دراسة مقارنة: سيد قطب بين الصحفي والأكاديمي

الجمعة 15/أغسطس/2025 - 06:43 م
طباعة دراسة مقارنة:  سيد حسام الحداد
 
يحتل سيد قطب موقعًا مركزيًا في تاريخ الفكر الإسلامي المعاصر، لا باعتباره كاتبًا وأديبًا فقط، بل كمنظّر أيديولوجي ترك أثرًا بالغًا على الحركات الإسلامية السياسية. تناولته كتابات متعددة، من بينها كتاب «سيرة التحولات: سيد قطب» للكاتب والصحفي حلمي النمنم، وكتاب «سيد قطب والأصولية الإسلامية» للمؤرخ والأكاديمي شريف يونس. هذان العملان، على اختلاف منطلقاتهما وأدواتهما، يقدمان قراءتين متباينتين في المنهج والأولويات، ما يفتح المجال لمقارنة تكشف أثر الخلفية المعرفية على صياغة السرد والتحليل.

أولًا: المنهج والخلفية المعرفية
ينطلق حلمي النمنم من خلفية مهنية راسخة في الصحافة الثقافية والسياسية، وهو ما ينعكس مباشرة على أسلوب كتابته في «سيرة التحولات: سيد قطب». فهو يعتمد على تقنيات السرد القصصي التي تُبقي القارئ مشدودًا، مستخدمًا أسلوبًا حيًّا وسلسًا يتجنب الإغراق في التنظير الأكاديمي. هذه الخلفية تجعله مهتمًا أكثر بتقديم مادة جذابة وقابلة للقراءة من قبل جمهور واسع، بما في ذلك غير المتخصصين في الفكر السياسي أو تاريخ الحركات الإسلامية.
كما يولي النمنم أهمية كبيرة للحكايات الشخصية التي تحيط بسيد قطب، سواء تلك المستقاة من شهادات معاصريه أو من مرويات تاريخية وشبه شفوية. في هذا الإطار، يبرز البعد الإنساني للشخصية، بما فيه من تناقضات وصراعات داخلية، وهو ما يمنح القارئ شعورًا بالقرب من التجربة الذاتية لقطب. يعتمد المؤلف على قصص الطفولة، والبعثة إلى أمريكا، والمواجهات مع النظام الناصري، ليرسم خريطة التحولات الفكرية عبر مسار شخصي عاطفي أحيانًا.
إلى جانب ذلك، يظهر تأثير الحس الصحفي في انتقاء الأحداث المثيرة أو اللحظات الحاسمة التي تكشف عن انعطافات جذرية في مسيرة قطب. فهو لا يسعى إلى التغطية الشاملة لكل التفاصيل بقدر ما يركز على المحطات التي تحمل دلالات رمزية أو درامية عالية، مثل تجربته في السجن أو مواقفه من القومية العربية. هذا الانتقاء يخدم غرضًا سرديًا أكثر منه غرضًا توثيقيًا صارمًا.
ومع أن النمنم يستخدم الوثائق التاريخية والمصادر الصحفية، إلا أن طريقة توظيفه لها أقرب إلى "التحقيق الاستقصائي" منه إلى "الدراسة الأكاديمية". أي أنه يوظف الوثائق كعناصر داعمة للسرد، وليس كمواد لتحليل علمي منضبط. بذلك، يتضح أن هدفه الرئيسي هو تقديم سردية مشوقة وشبه روائية، مع قدر من التحليل السياسي، بدلًا من إنتاج بحث أكاديمي تقليدي.
أما شريف يونس، فيدخل إلى موضوع سيد قطب من باب مختلف تمامًا، مستندًا إلى تكوين أكاديمي في التاريخ والفكر السياسي. كتابه «سيد قطب والأصولية الإسلامية» يلتزم إلى حد كبير بأعراف البحث العلمي من حيث البنية والمنهجية، فهو يبدأ بطرح أسئلة بحثية واضحة، ثم يجيب عنها من خلال تحليل النصوص والوقائع في سياقها التاريخي والاجتماعي. هذا الانضباط يجعل قراءته أكثر عمقًا على الصعيد التحليلي، وإن كانت أقل جاذبية سردية بالنسبة للقارئ غير المتخصص.
