعض الأحزاب الوطنية أو العلمانية، وتعج شبكات التواصل الاجتماعي بخطابات بعض مناضليهم وأتباعهم التي تروج لذلك بشكل واضح، ما يجعلهم قوة تفتيت وتشكيك.
وما دام الإسلاميون الجزائريون لم يقرؤوا جيداً التاريخ السياسي لأحزاب غربية التي لها علاقة بـ"الثقافة والتقاليد الدينية المسيحية"، كالأحزاب الديمقراطية المسيحية والأحزاب المسيحية الليبرالية وفهم ميكانيزمات العلاقة ما بين الدين كثقافة وكممارسة فردية من جهة والسياسة كمشروع اجتماعي من جهة أخرى، فإنهم لن يشكلوا أبداً قيمة مضافة في المشهد السياسي، بل سيظلون عقبة في وجه التغيير الإيجابي وفي وجه القوى السياسية الأخرى، الباحثة عن التطور والتقدم من ديمقراطيين وطنيين وعلمانيين وليبراليين واشتراكيين الذين كبروا جميعهم في ظل "ثقافة إسلامية" متسامحة وبنكهة محلية تختلف عن الإسلام السياسي المستورد الذي تستند إليه أطروحات الإسلام السياسي الجزائري.
إن تركيبة الإسلاميين الداخلية وتصوراتهم الإقصائية، مهما كان البلد الذي قد يصلون فيه إلى السلطة، تتميز  بغياب رؤية مستقبلية في مفهومهم للمجتمع الذي يتوجهون إليه، وتتميز رؤيتهم باستدعاء "الحنين" إلى الماضي واتكاء خطابهم على زمن سياسي ولّى، هو "زمن الخلفاء الراشدين" الذين يقيسون أنفسهم عليه. كل هذا "الاغتراب" التاريخي والاجتماعي لن يبقيهم في السلطة طويلاً متى وصلوا إليها. وهنا، لا أستثني إسلاميّي تونس الذين وبمجرد غزو السلطة والاستيلاء على قرطاج، سيشرعون لاحقاً، وبمجرد أن تستب لهم الأمور قليلاً،  في معاداة صناع الثورة التي أطاحت ببن علي، من خلال التكفير والتخوين وضرب واغتيال بعض رموز العلمانية التي أسس لها بورقيبة والتي كانت سبب حداثة تونس، ثم سينتقلون في مرحلة تالية إلى أكل بعضهم البعض. بالتالي، ستظهر الاختلافات التي ظلت مغيّبة خلال رحلة غزوة قرطاج، وستبدأ الدولة التونسية القائمة على الإسلام السياسي بالتفكك خلال السنتين المقبلتين، إذا لم يحصل طارئ يعيد ترتيب الأوراق من جديد، وهذا هو مصير كل إسلام سياسي في المشرق كان أو في شمال أفريقيا.   
وأخيرا تقتضي الحكمة والتعقل أن يقبل الحراك الشعبي بإجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها المحدد ، لأنه لا يجوز لدولة كبيرة مثل الجزائر أن تظل من دون رئيس منتخب، لا سيما أنَّ البلد أمام مفترق طرق خطير. فإذا كان الحراك الشعبي الجزائري يشكل جزءًا أساسيًا من الانتفاضات الشعبية التي حصلت في المنطقة العربية طيلة سنة 2019، والتي كانت في أساس انطلاقة عصرٍ جديد من الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومحاربة آفة الفساد، والمطالبة بتغيير أنماط الحكم وطبيعة الاختيارات الاقتصادية و الاجتماعية والسياسات العمومية المتبعة في المنطقة العربية، فإنّ على الحراك الشعبي الجزائري أن يقبل بالإصلاح الديمقراطي حتى من داخل النظام في سبيل تحقيق الانتقال الديمقراطي الحقيقي عبر عملية تراكمية .

شارك