الفاتيكان وتركيا صدام محتوم بعد صرخة فرنسيس ضد إبادة الأرمن

الثلاثاء 14/أبريل/2015 - 02:24 م
طباعة الفاتيكان وتركيا
 
كان الصدام بين تركيا والفاتيكان متوقعا منذ إعلان البابا فرنسيس أنه سوف يحيي بنفسه الذكرى المائة لإبادة تركيا للأرمن، ورغم هذا التوقع فإن مجريات الأحداث اشتعلت بين الدولتين بصورة تشير إلى أزمة قد تترك آثارا كبيرة في العلاقة بينهما، خاصة بعد أن دخلت عدة دول أوربية على الخط رافضة أسلوب أردوغان في التعامل مع الفاتيكان؛ الأمر الذي يعقد الموقف بصورة كبيرة. 
بدأت الأحداث الأخيرة عندما قام البابا فرنسيس أول أمس الأحد بإحياء الذكرى الـ 100 للمجازر الأرمنية، وقال: إنها أول إبادة جماعية في القرن العشرين، وحث المجتمع الدولي على الاعتراف بها على هذا الشكل. ويُعد ذلك إعلاماً سياسياً ناسفاً ضد تركيا بدون مواربة. والبابا فرنسيس الذي له علاقات وثيقة مع المجتمع الأرمني منذ أن كان رئيساً لأساقفة بونس أيرس كان الكاردينال السابق خورخي ماريو بيركوليو وثيق الصلة بشكل خاص مع الطائفة الأرمنية، وأشار في عدة مناسبات إلى الإبادة الجماعية الأرمنية. ودافع عن إعلانه هذا بالقول: إن من واجبنا تكريم ذكرى الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال والكهنة والأساقفة الذين قُتِلوا من دون أية مبالاة على يد الأتراك العثمانيين.
وأضاف، في بداية قداس يوم الأحد الذي أقيم وفقاً للطقس الأرمني الكاثوليكي في كاتدرائية سان بيتر الكبرى بالفاتيكان؛ حيث تم إحياء الذكرى المئوية للمجازر: إن إنكار أو إخفاء الشر هو مثل السماح للجرح بالاستمرار بالنزف من دون تضميد. 
وفي رسالة لاحقة موجهة لجميع الأرمن، دعا البابا جميع رؤساء الدول والمؤسسات الدولية إلى الاعتراف بالحقيقة، وبما حدث دون التنازل أو الغموض أو التسوية.
ويُقدر المؤرخون أن حوالي 1.5 ملايين أرمني قُتلوا على يد الأتراك العثمانيين في فترة الحرب العالمية الأولى، وهذ الحدث يُنظر إليه على نطاق واسع من قِبل المفكرين على أنه أول إبادة جماعية في القرن العشرين.
ومع ذلك ترفض تركيا تسميتها إبادة جماعية، وتصر على أن عدد القتلى مبالغ فيه وتم تضخيمه بشكل كبير، وأن الذين قُتلوا كانوا ضحايا للحرب الأهلية والاضطرابات، وقد مارست الضغط بشدة لمنع البلدان، بما في ذلك الكرسي الرسولي، من الاعتراف رسمياً بأن مجازر الأرمن كانت إبادة جماعية.
وكان لكلام البابا فرنسيس تأثير فوري في كاتدرائية القديس بطرس، وعزز من موقف رئيس الكنيسة الأرمنية الرسولية البطريرك آرام الأول، إذ شكر البابا لإدانته الواضحة، وقال: إن الإبادة الجماعية هي جريمة ضد الإنسانية تتطلب التعويض.
وأضاف البطريرك آرام الأول، باللغة الانكليزية: إن القانون الدولي يُحدد بوضوح الترابط الوثيق بين الإدانة والاعتراف والتعويض عن الإبادة الجماعية. وانتهى القداس وسط استحسان وتصفيق الحاضرين.