يركز يونس على الربط بين مسار قطب الشخصي وبين التحولات الكبرى في المجتمع المصري والعالم العربي خلال النصف الأول من القرن العشرين. فهو لا يرى في قطب مجرد أديب أو ناشط سياسي، بل يعتبره انعكاسًا لصراعات الهوية، وفشل المشاريع الوطنية، وصعود الإسلام السياسي كبديل أيديولوجي شامل. من هنا تأتي أهمية السياق في تحليله، إذ يربط تطور أفكار قطب بالتحولات في الفكر العربي الحديث، من الليبرالية إلى القومية إلى الأصولية.
في تعامله مع النصوص القُطبية، يتبنى يونس مقاربة تحليل الخطاب، حيث تُقرأ المؤلفات ليس فقط كمحتوى فكري، بل كخطاب أيديولوجي يسعى إلى صياغة واقع بديل وإعادة تعريف مفاهيم مثل "الجاهلية" و"الحاكمية". وهذا التحليل يكشف البنية الداخلية للفكر القطبي، بما فيه من عناصر شمولية واستبعادية، ويضعه ضمن تيارات الفكر السياسي العالمي التي تتبنى تصورات كلية للإنسان والمجتمع.
كما يتميز عمل يونس بالاستعانة بأدوات العلوم الاجتماعية، من مفاهيم الدولة الحديثة إلى ديناميات الحركات الاجتماعية، ما يتيح له تقديم تفسير بنيوي للتحولات الفكرية لقطب. على عكس النمنم، الذي يركز على الصدمات الفردية والدراما الإنسانية، ينظر يونس إلى هذه التحولات باعتبارها نتاجًا لتفاعل طويل بين الأفكار والبنى الاجتماعية، حيث تلعب التجربة الشخصية دورًا، لكنها ليست المحرك الوحيد ولا الأهم.

ثانيًا: صورة سيد قطب
يقدّم حلمي النمنم سيد قطب كشخصية متقلبة، تتأرجح بين حالات وجدانية وفكرية متناقضة، تبدأ من الأديب الرومانسي المرهف الحس، وتنتهي بالمنظّر الإسلامي الراديكالي. هذه التقلبات، في نظر النمنم، ليست مجرد تغيرات فكرية هادئة، بل تحولات جذرية مدفوعة بانفعالات حادة وتجارب صادمة في حياة قطب. ويستعين النمنم في رسم هذه الصورة بأسلوب روائي تقريبًا، حيث يضع القارئ في قلب المواقف التي مر بها قطب، وكأننا نشاهد مسار التحول عبر مشاهد حيّة.
يركز النمنم على البعد الشخصي لهذه التحولات، معتبرًا أن تجارب قطب العاطفية والفكرية، مثل رحلته إلى الولايات المتحدة، كانت مفصلية في تشكيل وعيه الجديد. في هذه المرحلة، يصور النمنم قطب كأديب مفتون بالغرب من جهة، وناقد له بمرارة من جهة أخرى، حيث تكشف هذه الازدواجية عن بداية الانكسار الداخلي الذي سيقوده لاحقًا نحو خطاب الرفض الكلي للحداثة الغربية.
كما يولي النمنم اهتمامًا بالغًا لعلاقة قطب بالسلطة السياسية في مصر، خاصة في عهد عبد الناصر، ويبرز كيف تحولت هذه العلاقة من دعم أو حياد إلى مواجهة مباشرة وصدام دموي. هذا الصدام، في رواية النمنم، لم يكن مجرد خلاف سياسي، بل كان نقطة فاصلة دفعت قطب إلى صياغة مشروع أيديولوجي يقوم على القطيعة التامة مع النظام القائم.
ولا يغفل النمنم كذلك علاقة قطب بجماعة الإخوان المسلمين، فيرصد مراحل الانجذاب الأولى حين وجد قطب في الجماعة بيئة تتبنى خطابه الديني والاجتماعي، ثم مرحلة الصدام حين بدأ يبلور فكرًا خاصًا يتجاوز حتى الإطار الإخواني التقليدي. هنا، يظهر قطب في سرد النمنم كزعيم فكري استثنائي، لكن أيضًا كشخصية مأزومة ومتشددة، أفرزتها ضغوط الحياة والظروف التاريخية.
أما شريف يونس، فيرسم صورة أقل فردية وأكثر بنية لسيد قطب، فهو لا يراه مجرد شخص خاض سلسلة من الصدمات والتحولات، بل يعتبره نتاجًا طبيعيًا لتفاعلات فكرية وسياسية واسعة في مصر والعالم العربي خلال النصف الأول من القرن العشرين. في هذا الإطار، تندرج شخصية قطب ضمن مسار طويل من الجدل الفكري، يبدأ بالرومانسية الأدبية وينتهي بالأصولية الإسلامية ذات الطابع الشمولي.
