الدين في السياسة الخارجية الروسية.. المشهد السوري

الأحد 10/سبتمبر/2017 - 02:06 م
طباعة الدين في السياسة
 
أطلق مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات دراسة جديدة تحت عنوان " الدين في السياسة الخارجية الروسية" تناول فيها الدور الذي يشكله الدين أو ان شئنا الدقة المؤسسات الدينية في السياسة الخارجية الروسية بشكل عام وتجاه الصراع في سوريا بشكل خاص حيث ان هذا الجانب لم يحظى باهتمام كاف من الدارسين والمراقبين ويتمثل في تأثير القيم المسيحية على هذه السياسة والذي يظهر في أحاديث المسئولين الحكوميين وكذلك من خلال أنشطة وتحركات مؤسسات روسية مثل الكنيسة الأرثوذكسية والجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية. وحيث ركزت الدراسة على دور الكنيسة فقد تبين كيف أنها ومنذ بداية الصراع في سوريا نشطت بشكل ملحوظ من خلال الزيارات والتصريحات واللقاءات الدبلوماسية وإصدار البيانات إضافة الى المشاركة في المحافل الدولية بهدف حشد موقف دولي لحماية الاقلية المسيحية وبدعم صريح من وزارة الخارجية الروسية ما يشير الى عودة سياسة حماية الاقليات الدينية التي تبنتها الامبراطورية الروسية في نهاية القرن التاسع عشر في علاقتها بالدولة العثمانية. ولقد أظهرت الامثلة القلية التي تضمنتها صفحات الدراسة أن الكنيسة الأرثوذكسية تمارس اليوم دوراً شبيهاً الى حد كبير بالدور الذي لعبته خلال الامبراطورية الروسية. إن تكرار حديث البطريرك وقادة الكنيسة عما تعرضت له الاقلية المسيحية في العراق من اضطهاد تسبب في تهجير أكثر من ثلثيهم وخشية  أن تتعرض الاقلية المسيحية في سوريا الى نفس المصير يؤكد أن هذه المسألة تمثل أحد الاهداف المباشرة للتدخل العسكري الروسي. ويظهر هذا بشكل واضح في استخدام المسؤولين الروس ذات المفردات التي يستخدمها قادة الكنيسة لوصف معاناة المسيحيين الارثوذوكس بسبب الصراع في سوريا فهي تعد "كارثة حضارية" "تطهير ديني" و"تصفية الوجود المسيحي". فروسيا اليوم تشعر بتحمل مسؤولية حماية المسيحين في الشرق الأوسط امتداداً لدورها التاريخي وكذلك بسبب "تخلي الحكومات الغربية عنهم" نتيجة حسابات سياسية واستراتيجية من جهة وهيمنة القيم العلمانية على توجهاتهم من جهة أخرى جعلتهم يتجاهلون مأساة "أخوتهم في الانتماء الحضاري المسيحي". هذا الدور لا يقتصر على حماية المسيحيين بل يتجاوزه الى حماية الدين المسيحي وهو ما يفسر احتفاء الروس بنجاحهم في جعل العالم يهتم بمسألة "العداء للمسيحية" كما يهتم بالإسلاموفوبيا ومعاداة السامية.
قد يرى البعض أن نشاط الكنيسة في القضايا الدولية ومنها الصراع في سوريا ليس سوى توظيفاً سياسياً لورقة حماية الاقلية المسيحية لتغطية أهداف روسيا الاستراتيجية على المستويين الاقليمي والدولي. وفي مقابل ذلك تحظى الكنيسة بدعم الحكومة الروسية لأنشطتها داخل روسيا. فالدولة تجد في مباركة الكنيسة لتحركاتها الخارجية سنداً شرعياً مهماً يبرر تخصيص الموارد المحدودة لدعم هذه التحركات خاصة في سوريا حيث ترتفع التكلفة البشرية والمالية. الكنيسة في المقابل تحصل على دعم الدولة لتوسيع نشاطها التبشيري وتواصلها مع أتباعها في الخارج وكذلك مواجهة الحركات التبشيرية الغربية التي استهدفت المجتمع الروسي ومجتمعات الدول المحيطة بروسيا وكذلك التصدي لمحاولات نشر القيم العلمانية في المجتمعات الأرثوذكسية باسم حقوق الإنسان.
منطق تبادل المنافع هذا ليس مستبعداً، إلا أنه ليس كافٍ لتفسير النشاط غير المنقطع للكنيسة وسعيها لاستثمار كافة المناسبات الداخلية والخارجية لطرح قضية حماية الأقلية المسيحية في سوريا والشرق الاوسط بشكل عام والدعم الذي تلقاه جهودها هذه من قبل أجهزة الحكومية الروسية وخاصة وزارة الخارجية. إن التفسير الأكثر ترجيحاً لدور الكنيسة وترحيب الحكومة الروسية بهذا الدور يتجاوز تبادل المصالح ويرتبط بسؤال الهوية الذي يواجه الروس منذ سقوط الاتحاد السوفيتي. فروسيا ومنذ ذلك الحين تحاول تحديد هويتها الجديدة من خلال استحضار تاريخها الامبراطوري ومكوناته المعنوية ويأتي في مقدمتها الارثوذوكسية والقومية الروسية اللتان كانتا ركيزتان أساسيتان من ركائز القيصرية الروسية وتحديداً في القرن التاسع عشر. واليوم وهي تحاول استعادة مكانتها على الساحة الدولية كقوة كبرى لا ترى روسيا إمكانية تحقق هذا المسعى دون أن يكون لديها رسالة عالمية تبرر حضورها الدولي وتكون بديلاً عن الايدلوجية الشيوعية. هذه الرسالة لا يجدها الروس سوى بالعودة الى تاريخهم حيث تبرز الارثوذوكسية التي ميزت الأمة الروسية عن محيطها المتعدد العرقيات والثقافات. إن الاحاديث المتكررة للقيادة الروسية حول النظام الدولي تكشف تصوراً للصراع الدولي الراهن يتجاوز المفهوم التقليدي للصراع على القوة ومناطق النفوذ فهو يمتد الى محاولات فرض أنظمة قيمية حضارية باعتبارها قيم عالمية مشتركة. موسكو ترى حضوراً كبيراً لهذا البعد القيمي في السياسة الدولية ما يبرر استدعاء تاريخ روسيا وقيمها التي ميزتها وأسست نموذجاً حضارياً لا يمكن السماح بتجاوزه أو تشويهه بدعوى نشر القيم الانسانية المشتركة.             
ما حاولت هذه الورقة البحثية بيانه هو أهمية إدراك الأبعاد القيمية ذات المرجعية الارثوذكسية لفهم السياسة الخارجية الروسية خاصة تجاه الصراع في سوريا. فهذه القضية التي استهلكت الكثير من جهود الدبلوماسية الروسية خلال الخمس سنوات الماضية واستقرار الموقف الروسي رغم كل الضغوط يؤكدان أن السياسة الخارجية الروسية تنطلق من رؤية شاملة تجمع متغيرات مادية (جيواستراتيجية) وأخرى معنوية منبعها الارث التاريخي والحضاري للأمة الروسية اللذان اسهمت القيم المسيحية الارثوذوكسية في تشكيلهما. دون هذه الرؤية الشاملة سيكون صعباً فهم التصلب الروسي تجاه الصراع الذي أودى بحياة مئات الالف وشرد الملايين وتسبب في تدمير أجزاء كبيرة من سوريا.

شارك