انتهاك العدالة

انتهاك العدالة
تحدث البطريرك آرام الأول كما لو كان في اجتماع سياسي حاشد، وقال: إن قضية الأرمن هي قضية عدالة، وإن العدالة هي هبة من الله؛ ولهذا فإن انتهاك العدالة هو خطيئة ضد الله.
اعترف العديد من الدول الأوربية أن تلك المجازر هي إبادة جماعية، ولكن إيطاليا والولايات المتحدة، على سبيل المثال، تجنبتا استخدام هذا المصطلح رسمياً وأعطت الأهمية إلى كون تركيا بلداً حليفاً لهما. كذلك حدد الكرسي الرسولي أيضاً أهمية كبيرة لعلاقته مع الأمة الإسلامية المعتدلة، وخاصة مطالبته من القادة المسلمين إدانة عمليات ذبح المسيحيين على أيدي المتطرفين في مناطق العراق وسوريا. وفرنسيس ليس أول بابا يطلق على تلك المجازر الإبادة الجماعية، ففي كلمته أشار إلى إعلان عام 2001 الذي وقعه القديس يوحنا بولس الثاني ورئيس الكنيسة الأرمنية كارنكين الثاني، والذي نصّ على أن الموت الذي حدث للأرمن يُعتبر أول إبادة جماعية في القرن العشرين. وتجنب البابا الفخري بيندكس السادس عشر، الذي توترت علاقته مع تركيا والعالم الإسلامي، تجنب استخدام كلمة إبادة جماعية خلال فترة توليه الباباوية.
كان لتعبير البابا فرنسيس أهمية كبيرة؛ حيث نطق بهذه الكلمات خلال القداس الطقسي الأرمني في كاتدرائية القديس بطرس بمناسبة الذكرى المئوية للمجازر الأرمنية، وبحضور بطريرك الكنيسة الأرمنية الرسولية، والرئيس الأرمني سيرج ساركسيان، الذي جلس في المكان المخصص للشخصيات البارزة في الكاتدرائية.
بقيت قضية الإبادة الجماعية موضوع جدل لفترة طويلة. وعرّفت الأمم المتحدة في عام 1948 الإبادة الجماعية على أنها القتل والأعمال الأخرى التي تهدف إلى تدمير جماعة قومية أو اثنية أو عرقية أو دينية. وعليه يجب أن يُطلق على الكثير من النزاعات التي ينتج عنها قتل جماعي بالإبادة الجماعية.

الإبادات

الإبادات
وفي ملاحظاته في قداس يوم الأحد، قال البابا فرنسيس: كانت المجازر الأرمنية هي الأولى من بين ثلاث عمليات إبادة جماعية واسعة النطاق وغير مسبوقة في القرن الماضي ثم تبعتها المحرقة (الهولوكست) ثم الاستالينية ( فترة حكم استالين)، وتبع ذلك عمليات قتل جماعي في كمبوديا ورواندا وبورندي والبوسنة.
وأضاف البابا: يبدو أن الأسرة البشرية ترفض أن تتعلم من أخطائها الناجمة عن قانون الإرهاب. وهكذا، هناك اليوم أيضاً أولئك الذي يحاولون القضاء على الآخرين بمساعدة عدد قليل ومع الصمت المتواطئ للآخرين الذين يقفون ببساطة متفرجين.
وكثيراً ما ندد البابا فرانسيس بالصمت المتواطئ للمجتمع الدولي في مواجهة المجازر في العصر الحديث، والتي يقوم بها المتشددون ضد المسيحيين وأقليات دينية أخرى.

اشتعال الأزمة

اشتعال الأزمة
وعلى إثر هذه الكلمات النارية استدعت تركيا سفيرها لدى الفاتيكان محمد باجاجي، الذي وصل اليوم الثلاثاء لتركيا بغرض التشاور على خلفية وصف البابا فرنسيس مذابح الأرمن عام 1915، بأنها "أول إبادة جماعية في القرن العشرين"،
وكانت وزارة الخارجية التركية قد استدعت سفير الكرسي الرسولي لدى أنقرة رئيس الأساقفة أنطونيو لوشيبيللو إلى مقر الوزارة، والتقى مساعد مستشار الخارجية. وأعلنت له رفضها تصريحات البابا فرنسيس التي "لا يمكن قبولها لأنها مزاعم لا أساس لها من الصحة"، وطالبت الخارجية التركية سفير الفاتيكان بتوضيح حول هذه التصريحات.
وعلى صعيد آخر اعتبر بيان أصدرته وزارة الخارجية التركية، بأن هذه التصريحات لا تتفق مع الحقائق التاريخية والقانونية، وأن تركيا "ترفض حديث البابا الذي وقع فيه تحت تأثير الرواية الأرمينية، كما ترفض التمييز الديني وفتح طريق العداء التاريخي والنزاعات، وطالبت بإحلال لغة السلام"، موضحاً أن تصريحات البابا تمثل "خيبة أمل وحزنا كبيرين لتركيا".

