خاص.. صورة محمد رسول الله في عيون المستشرقين (1)

السبت 22/أبريل/2023 - 04:25 ص
طباعة
 
{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.. {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}.. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}.. {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيُصُ عَلَيْكُم بِالمْؤُمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.

تنوعت أعمال المستشرقين الذين جابوا منطقتنا العربية، تنوعًا كبيرًا وساهمت هذه الأعمال فى المكتبة العالمية أيما إسهام، ومن بين هذه الأعمال المهمة للمستشرقين جهودهم الفكرية والبحثية عن سيرة رسول الله محمد «صلى الله عليه وسلم»، وكانت منطلقاتهم الموضوعية العلمية حينًا، ومنطلقاتهم المغرضة المشبوهة أحيانًا كثيرة، تدفعهم للاستزادة من البحث المتواصل، في جوانب السيرة النبوية جميعها، وعلى المستويات الفكرية المتعددة التى تقدمت بها إلى الإنسانية.
فمن الترجمات التى نشطت فى أوروبا عن طريق الأديرة والمبشرين بدأت حياة الرسول محمد، تظهر معالمها أمام أذهانهم، وقد قام بحركة الترجمة لفيف كبير من الرهبان المستشرقين، وكان معظم المبشرين يدرسون فن الترجمة فى معاهد خاصة تشرف عليها الكنائس العالمية، ومن أقدمها الرهبانية البندكية المؤسسة عام ١٥٢٩م، وبعدها الرهبانية الدومانيكية، والرهبانية الفرنسيسكانية، واشتهر منهم: جربرى أورلياك، وأدلر، وأدف باش- وغيرهم، لكنهم لم يقتصروا على ترجمة السيرة النبوية، بل شملت نواحى عديدة من الثقافة العربية الإسلامية، ومن الترجمات: كتاب المغازي للواقدي. وهو أقدم مصدر للسيرة النبوية فى ثلاثة أجزاء، طبع فى برلين عام 1883.
ومن الدراسات المتنوعة بدءًا من المقالة القصيرة أو الفصل المحدود، مثل: كتاب الأبطال: لتوماس كارليل، ونهاية بالدراسة المستفيضة "النبى محمد حياته ودينه"، لسيمون فايل الألمانى فى ثلاثة مجلدات، وسيرة محمد فى ثلاثة أجزاء، لسبرنجر ومعاونيه ١٨٦١ - ١٨٦٩م. ولعل أقدم دراسة عن نبوة الرسول محمد، والأنبياء جميعًا، ما كتبه "تورميدا" سنة ١٤١٧، فى كتابه "النبوات"، الذى استند فيه إلى رسائل إخوان الصفا، فقد كتبه بالقطلوبية ثم ترجم أربع مرات إلى الفرنسية ومرة إلى الألمانية، ونشر فى المجلة الأسبانية.
ولا شك أن معظم هذه الدراسات اهتمت كثيرا بالجوانب الإنسانية والبشرية عند الرسول محمد، كالبطولة والعبقرية والعظمة.
أما كتاب  "محمد"، الذى ألفه القسيس "إسكندر ديبون"، فهو أقدم منه، حيث ألفه عام ١٢٥٨م، وكان الناس يعدونه تاريخًا صحيحًا للرسول، ومن التحقيقات فى التراث الإسلامى شملت أصول السيرة النبوية، ومراجعها القديمة، فقد حقق المستشرق الدكتور مارسدن جونس، وهو إنجليزى تولى إدارة معهد اللغات الشرقية فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، كتاب "المغازي" للواقدى سابق الذكر، ونشرته مطبعة جامعة إكسفورد عام ١٩٦٦م.
وقد صنف على طريقة التراجم التى كان لها الأثر الأكبر فى التأليف التاريخي فيما بعد، فقد صنف على غراره تلميذه وكاتبه محمد بن سعد، كتاب "الطبقات"، ونقل عنه كثيرًا. ويقول جونس: والكاتب الوحيد الذى عاصر الواقدى فى التأليف عن الطبقات هو الهيثم بن عدي، وعلى ذلك فإن الواقدى يعتبر من الرواد الذين أرسوا دعائم الرجال، ويضم خمسًا وثلاثين صفحة مقدمة عن الواقدى ومصادر كتابه، وعشر صفحات مراجع له من مطبوع ومخطوط، ومئة وتسعين صفحة فهارس.
