خطة ترامب في غزة تحت مجهر التحليل السياسي

الثلاثاء 30/سبتمبر/2025 - 03:00 م
طباعة خطة ترامب في غزة روبير الفارس
 
في الوقت الذى رحبت فيه 8دول عربية وإسلامية، بإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن مقترحه الذي يتضمن إنهاء الحرب الإسرائيلية على غزة، وإعادة إعمار القطاع، ومنع تهجير الشعب الفلسطيني، ودفع عجلة السلام الشامل، وكذلك إعلانه بأنه لن يسمح بضم الضفة الغربية.كما أكدوا التزامهم المشترك بالعمل مع الولايات المتحدة لإنهاء الحرب في قطاع غزة من خلال اتفاق شامل يضمن إيصال المساعدات الإنسانية الكافية إلى القطاع دون قيود، وعدم تهجير الفلسطينيين، وإطلاق سراح الرهائن، وإنشاء آلية أمنية تضمن أمن جميع الأطراف، والانسحاب الإسرائيلي الكامل، وإعادة إعمار غزة.
تعددت اراء المحللين والسياسين لمقترح الرئيس الامريكي ترامب مابين رافض ومؤيد ومطال بتسليم سلاح حماس لوقف الابادة .
تحليل مبدئي
فمن خلال نص المؤتمر الصحفي في البيت الأبيض 
والقراءات الأولي للصحف الكبري وشبكات الأخبار الدولية قدم عزت ابراهيم رئيس تحرير الاهرام ويكلي "تحليل مبدئي لإعلان البيت الأبيض بشأن غزة  " يمتاز بالقوة والعمق والرصانة  جاء فيه 
تمثل الليلة التي جمعت ترامب ونتنياهو في البيت الأبيض لحظة 
فارقة، من وجهة نظر ترامب ونتانياهو، إذ صاغت خطاباً مزدوجاً يجمع بين الطموحات الشخصية للزعيمين ومقتضيات محاولة إعادة ترتيب الإقليم بعد حرب غزة. ترامب قدّم نفسه باعتباره صانع السلام الأبدي في الشرق الأوسط، واعتبر أن ما جرى هو “أعظم أيام الحضارة”، رابطاً بين صورته أمام الداخل الأميركي ومكانته التاريخية كزعيم قادر على إنهاء ما استعصى على من سبقوه. نتنياهو من جانبه قدّم هذا الإطار كجزء من “إنجاز الحرب” الذي يحقّق أهداف إسرائيل الأمنية، مع تحويل النقاش عن غزة إلى سردية كبرى عن مواجهة الحضارة للبربرية. هذا التوازي بين الخطابين يكشف أن المشهد الذي رأيناه لم يكن عرضاً أو استعراضا بروتوكولياً بل إعلاناً عن "صياغة جديدة لمعادلة غزة".
في العمق، تعكس هذه اللحظة مزيجاً من الواقعية السياسية والرمزية. ترامب أراد أن يستحضر صورة الملوك والأمراء والرؤساء العرب والمسلمين، ليُظهر أنه يملك شبكة دعم واسعة وليدحض فكرة أن ما يطرحه منحاز كلياً لإسرائيل. فقد كانت إشارته إلى السعودية وقطر والإمارات والأردن وتركيا وإندونيسيا وباكستان ومصر ليست تفصيلة ثانوية، بل ركيزة لخطابه الذي يربط “السلام الأبدي” بمظلة إسلامية – عربية تتولى تنفيذ المهام الميدانية. أما نتنياهو فقد استثمر ذلك ليثبت الادعاء بأن الحرب التي خاضتها إسرائيل لم تُكسبها فقط التفوق العسكري، بل أيضاً الشرعية الدولية والإقليمية لتثبيت ترتيبات جديدة في غزة.