يربط يونس التحولات في فكر قطب بالانتقال من الانشغال بالقيم الجمالية والأدبية في بداياته، إلى الانخراط في مشروع إصلاحي اجتماعي ذي ملامح قومية، ثم أخيرًا إلى صياغة خطاب أيديولوجي يعلن قطيعة جذرية مع الدولة والمجتمع في صورتهما القائمة. وبهذا التتبع، تصبح التحولات الفكرية لدى قطب جزءًا من خريطة أشمل للتحولات الفكرية العربية.
يؤكد يونس أن هذه التغيرات ليست انفعالات فردية أو ردود أفعال نفسية فقط، بل هي استجابات فكرية – أيديولوجية لهزائم وإخفاقات المشروع الوطني والقومي، ولتبدلات المشهد السياسي العالمي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. من هنا، فإن تطور فكر قطب إلى صياغة مفاهيم مثل "الجاهلية المعاصرة" و"الحاكمية" يبدو عند يونس نتيجة منطقية لبحثه عن بديل شامل يفسر الإخفاقات ويقترح نموذجًا مغايرًا للمجتمع.
ويتعامل يونس مع شخصية قطب باعتبارها حالة دراسية لفهم كيفية تشكّل الفكر الأصولي الحديث، وكيف يمكن لشخص مثقف وأديب أن يتحول إلى أحد أهم منظّري الإسلام السياسي. لذلك، لا يحصر التحليل في التجربة الذاتية لقطب، بل يضعها ضمن شبكة أوسع من العلاقات الفكرية، بما فيها تأثيرات الحركات الإسلامية العالمية، وخبرات الاستعمار، وفشل المشاريع التنموية في مصر ما بعد الاستقلال.

ثالثًا: تفسير التحول إلى الأصولية
يربط حلمي النمنم التحول الفكري لسيد قطب نحو الأصولية بمزيج معقد من الصدمات النفسية والسياسية التي تعرض لها خلال حياته. يضع تجربة السجن في قلب هذا التفسير، مؤكدًا على أن سنوات الاعتقال في عهد عبد الناصر، وما صاحبها من قسوة وتعذيب جسدي ونفسي، لعبت دورًا حاسمًا في بلورة موقف قطب العدائي الشامل تجاه النظام والدولة والمجتمع. في هذا السياق، تصبح تجربة السجن لحظة ميلاد جديدة للفكر القطبي، لكنها ميلاد جاء من رحم المعاناة.
إلى جانب السجن، يبرز النمنم أثر الإحباط العميق الذي أصاب قطب من المشروع القومي الناصري. فقد كان قطب في بداياته متعاطفًا مع التوجهات الوطنية والاجتماعية للدولة بعد ثورة يوليو، لكنه سرعان ما أدرك، بحسب رواية النمنم، أن هذا المشروع لا يلبي طموحاته ولا يحقق العدالة الاجتماعية الحقيقية التي كان ينشدها. هذا الإحباط مثّل نقطة انكسار نفسية وفكرية دفعت قطب إلى إعادة النظر جذريًا في كل المرجعيات السابقة.
كما يولي النمنم أهمية للبُعد الإنساني والدرامي في تفسير التحول، فيصوّر قطب كشخص تعرض لخيانة من النظام الذي كان يأمل أن يتعاون معه، وكمثقف ذاق مرارة العزلة والنبذ، ما ولّد لديه شعورًا بالغربة عن المجتمع بأسره. هذا الشعور بالغربة تغذى بممارسات القمع، ليتحول في النهاية إلى قناعة فكرية بأن المجتمع قد انحرف تمامًا عن "الإسلام الحق".
وبذلك، يقدم النمنم التحول إلى الأصولية ليس كمحصلة منطقية لمسار فكري طويل، بل كاستجابة عاطفية ونفسية لتجارب صادمة متلاحقة، جعلت من سيد قطب إنسانًا جريحًا يبحث عن يقين مطلق، وجعلت من فكره الأصولي حصنًا ضد الخيانة والانكسار.