كما حقق "دى خويه" كتاب "تاريخ الرسل والملوك الطبري" فى ٨ آلاف صفحة، و١٥٠ صفحة مقدمات وفهارس.
وقدم المستشرق "كارلوس يوهنس توريبرغ" وزملاؤه كتاب "الكامل فى التاريخ" لابن الأثير، في ١٢ مجلدًا، ومجلدا للفهارس، مضافًا إليها استدراكات وتصحيحات، ولا ننسى أن من أقدم المؤلفات عن السيرة النبوية "السيرة النبوية"، لابن هشام، وقد عنى بتحقيقها "دى يونج"، بمعاونة "دى خويه" متنًا وترجمة لاتينية "ليون ١٨٨١، ثم عكف على تحقيقها بالعربية "فيستنفلد" الألمانى مع تعليقات وفهارس بالألمانية.
وقد تناولت الأعمال الفكرية الاستشراقية السابقة وغيرها عن الرسول ما يتسم به من الموضوعية والتجرد فى البحث الذى يلقى بأضوائه على شيء من حقائق السيرة عند المسلمين وغيرهم، ويتضح هذا فى كثير من التراث العربى الإسلامى الذى تناولوه بالتحقيق والنشر إلى جانب العديد من الدراسات المنصفة والآراء المعتدلة.
ويقول توماس كارليل (٤ ديسمبر ١٧٩٥ - ٥ فبراير ١٨٨١)، كاتب إسكتلندي وناقد ساخر ومؤرخ، وكان لأعماله تأثير كبير بالعصر الفكتوري: «وإنى لأحب محمدًا لبراءة طبعه من الرياء والتصنع. ولقد كان ابن القفار هذا رجلًا مستقل الرأي، لا يعوِّل إلا على نفسه، لا يدعى ما ليس فيه. ولم يك متكبرًا، ولكنه لم يكن ذليلًا ضرعًا،  فهو قائم فى ثوبه المرقع كما أوجده الله وكما أراد. يخاطب بقوله الحر المبين قياصرة الروم وأكاسرة العجم، يرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة وللحياة الآخرة. وكان يعرف لنفسه قدرها».
ويقول أستاذ اللغات الشرقية فى جامعة جنيف المستشرق إدوار مونتيه (١٨٥٦م – ١٩٢٧م) فى كتابه: «حاضر الإسلام ومستقبله» باحثًا جماع خصاله وجميل سجاياه ونزاهة مقاصده وصحة أحكامه وطبيعته الدينية كمصلح عظيم يدهش الفكر، ويثير مكامن الإعجاب: «أما محمد فكان كريم الأخلاق حسن العشرة، عذب الحديث، صحيح الحكم، صادق اللفظ، وقد كانت الصفة الغالبة عليه هى صحة الحكم، وصراحة اللفظ، والاقتناع التام بما يقبله ويقوله..".
ويضيف "مونتيه": "إن طبيعة محمد الدينية تدهش كل باحث مدقق نزيه المقصد، بما يتجلى فيها من شدة الإخلاص، فقد كان محمد مصلحًا دينيًا، ذا عقيدة راسخة، ولم ينهض – إلا بعد أن تأمل كثيرًا، وبلغ سن الكمال - بهاتيك الدعوة العظيمة، التى جعلته من أسطع أنوار الإنسانية، وهو فى قتاله الشرك والعادات القبيحة التى كانت عند آباء زمنه، كان فى بلاد العرب أشبه بنبى من أنبياء بنى إسرائيل الذين كانوا كبارًا جدًا فى تاريخ قومهم، ولقد جهل كثير من الناس محمدًا فبخسوه حقه، وذلك لأنه من المصلحين الذين عرف الناس أطوار حياتهم بدقائقها».