واكد عزت ابراهيم انه في ضوء السياق السابق تتضح نقطة التحول التي ارادها ترامب. فلأول مرة، يُنقل عبء التعامل المباشر مع حماس إلى دول عربية وإسلامية، كجزء مما تامل فيه الادارة الأمريكية من صفقة دولية تقودها واشنطن. هذه الصيغة لا تقتصر على فرض هدنة، بل تسعى إلى إعادة هندسة المشهد برمته عبر نقل المسؤولية إلى أطراف ثالثة. وهذا يعكس تحوّلاً عن نماذج التسوية السابقة التي كانت تقوم على مفاوضات مباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين. ما حدث في البيت الأبيض هو إعادة توزيع للأدوار، بحيث تُصبح غزة محكومة بوصاية إقليمية – دولية محكمة، تمثل فيها إسرائيل الضامن الأمني وواشنطن القائد السياسي، والعرب والدول والاسلامية هم منفّذو عملية نزع السلاح لمنع أي تراجع أو انتكاسة. 
وقال عزت ابراهيم من أبرز النقاط أن ترامب ربط أي اتفاق بضرورة إطلاق جميع الرهائن خلال 72 ساعة، مع إعادة جثامين القتلى. هذا الشرط الإنساني في مظهره صيغ بلغة عاطفية حين تحدث عن لقاءات مع آباء الجنود، لكنه في الحقيقة كان مدخلاً لتسويق الخطة إسرائيلياً باعتبارها تحقق (مطلباً شعبياً لا يمكن تجاهله). تحويل المأساة إلى ضمانة سياسية يساعد ترامب على تسويق خطته داخلياً في إسرائيل، كما أعطى نتنياهو غطاءً للقول إن أهداف الحرب تتحقق الآن على الطاولة السياسية بعد أن مهدت لها العمليات العسكرية.
إلى جانب ذلك، تضمّنت الخطة شرطاً مركزياً يتمثل في نزع السلاح الكامل لحماس وتدمير بنيتها العسكرية. الحديث عن الأنفاق والمصانع ومنشآت الإنتاج لم يكن فقط توصيفاً تقنياً، بل كان جزءاً من استراتيجية تسوق لما يمكن اعتباره وصاية طويلة المدى على غزة. فطالما أن هذه البنى تُقدّم كتهديد دائم، يصبح منطقياً في خطاب ترامب ونتنياهو أن تستمر إسرائيل في فرض محيط أمني وأن تُعهد مهام النزع والتفكيك إلى الدول العربية. هذا التبرير يعيد إنتاج الحصار والسيطرة الإسرائيلية في صيغة أكثر قبولاً دولياً.
الإعلان عن “مجلس السلام” الذي سيرأسه ترامب نفسه كان النقطة الأكثر رمزية. رئيس الولايات المتحدة أراد أن يجعل من نفسه ليس مجرد وسيط، بل رئيس مجلس وصاية عالمي على غزة. هذا يحمل دلالتين، الأولى أنه يسوّق نفسه كشخصية تاريخية تشرف على ملف لم يُحل منذ عقود، والثانية أنه يضمن أن تكون واشنطن المرجعية النهائية لأي ترتيبات. بالنسبة لنتنياهو، فإن قبول ترامب بتولي هذا الدور ربما استهدف أ ن يعزز ثقة الإسرائيليين بأن مصالحهم لن تُترك رهينة، حسب ما تراه دوائر الحكم في واشنطن وتل أبيب، لتفاهمات عربية – فلسطينية قد تفرز واقعاً مغايراً.
الخطة تضمنت أيضاً استبعاداً كاملاً لحماس من أي دور في الحكم، ومعها السلطة الفلسطينية نفسها. ترامب ونتنياهو اتفقا على أن السلطة لن تكون طرفاً في إدارة غزة إلا إذا غيّرت جلدها بالكامل، بما يشمل المناهج والإعلام والسياسات المالية. هذا الشرط يُعادل إقصاءً مزدوجاً للفصائل الفلسطينية، ليُترك المجال مفتوحاً أمام “حكومة انتقالية” تُعيّن من الخارج وتشرف عليها المؤسسات الدولية والبنك الدولي. بذلك، تصبح غزة مجالاً للتجريب في نظام وصاية حديث لا علاقة له بالسيادة الوطنية الفلسطينية.
