عبد الباسط سلامة هيكل والدّولة والمقدّس في فكر محمد عبده

الإثنين 29/أبريل/2019 - 12:37 م
طباعة عبد الباسط سلامة حسام الحداد
 
كثيرا ما يدور الجدل حول الدولة والمقدس في الفكر الإسلامي، ولضبط المفاهيم بداية يقدم لنا عبد الباسط سلامة هيكل وهو باحث وأكاديمي مصري، متخصص في تحليل بنية الخطاب الديني، يعمل أستاذا للعلوم العربية وآدابها بجامعة الأزهر، له عدة دراسات وأبحاث منشورة، من بينها: كتاب "باب الله الخطاب الديني بين شقي الرحا"، "الحب والحقد المقدس حوار الجد والحفيد، عبد الوهاب عزّام وأيمن الظواهري"، "إصلاحيون في محراب الفكر الإسلامي"، "آليات الكتابة الأكاديمية"، "المسكوت عنه من مقالات تجديد الخطاب الديني" و"إشكاليات نقدية".
في دراسته "الدولة والمقدس في فكر محمد عبده" ضبطا لمفهوم الإسلام نفسه حيث يقول " فمفهوم الإسلام في القرآن بدلالتيه العامة والخاصة لا يتفق مع إسلام الجنسية في الاستعمال المعاصر، والإسلام في دلالته العامة في لغة الوحي هو الشرع والملّة والدين أطلق على ملل الأنبياء جميعا من آدم إلى محمد عليهم السلام؛ فالأنبياء جميعا ومن تبعهم مسلمون، فالإسلام اسم قديم قدم الحياة الدينية، رسالته تحقيق الهداية بتصفية الأرواح وتخليص العقول من شوائب الاعتقاد بالسلطة الغيبية للمخلوقات، وقدرتها على التصرف في الكائنات؛ لتسلم من الخضوع والعبودية لمن هو من أمثالها. كما استعمل القرآن الكريم الإسلام بمفهومه الخاص اسما على ديانة محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن تبعه على دينه.
أما إسلام الجنسية أو الإسلام العرفي في لغة المسلمين وغير المسلمين في العصر الحديث، فهو اسم يُوضع في خانة الديانة، أو هو ما عليه هؤلاء الأقوام المعرفون بالمسلمين من عقائد وعادات وتقاليد وأعمال، وأصبح الإسلام متغيّرا تبعا لفهم وسلوك مسلمي كل منطقة، باختصار: "الدين ما عليه المتديّنون؛ "فالبوذية مفهومها ما عليه الناس المعرفون بالبوذية، واليهودية: ما عليه الشعب الذي يطلق عليه اسم اليهود، وهكذا.. وينفصل -تدريجيا- الدين بهذا المفهوم من خلال ممارسات أتباعه عن أصل قواعده ومقاصده سواء كانت سماوية أو وضعية، وتكون العبرة بما عليه أهله، لا بذلك الأصل المجهول أو المعلوم."
ويعد هذا المدخل مدخلا مهما لتفكيك العلاقة بين الدولة والمقدس في فكر الامام محمد عبده كما يقدمه الكاتب حيث يؤسس بداية لكيفية تحول الإسلام إلى جنسية حيث يقول "وجدير بالذكر أنه نُقل عن الصحابة أنهم لم يفهموا "تحريف" التوراة بتحريف نصّها كما يظنّ المسلم المعاصر، بل بتحريف اليهود لتأويلها، "ما يقال من أن علماءهم بدَّلوا مواضع من التوراة بحسب أغراضهم في ديانتهم، فقد قال ابن عباس على ما نقل عنه البخاري في صحيحه أن ذلك بعيد وقال معاذ الله أن تعمد أمة من الأمم إلى كتابها المنزّل على نبيها فتبدّله أو ما في معناه، قال وإنما بدّلوه وحرّفوه بالتأويل، ويشهد لذلك قوله تعالى وعندهم التوراة فيها حكم الله ولو بدلوا من التوراة ألفاظها لم يكن عندهم التوراة التي فيها حكم الله، وما وقع في القرآن الكريم من نسبة التحريف والتبديل فيها إليهم فإنما المعنى به التأويل."