ولقد رد توماس كارليل على أولئك الذين اتهموا الرسول محمد- عليه الصلاة والسلام- بالمطامع الدنيوية التى زعموا أنها كانت وراء دعوته، فقال: «ويزعم المتعصبون والملحدون أن محمدًا لم يكن يريد بقيامه إلا الشهرة الشخصية ومفاخر الجاه والسلطان. كلا وأيم الله، لقد كان فى فؤاد ذلك الرجل الكبير ابن القفار والفلوات، المتوقد المقلتين، العظيم النفس، المملوء رحمة وخيرًا وحنانًا وبرًا وحكمة وحجة… أفكارًا غير الطمع الدنيوي، ونوايا خلاف طلب السلطة والجاه».
كما ردَّ "كارليل" على المتعصبين الحاقدين من المستشرقين الذين اتهموا الإسلام ورسول الإسلام بالشهوانية، فالإسلام برأيه دين ينأى عن الشهوانية، بقوله: "أما سيرة حياة الرسول التى اتسمت بالبساطة والزهد والتقشف، فأبعد من أن تخفى على باحث".
ويضيف: «وما كان محمد أخا شهوات برغم ما اتهم به ظلمًا وعدوانًا، وأشد ما نجور ونخطئ إذا حسبناه رجلًا شهوانيًا لا هم له إلا قضاء مآربه من الملاذ. كلا، فما أبعد ما كان بينه وبين الملاذ أيًا كانت! لقد كان زاهدًا متقشفًا فى مسكنه ومأكله ومشربه وملبسه وسائر أموره وأحواله، وكان طعامه عادة الخبز والماء، وربما تتابعت الشهور ولم توقد بداره نار، وإنهم ليذكرون- ونعم ما يذكرون- أنه كان يصلح ثوبه ويرفوه بيده، فهل بعد ذلك مكرمة ومفخرة؟..".
وبتابع "كارليل" قائلا: "فحبذا محمد من رجل خشن اللباس خشن الطعام، مجتهد فى الله، قائم النهار ساهر الليل، دائب فى نشر دين الله، غير طامح إلى ما يطمح إليه أصاغر الرجال من رتبة أو دولة أو سلطان، غير متطلع إلى ذكر أو شهرة كيفما كانت، رجل عظيم وربكم،  وإلا فما كان ملاقيًا من أولئك العرب الغلاظ توقيرًا واحترامًا، وإكبارًا وإعظامًا، وما كان ممكنًا أن يقودهم ويعاشرهم معظم أوقاته ثلاثًا وعشرين حجة، وهم ملتفون حوله، يقاتلون بين يديه، ويجاهدون معه؟؟".
ويواصل قائلا: "لقد كان فى هؤلاء العرب جفاء وغلظة وبادرة وعجرفة، وكانوا حماة الأنوف، أباة للضيم، وَعْرِيُّو المقادة، صعاب الشكيمة، فمن قدر على رياضتهم وتذليل جانبهم حتى رضخوا له واستقادوا، فذلك وأيم الله بطل كبير. ولولا ما أبصروا فيه من آيات النبل والفضل لما خضعوا له ولا أذعنوا، وكيف وقد كانوا أطوع له من بنانه، وظنى أنه لو كان أتيح لهم بدل محمد قيصر من القياصرة بتاجه وصولجانه لما كان مصيبًا من طاعتهم مقدار ما ناله محمد فى ثوبه المرقع بيده، فكذلك تكون العظمة، وهكذا يكون الأبطال».