نتنياهو قدّم الخطة باعتبارها امتداداً لعمليات عسكرية سابقة ضد إيران، مثل “أسد صاعد” و“مطرقة منتصف الليل”. بهذا الربط، حاول أن يُظهر أن الانتصار في غزة ليس مجرد معركة محلية، بل جزء من صراع أوسع مع طهران، وأن الحرب وفّرت فرصة لإعادة صياغة التوازن الإقليمي. هذا الاستخدام المتعمد لإيران في الخطاب يتيح له تقديم الحرب كخط دفاع أول عن الحضارة في وجه “البربرية”، ويمنحه شرعية أكبر لدى جمهوره الداخلي وحلفائه الدوليين.
في خطاب ترامب، كان لافتاً أنه استعاد ملف القدس والجولان وانسحاب واشنطن من الاتفاق النووي الإيراني ليقول إنه “أفضل صديق لإسرائيل في تاريخ الرئاسة الأميركية”. بهذا، أراد أن يطمئن الإسرائيليين بأن خطته لا تتضمن أي تنازل عن الأمن، بل تأتي بعد سجل طويل من الانحياز. في الوقت نفسه، حاول أن يخفف من صورة الانحياز عبر سردية الدعم العربي والإسلامي. هذه الموازنة الدقيقة بين الانحياز المعلن والتعددية الشكلية تمثل جوهر أسلوب ترامب في تسويق الاتفاق.
في البيت الأبيض تلك الليلة، لم يكن الفلسطينيون طرفاً في المشهد. جرى الحديث عنهم بوصفهم موضوعاً للإدارة والإصلاح أو العزل، لا بوصفهم شركاء سياسيين. ترامب ونتنياهو أعادا سردية انسحاب 2005 من غزة لتأكيد أن الفلسطينيين أضاعوا فرصتهم حين سلّموا السلطة لحماس. هذا الخطاب أعاد تحميل الفلسطينيين وحدهم مسؤولية الانهيار، مع تجاهل منظومة الحصار والاحتلال. النتيجة أن هذه الخطة وُضعت كعقوبة جماعية وصيغة لإعادة تأهيل غزة على يد الخارج.
الخطة ربطت أي مستقبل فلسطيني بمدى قبول الإصلاحات التي طرحتها رؤية ترامب 2020. هذا يضع الفلسطينيين أمام معادلة قاسية. فإما أن يقبلوا شروطاً شبه مستحيلة، أو يُتركون خارج أي عملية سياسية. هكذا، تحوّل خطاب البيت الأبيض إلى أداة ضغط مضاعفة على الفلسطينيين، تحرمهم من الشرعية إذا رفضوا، وتضعهم تحت وصاية صارمة إذا قبلوا. في الحالتين، تُدار غزة من خارجها بينما تُستخدم المعاناة الإنسانية كمدخل للتدخل الدولي.
من زاوية أخرى، ركّز ترامب على أن الخطة مدعومة بأموال دول غنية، وأن التمويل سيجعل التنفيذ ممكناً. هذه الإشارة إلى الخليج لم تكن تقنية، بل سياسية. فمشاركة أموال النفط في إعادة إعمار غزة مقابل نزع سلاحها يكرّس معادلة “السلام مقابل الاستثمار”، ويحوّل القضية الفلسطينية من ملف سيادة إلى ملف اقتصادي. بالنسبة لترامب، الذي يتعامل مع السياسة بمنطق الصفقات، فإن المال هو الضمانة الحقيقية للاستقرار.
نتنياهو استثمر في هذه الفكرة ليؤكد أن اتفاقات أبراهام يمكن أن تتوسع، وأن هناك دولاً عربية وإسلامية ستلتحق بالمسار. تحدث عن إمكانية إعادة إحياء الاتفاقات وإدخال لاعبين جدد، معتبراً أن ما جرى في غزة قد يكون نقطة انطلاق لـ“شرق أوسط جديد”. هذا الاستخدام لمفهوم التطبيع كامتداد لانتصار الحرب يربط بين الميدان أو ساحة المواجهة والدبلوماسية، ويجعل من غزة مدخلاً لتوسيع دائرة السلام مع دول كانت مترددة سابقاً.