وترتّب على تحويل الإسلام إلى جنسية ما نعيشه اليوم من تعدد مفهوم الإسلام بتعدد ممارسات المتدينين التي باتت تُوصف بالإسلام الجهادي، والإسلام السياسي، وغيرها.. و"لو أقيم الإسلام على أصله واستتبع مع ذلك رابطة الجنسية لم تكن هذه الرابطة إلا رابطة خير لأهلها غير ضارة بغيرهم لبنائها على قواعد العدل والفضل والرحمة والإحسان، ولكن جعل الجنسية هو الأصل مفسد للدين الذي هو مناط سعادة الدارين."
وينتقل بنا الكاتب إلى حقّ التشريع بين الله ورجال الدين حيث يقول "نزل القرآن الكريم للقضاء على نفوذ الكهنة والأحبار التي استمدت سلطتها من التحدّث باسم الإله، وليس لاستبدالها بنفوذ جديد لرجال الدين، فالإسلام لا يعرف الوساطة الإنسانية في الاتصال بالله، ولا الوساطة الإلهية في تفاعل الإنسان مع الكون، واحتفظ الله بحق التشريع لذاته، وأنكر أن يكون لأيّ رجل من رجال الدين حقًا في تحريم أو إيجاب، وجعل مثل هذا الادعاء سببًا للإشراك به، وجعل الذين يتبعون هذا الصنف من رجال الدين كمن اتخذ أربابا من دون الله، ليس لاعتقادهم أنهم آلهة العالم –بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم.
ويرى الكاتب أننا أمام مقدّمة أولى تجعل التشريع الديني حقا إلهيا لا يقترب منه الإنسان في تعريف الله بنفسه عقيدة، وفي طريقة الاتصال به عبادة. وهنا يتفق النيسابوري والرازي ومحمد عبده وخلف الله مع الخطاب الظاهري السلفي، إلاّ أنهم سرعان ما يفترقون عنه في المقدّمة الثانية التي تجعل الإنسان مشرّعا بمقتضى تفويض الله له في أموره الدنيوية المسكوت عنها من الوحي قطعي الثبوت قطعي الدلالة.
فنحن أمام "دينيّ" ثابت يُشرّع فيه الله للإنسان، و"دنيويّ" متغيّر يُشرّع فيه الإنسان بمقتضى تفويض الله له، فدائرة التشريع الإلهي التي لا يتدخّل فيها الإنسان مقيّدة بدائرة العقيدة والعبادة؛ لأنها تتعلّق بذاته حقيقة، فتكون العقيدة، وطريق اتصال الإنسان بالله فتكون العبادة، "العقيدة إنما تدور حول ما هو ثابت أزلي خالد وهو الله سبحانه وتعالى: ذاته وصفاته. وإن الحياة الدينية، باعتبارها عبادات إنما تتم على الوجه الذي أراده الله منّا، والله سبحانه وتعالى هو الذي نسخ بعض العبادات في الأديان السابقة، وجاء بخير منها في الإسلام." ويدخل فيها ما جاء من نص قطعي الثبوت والدلالة في المعاملات.
وما يتعلق بالإنسان في علاقته بالحياة، فسكت الله عن تفاصيله ليس نسيانا ولا قصورا بل قصدا لطبيعة الإنسان المتأثرة ببيئته زمانا ومكانا وتطور أفكاره نتيجة خبرات متنامية بالحياة وكشف أسرارها، فالإنسان في حركة دائمة وتفكير مستمر بدافع الحاجة والمصلحة، غاية ما تدخل فيه الوحي في هذا الجانب هو وضع مبادئ عامة. "فالحياة المدنية أو المعاملات، إنما تتغير لارتباطها بالإنسان، والإنسان غير أزلي ولا خالد، وإنما متغير.." وتغيّر المجتمعات البشرية المستمرّ دفع الأصوليّين أنفسهم لوضع قاعدة تقول بتغيّر الأحكام تبعا لتغيّر الأزمان.