وقد حاولت الأقلام الاستشراقية المغرضة أن تنفث سمومها فى رسول الإسلام حين ألصقت فيه- زورًا وبهتانًا- تهمة الشهوانية وتهالكه على النساء… يقول مونتجمرى وات فى كتاب «محمد فى المدينة»: «وهناك اتهام أوروبى مسيحى لمحمد بأنه شهواني، أو أنه، بلغة القرن السابع عشر الفظة «فحاش مسنّ» غير أن هذه التهمة تسقط إذا فحصناها على ضوء الأفكار السائدة فى عصر محمد، كان الفكر الإسلامى فى أول ظهور الإسلام يميل إلى تضخيم شخصية النبى ورفعها فوق مستوى البشر، ويوجد حديث يقول (إن محمدًا قد أعطى من قوة الرجولة ما يجعله يستطيع أن يقسم ليلته بين جميع نسائه) ولا شك أننا هنا بصدد حديث موضوع؛ لأن الحديث العادى يقول بأن محمدًا كان يخصص ليلة لكل واحدة من نسائه، ونستطيع على كل حال أن نحكم من وراء ذلك على موقف بعض أتباع محمد منه. كان المسلمون الأول سيئي الظن بالعزوبية، وكانوا يعارضونها فى كل مناسبة حتى الزهاد فى الإسلام كانوا عادة متزوجين».
ويناقش الباحث الفرنسي- المستشرق إتيين دينيه (٢٨ مارس ١٨٦١ - ٢٤ ديسمبر ١٩٢٩، باريس، رسام مستشرق فرنسي)، فى كتابه: «محمد رسول الله» من يعيب على الرسول حبه النساء بقوله: «كان محمد يحب النساء، وقد عاب عليه الكثير من الأعداء ذلك. وحقًا كان محمد رجلًا بكل ما فى الكلمة من معانٍ خلقية ومادية، ورجولته امتازت بالعفة التى لا تتعارض مع أسباب اللذة البريئة المجردة من الدنس، وعلى منواله سلك العرب الذين يمتازون حتى أيامنا هذه بالعفة والحياء الخاليتين من كل تكلف ورياء، لا كحياء المغالين فى الدين وعفتهم المصطنعة المدعاة.
وإذا كان محمد قد عقد على ثلاث وعشرين زوجة فإنه لم يتصل إلا باثنتى عشرة منهن، أما الأخريات فتزوجهن لأسباب سياسية محضة، إذ كانت كل القبائل ترغب فى شرف مصاهرته. وقد كثرت عليه الطلبات فى شأن ذلك، ويروى أن عزة أخت دحية الكلبى ماتت من شدة الفرحة عندما نبئت أن الرسول قبل الزواج بها، وقد كان الرسول يعطف على النساء جميعًا، وحاول فى كل مناسبة أنصافهنَّ. فحرم أول ما حرم وأد البنات، تلك العادة القبيحة القاسية، ثم وضع حدًا لتعدد الزوجات، فجعل العدد الأقصى منهن أربعًا، وزاد على ذلك أنه نصح المؤمنين بالتفكير (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ).
ومن الأحاديث المنسوبة إليه: « أبغض الحلال إلى الله الطلاق»، وأتبع ذلك بأن منح المرأة حق المطالبة بالطلاق إن لم يوفِّ الرجل بواجباته الزوجية… وبفضل تشريعاته الحكيمة أصبحت البنت البالغ تستشار قبل زواجها، وأصبح المهر لا يعطى للأب بل للعروس نفسها، وقد وصف أعداء الإسلام تلك السنة الحكيمة بأنها: «شراء للمرأة». وهم لم يسمعوا، فيما أظن، ذلك الجواب المفعم الذى يمكن أن يرد به المسلمون عليهم حينما يقولون لهم: إن المهر فى بعض الأقطار الغربية يدفعه والد البنت إلى رجلها!. وفوق ذلك، فالمسلم مكلف بسائر حاجات البيت دون أن يكون له أى حق فى التصرف فى مال امرأته، ومنح الرسول المرأة كذلك حقًا فى الميراث. وحقها فيه: نصف حق أخيها الذكر؛ وذلك لأن المرأة لا تدفع مهرًا كالرجل وليست مكلفة بحاجات البيت، وهى فى مواضع أخرى تأخذ أكثر من الرجل».
يقول الباحث والروائى الإنجليزي ويلكى كولنز (٨ يناير ١٨٢٤ - ٢٣ سبتمبر ١٨٨٩)، فى كتابه: «جوهرة القمر»: «لقد جاء محمد بصيانة النساء وحثهن على العفاف، وحذر من السير على خلافهما، مشيرًا إلى ما فى هذين من النقص والخسة، وكم لمثل هذا من نظير فى شريعته السامية».