إيطاليا تدخل المواجهة

إيطاليا تدخل المواجهة
رغم أن إيطاليا ترفض استخدام كلمة الإبادة؛ لعلاقتها الاقتصادية القوية مع تركيا إلا أنها دخلت على خط المواجهة في الأزمة المثارة حاليا؛ حيث انتقدت الحكومة الإيطالية على لسان وزير خارجيتها، باولو جينتيلوني "حدة النبرة" في الرد التركي على حديث البابا فرنسيس عن "إبادة جماعية" بحق الأرمن من جانب الجنود العثمانيين قبل قرن من الزمن، بحسب وكالة آكي الإيطالية للأنباء.
وأكد جينتيلوني، على هامش مؤتمر حول الاتحاد الأوروبي والمتوسط: "حدة نبرة الأتراك ليس لها مبرر، خاصة وأن وضعنا في الحسبان، حقيقة أنه قبل 15 عاماً، أعرب البابا يوحنا بولس الثاني بصورة مماثلة" لما قاله البابا فرنسيس عن تلك الأحداث.
ولكن كلمات مفوض الشئون الأوروبية في رئاسة الوزراء الإيطالية، ألساندرو غونزي لم تحمل نقداً للرد التركي على الفاتيكان، حيث قال في مداخلة تلفزيونية: "أعتقد شخصياً أنه من غير المناسب أن تتخذ أية حكومة موقفاً رسمياً بشأن هذه المسألة، ولا ينبغي على الحكومة استخدام كلمة إبادة جماعية". وأشار إلى أن هناك التزاماً للحديث مع الحكومة في أنقرة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والأقليات. وأضاف: "نحن نعتقد أنه بوسع الحوار والتفاوض حل مثل هذه المشاكل وليس المواجهة".
ورأى المسئول الحكومي الإيطالي أنه "ليس هناك قراءة مطلقة للتاريخ، وقراءة التاريخ تخلق انقسامات قوية". وأردف غوزي، في إشارة إلى أحداث الأرمن، "بالنسبة لنا كمحترفين للسياسة، من الأفضل أن ننظر إلى مشاكل اليوم السياسية. فلا يمكن لأية حكومة الاعراب عن نفسها بطريقة رسمية" عن تلك الأحداث التاريخية"، "إنها مهمة المؤرخين".

الاتحاد الأوروبي

على صعيد متصل شدد الاتحاد الأوروبي على أهمية العمل على تطبيع العلاقات بين تركيا وأرمينيا، مشيراً إلى أن مفهوم المصالحة يحتل مكاناً هاماً في المشروع الأوروبي.
وأكدت المتحدثة باسم الممثلة العليا للأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي أن الاتحاد يراقب عن كثب ما تقوم به تركيا، وذلك ضمن إطار المفاوضات الجارية منذ عام 2005 بهدف التحاق أنقرة بالركب الأوروبي. كما أكدت أن الاتحاد لا زال ينظر بإيجابية إلى الإشارات التي صدرت عن تركيا سابقاً باتجاه أرمينيا، مشددة على ضرورة تشجيعها.
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قدم في أبريل من العام الماضي عندما كان رئيساً للوزراء، وفي خطوة غير متوقعة وغير مسبوقة، تعازي بلاده إلى "أحفاد الأرمن الذين قتلوا في 1915. وتحدث حينذاك عن "آلام مشتركة". لكن أرمينيا رفضت تعازيه مطالبة بالاعتراف بإبادة الأرمن في تركيا والتعبير عن "الندم" عليها.
وفي سياق متصل رأى المطران جورج يغيايان، رئيس كهنة رعية مار الياس الأرمنية الكاثوليكية في بيروت، أن كلام البابا فرنسيس حول الإبادة الأرمنية، "صرخة حق وجرأة كبيرة"، مشيراً إلى أن تصريح البابا كانت صوت الحقيقة الذي دوّى.
ولفت يغيايان إلى أن من هذه الأجواء تصاعدت الصرخة إلى مختلف شعوب العالم وكانت صرخة العدالة بوجه الظالمين، مشيراً إلى أن البابا أعلن أن الحق والحقيقة والمبادئ ستسود العالم، مؤكداً "إننا شبعنا مآسي وحروب وإبادات". وأشار إلى أن صرخة البابا كانت جريئة جداً، وكان هناك تخل كامل عن الدبلوماسية، موضحاً أن الخطة الأرمنية التي نوقشت هي أن الوحدة هي قوة، لافتاً إلى أن تلك الإرادات لا بد أن تحقق الهدف وهو الاعتراف بما حصل من مآسٍ في التاريخ.
وأكد يغيايان أن تأثير كلام البابا هو معنوي وله تأثير، ولا بد للخير أن يعود، ولا يمكن للشر أَن يغلب الخير، مشدداً على أننا سننهي مطالبنا بالحصول على العدالة ونهضة الشعوب وكبح الظلم الاجرامي الذي تعانيه الشعوب. لافتاً أن كلمة البابا وضعت الأصبع على جرح العالم، وحركت ضمائر العالم بأسره.
وأوضح يغيايان أن استدعاء سفير الكرسي الرسولي في تركيا لا يعني أنه سيتم تراجع قداسة البابا عن موقفه؛ الأمر الذي يؤكده المحللون أن العلاقة بين تركيا والفاتيكان تسير إلى شقاق وفراق مؤكد، فالبابا لن يتراجع وتركيا لن تعترف. 

شارك