وفي اجابة الكاتب على السؤال المهم: لماذا لا يكون التشريع الإلهي شاملا لكل نواحي الحياة؛ لتكون الحاكمية لله بفهم المتدين الظاهري في قراءة آيات مثل "إن الحكم إلاّ لله"، ولتكون شمولية الإسلام المستوعبة لكل تفاصيل الحياة بما في ذلك الدولة؟؟
يقول الكاتب: "أن هذا الفهم الحرفي المغلوط لفكرة شمولية الإسلام لكل تفاصيل حياة الإنسان هو محاولة لصبّ الحياة عبر مسيرتها الطويلة في قالب واحد حتّى تطابق رؤية الإسلام لتفاصيل الحياة، وهذا لا يستقيم وحيا ولا عقلا؛ لأنها محاولة لتثبيت المتغيّر، وتجميد المتحرّك وهو الحياة؛ لذا اكتفى الوحي من علاقة الإنسان بالدنيا (الكون) بالمبادئ العامة التي تحمي كلا منهما من الآخر، فعلاقة الإسلام بالدنيوي مجموعة من القيم مثل العدل والمساواة والحرية التي تتشكّل في آليات متطورة تبعا للإنسان، وهذا يتسق مع خصائص الإسلام القرآني في عشرات الآيات القرآنية التي قدّمت الإسلام بوصفه ديانة إنسانية عالمية واقعية (قابلة للتطبيق)، إذ كيف للثابت وهو الدين أن يُجاري تفاصيل المتغيّر زمانا ومكانا، وهو حياة الناس إذا لم يكن ذلك في منظومة القيم وحدها!!
ويؤكد الكاتب أن سكوت الله -عز وجل- عن نظام الشورى عن قصد. فسبحانه لا يضلّ ولا ينسى، فهو من الأمور التي فوّض الله المسلمين فيها؛ فالناس تُشرّع لأنفسها في أمور حياتها، لأنهم هم أصحاب المصلحة في إقامة مثل هذا النظام، ولهم أن يقيموه على الأساس الذي يجعله صالحًا للزمان الذي يعيشون فيه وللوطن الذي ينتسبون إليه.
إذا كانت أمور سياسة حياة الناس يُرجع إليهم فيها، والوحي يتنزل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- فكيف نُصادر تلك الممارسة اليوم، وقد توقف إرسال الأنبياء، وانقطع الوحي، إذا تأملنا مناسبة نزول أمر الله "وشاورهم في الأمر" ستجدنا أمام موقف أخفقت فيه "الشورى" حين انحاز الرسول إلى رأي القائلين بالخروج من المدينة لمواجهة أهل مكة فكانت النتيجة غير مرضية، ورغم ذلك جدّد القرآن الكريم الثقة في المبدأ، وأمر به بما يزيده ترسيخا، وتوقُّف الوحي عند المبدأ وسكوته عن آليات تطبيقه، إنما هو فرصة للاستفادة من المنجز الحضاري الإنساني العام المتطوّر في هذا الميدان، لكن تجربة الجماعات الدينية -في ظني- فعلت نقيض ذلك فاستدعت كلمة الشورى؛ لتضفي على ممارستها شرعية دينية، دون أدنى تركيز على تفعيل آليات شورى جيدة؛ لأنها لا تهتم بتطوير وتجديد بنيتها الفكرية قدر اهتمامها بالقشرة الظاهرية لإكساب ممارستها وصف الإسلامية... فتطلق اسم الشورى على ممارسات قاصرة في تبادل الرأي.
ويرى الكاتب أن الأولى إذا كان الرأي والمشاركة المجتمعية لصناعة القرار في أمورنا الدنيوية أمر به الإسلام دون تفاصيل أو آليات أن نستفيد في آليات صناعتها من تجارب الأمم الأسبق إلى التمدن في طرق تواصلها مع شعوبها والاستماع إليهم حتى نكون محققين للمبدأ.

شارك