إحدى المفارقات أن ترامب أعلن عن آلية ثلاثية بين إسرائيل وقطر والولايات المتحدة، رغم أن قطر كانت تُتهم بدعم حماس. هذا يكشف عن براجماتية فجة. فحتى الخصوم يمكن أن يُعاد تدويرهم كوسطاء إذا كان ذلك يخدم الترتيبات الجديدة. بالنسبة لنتنياهو، فإن إشراك قطر يخفف من التوتر ويعيد تعريف دورها من داعم إلى وسيط. أما بالنسبة لترامب، فهو يضيف إنجازاً آخر إلى قائمته الطويلة من “الصفقات التاريخية”.
المشهد في البيت الأبيض كان أيضاً استعراضاً للعلاقة الشخصية بين ترامب ونتنياهو. الأول قدّم الثاني كـ“محارب” يريد شعبه أن ينهي الحرب ويعود إلى حياة طبيعية، والثاني وصف الأول بأنه “أعظم صديق لإسرائيل”. هذه اللغة العاطفية هدفت إلى طمأنة الراي العام في البلدين أن هناك توافقاً كاملاً في الرؤى والمصالح. لكنها في العمق تخفي أن لكل طرف حساباته الخاصة. فترامب يريد إنجازاً انتخابياً، ونتنياهو يريد تتويجاً لمسيرته السياسية.
بجانب كل ذلك، حرص نتنياهو على رفض أي اعتراف بالدولة الفلسطينية من المجتمع الدولي، واعتبر ذلك تهديداً وجودياً. هذا الموقف الصارم وجد صدى لدى ترامب الذي استعاد خطابه ضد الأوروبيين الذين اعترفوا بفلسطين. المهم أن البيت الأبيض تحوّل إلى منصة لتوحيد الموقف الإسرائيلي – الأمريكي ضد أي محاولة لتدويل القضية خارج هذا الإطار الجديد.
في الوقت نفسه، حمل خطاب ترامب نبرة هجومية على الأمم المتحدة، والأونروا، والاتفاق النووي الإيراني. أراد أن يُظهر لجمهوره أنه ليس خاضعاً للمنظمات الدولية، وأنه يملك اليد العليا في تقرير مصير القضايا الكبرى. هذا يعكس رؤية تقوم على تقويض المؤسسات المتعددة الأطراف لصالح صفقات مباشرة تُمليها واشنطن وتنفذها الدول الحليفة.
الخبراء يرون ان المشهد إذن لم يكن إعلان سلام بل إعلان وصاية. غزة ستُدار بمجلس دولي، تُموّلها دول الخليج، وتبقى تحت عين إسرائيل الأمنية، بينما الفلسطينيون يُتركون بين خيار القبول أو الإقصاء. بهذا الشكل، أعاد البيت الأبيض إنتاج القضية الفلسطينية في صورة ملف إداري – أمني لا كملف سياسي وطني.
واختتم عزت ابراهيم تحليلة قائلا بشكل شخصي بحت، أراد ترامب أن يقدّم نفسه في صورة الزعيم التاريخي الذي حسم أصعب النزاعات، وأن يجعل من لحظة البيت الأبيض التتويج لإنجازاته. أما نتنياهو فقد رأى في هذه اللحظة فرصة ليُعلن أن حرب غزة لم تذهب سدى، وأنه نجح في تحويل دماء الحرب إلى مكاسب سياسية ودبلوماسية. لكن تحت هذا الخطاب يكمن تناقض كبير: فبينما يتحدثان عن “سلام أبدي”، تبقى كل أسباب الصراع قائمة، بل وتتعمق عبر تكريس الوصاية ونفي الأفق السياسي.

شارك