ويقول المؤرخ الأمريكى واشنطون إرفنج: «كان الرسول فى كل تصرفاته ناكرًا ذاته، رحيمًا، بعيدًا عن الكبر فى الثراء والمصالح المادية، فقد ضحى بالماديات فى سبيل الروحانيات».
ويؤكد المستشرق الإسبانى جان ليك (١٨٢٢م-١٨٩٧م) فى كتابه: «العرب»، هذه الحقيقة، بقوله: «وحياة محمد التاريخية لا يمكن أن توصف بأحسن مما وصفها الله نفسه بألفاظ قليلة، بين بها سبب بعث النبى محمد (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، وقد برهن بنفسه على أن لديه أعظم الرحمات لكل ضعيف ولكل محتاج إلى المساعدة، فقد كان محمد رحمة حقيقية لليتامى والفقراء وأبناء السبيل والمنكوبين والضعفاء والعمال وأصحاب الكد والعناء، وإنى بلهفة وشوق لِأن أصلى عليه وعلى أتباعه».
ويقول المستشرق البريطانى لين بول فى مؤلفه: «رسالة فى تاريخ العرب» متحدثًا عن سجايا الخلق المحمدي: «إن محمدًا كان يتصف بكثير من الصفات كاللطف والشجاعة وكرم الأخلاق، حتى إن الإنسان لا يستطيع أن يحكم عليه دون أن يتأثر بما تطبعه هذه الصفات فى نفسه، ودون أن يكون هذا الحكم صادرًا عن غير ميل أو هوى، كيف لا وقد احتمل محمد عداء أهله وعشيرته سنوات بصبر وجلد عظيمين، ومع ذلك فقد بلغ من نبله أنه لم يكن يسحب يده من يد مصافحه حتى لو كان يصافح طفلًا، وأنه لم يمر بجماعة يومًا من الأيام رجالًا كانوا أم أطفالًا دون أن يسلم عليهم، وعلى شفتيه ابتسامة حلوة، وبنغمة جميلة كانت تكفى وحدها لتسحر سامعيها، وتجذب القلوب إلى صاحبها جذبًا..".
ويضيف "بول": "وقد كان محمد غيورًا ومتحمسًا، وما كانت حماسته إلا لغرض نبيل ومعنى سام، فهو لم يتحمس إلا  إذا كان ذلك واجبًا مفروضًا لا مفر منه، فقد كان رسولا من الله، وكان يريد أن يؤدى رسالته على أكمل وجه، كما أنه لم ينسَ يومًا من الأيام كيانه أو الغرض الذى بعث من أجله، دائمًا كان يعمل له ويتحمل فى سبيله جميع أنواع البلايا، حتى انتهى إلى إتمام ما يريد».
وأما الكاتب الإنجليزي السير وليم موير؛ فيتناول فى مؤلفه: «حياة محمد» سجايا الرسول وشمائله ولين عريكته وتعامله مع الأطفال، فيقول: "ومن صفات محمد الجليلة الجديرة بالذكر، والحَريَّة بالتنويه، الرقة والاحترام اللذان كان يعامل بهما أصحابه، حتى أقلهم شأنًا، فالسماحة والتواضع والرأفة والرقة تغلغلت فى نفسه، ورسخت محبته عند كل من حوله، وكان يكره أن يقول لا، فإن لم يمكنه أن يجيب الطالب على سؤاله، فضل السكوت على الجواب..".
ويضيف "موير": "ولقد كان- محمد- أشد حياء من العذراء فى خدرها، وقالت عائشة رضى الله عنها: وكان إذا ساءه شيء تبيَّنا ذلك فى أسارير وجهه، ولم يمسَّ أحدًا بسوء إلا فى سبيل الله، ويؤثر عنه أنه كان لا يمتنع عن إجابة الدعوة من أحد مهما كان حقيرًا، ولا يرفض هدية مهداة إليه مهما كانت صغيرة، وإذا جلس مع أحد أيًا كان لم يرفع نحوه ركبته تشامخًا وكبرًا، وكان سهلًا لين العريكة مع الأطفال، لا يأنف إذا مر بطائفة منهم يلعبون أن يقرئهم السلام، وكان يشرك غيره فى طعامه».
ويتناول الباحث والمؤرخ  الفرنسى كاردفو (١٨٧٢م-١٩٣٣م) جانبًا من بساطة الرسول ولين طبعه وسهولة خلقه مقرونًا برجاحة العقل واتزان التفكير؛ فيقول فى كتابه «العرب»: «ومن المعروف عن -محمد- أنه مع أمِّيته كان أرجح الناس عقلًا، وأفضلهم رأيًا، دائم البشر، مطيل الصمت، لين الجانب، سهل الخلق، يكثر الذكر ويقلُّ اللغو، يستوى عنده فى الحق القريب والبعيد، والقوى والضعيف، يحب المساكين، لا يحقر فقيرًا لفقره، ولا يهاب ملكًا لملكه، يؤلف أصحابه ولا ينفرهم، ويساير من جالسه أو قاومه، ولا يحيد عمن صافحه حتى يكون الرجل هو المنصرف، يجلس على الأرض، ويخصف النعل، ويرقع الثوب».
ومن بين أولئك المنصفين الذين قدروا الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم- حق قدره، المؤرخ المستشرق الفرنسى سيديو، الذى أعطى الحضارة الإسلامية حقها، فيقول: «من التجنى على حقائق التاريخ ما كان من عزو بعض الكتاب إلى محمد القسوة والجبن. فقد نسى هؤلاء أن محمدًا لم يألُ جهدًا فى إلغاء عادة الثأر الموروثة الكريهة التى كانت ذات حظوة لدى العرب، كحظوة المبارزات بأوروبا فيما مضى. وكأن أولئك الكتاب لم يقرأوا آيات القرآن التى قضى محمد فيها على عادة الوأد الفظيعة...".
ويضيف "سيديو": "وكأنهم لم يفكروا فى العفو الكريم الذى أنعم به على ألد أعدائه بعد فتح مكة، ولا فى الرحمة التى حبا بها كثيرًا من القبائل عند ممارسة قواعد الحرب الشاقة، ولا إلى ما أبداه من أسف على بعض الأمم الشديدة، وكأنهم لم يبصروا أن الأمة أم القبائل العربية كانت تعد الانتقام أمرًا واجبًا، وأنها ترى من حق كل مخلص أن يقتل من غير عقاب من يكون خطرًا عليها ذات يوم...".
ويتابع المؤرخ المستشرق الفرنسى بقوله: "وكأنهم لم يعلموا أن محمدًا لم يسئ استعمال ما اتفق له من السلطان العظيم قضاء لشهوة القسوة الدنيئة، وأنه لم يألُ جهدًا – فى الغالب – فى تقويم من يجور من أصحابه، والكل يعلم أنه رفض _بعد غزوة بدر_ رأى عمر بن الخطاب فى قتل الأسرى، وأنه عندما حل وقت مجازاة بنى قريظة ترك الحكم فى مصيرهم لحليفهم القديم سعد بن معاذ، وأنه صفح عن قاتل عمه حمزة، وأنه لم يرفض _قط _ ما طلب إليه من اللطف والسماح»
فيما رد الباحث الإنجليزى توماس كارليل على مقولة أن الإسلام لم ينتشر إلا بحد السيف،  بقوله: «ولقد قيل كثيرًا فى شأن نشر محمد دينه بالسيف، فإذا جعل الناس ذلك دليلًا على كذبه، فشد ما أخطأوا وجاروا... بل إن سبب انتشار ذلك الدين، أنه حق… غير أننا فيما يتعلق بنفى الإرهاب عن الخلق المحمدي، فإن النضال البطولى الإنسانى للرسول إن دل على شيء فعلى عظمة النبى وقوة شخصيته وصبره العظيم. فما أبعده عن الضعف والجبن والقسوة والإرهاب. لقد كان القوى الكبير فى جميع مواقفه، جمع الرحمة إلى الحزم، واللين إلى الثبات، حتى تمكن أن ينشر رسالة ربه التى صدع بها».

شارك