أما شريف يونس فيتبنى تفسيرًا بنيويًا أكثر منه شخصيًا، إذ يرى أن مسار قطب الفكري كان منذ بدايته ينطوي على بذور البحث عن نموذج شامل بديل للواقع القائم. فحتى في مرحلته الأدبية، كان قطب مشغولًا بقضايا المعنى والقيم الكبرى، وهو انشغال مهّد الطريق لتبني رؤية شمولية لاحقًا، وإن تغيرت أطرها المرجعية من الرومانسية إلى القومية إلى الأصولية.
يعتبر يونس أن إخفاقات المشاريع الفكرية والسياسية التي تبناها قطب على التوالي – بدءًا من الإصلاح الأدبي، مرورًا بالقومية الاجتماعية، وانتهاءً بالدولة القومية الناصرية – لعبت دورًا تراكميًا في دفعه نحو صياغة بديل كلي يقوم على القطيعة مع الواقع. الأصولية، في هذا التصور، لم تكن انحرافًا مفاجئًا، بل النتيجة الطبيعية لتجربة طويلة مع الفشل المتكرر في إحداث التغيير المنشود ضمن الأطر القائمة.
في هذا الإطار، يُنظر إلى تجربة السجن والتعذيب باعتبارها "مسرّعًا" لهذه التحولات، وليست مولدًا وحيدًا لها. فقد ساعدت هذه التجربة على شحذ الموقف الراديكالي، لكنها جاءت لتؤكد قناعات كانت قد تشكلت جزئيًا قبل الاعتقال. بذلك، يرفض يونس التفسير الذي يجعل السجن نقطة الانعطاف الوحيدة، ويرى أنه كان مرحلة تكثيف للفكر القطبي، لا مرحلة ولادة فكرية جديدة بالكامل.
ومن خلال هذا المنظور، يتحول فهم التحول إلى الأصولية من كونه استجابة نفسية طارئة إلى كونه عملية فكرية – أيديولوجية ممتدة، تتفاعل فيها التجربة الفردية مع العوامل البنيوية، لتنتج خطابًا يحمل سمات الشمولية والرفض الجذري للواقع، ويطمح إلى إعادة تشكيله وفق رؤية إيمانية متكاملة.

رابعًا: العلاقة بالخطاب العام
يكتب النمنم بلغة الصحافة الثقافية: مباشرة، قريبة من القارئ العادي، وتوظف عناصر السرد لجذب الانتباه — مشاهد، حوارات، مشاعر — بدلاً من الانزلاق إلى المصطلحات الأكاديمية المجردة. هذا الأسلوب يجعل كتابه قابلاً للقراءة من جمهور واسع، ويمنحه قدرة على تحويل حدث تاريخي أو موقف فكري إلى قصة يفهمها القارئ العادي دون الحاجة إلى خلفية نظرية عميقة.
الأساليب البلاغية عنده واضحة: لافتات عاطفية، تراكيب سردية تُبرز اللحظات الحاسمة، واحيانًا أحكام قيمية مباشرة تُقوّي البعد الدرامي للنص. النتيجة نص يَحكي قصة شخصية أمام جمهور، وليس نصًا يحلل خطابًا لقرّاء أكاديميين. هذا يمكّن القارئ العام من تكوين صورة سريعة ومؤثرة عن شخصية مثل سيد قطب.
لكن هذا الأسلوب الصحفي يحمل تبعات منهجية: الاعتماد على الحكايات واللقطات الدرامية قد يؤدي إلى تبسيط التعقيدات، واختزال العمليات البنيوية إلى محطات فردية. عندما تتصدر اللحظة الدرامية المشهد، قد تُغفل دلائل واستدلالات تحتاج إلى تطويل وتحليل منهجي لتفسير المسارات الفكرية الطويلة.
من ناحية التأثير، يسهِم عمل النمنم في تشكيل الوعي الشعبي وإثارة النقاش العام؛ يمكن لكتابه أن يؤثر بسرعة في الخطاب الإعلامي والجدل العام، لكنه في الوقت ذاته يعرض المادة للتوظيف السياسي أو الانزلاق إلى الاستنتاجات القيمية السريعة، لأن الطابع الصحفي يجعل النص عرضة للقراءة الانتقائية والتأويل المباشر.
أما نص يونس يتسم بالالتزام بالمنهجية الأكاديمية: افتراضات بحثية واضحة، بناء حجة تدريجيًا، واستنادًا إلى مفاهيم نظرية ومصادر موثّقة. هذا الأسلوب ينتج نصًا تجريديًا ومنهجيًا يهدف إلى تفسير الظاهرة في إطار نظري أوسع بدلاً من السرد الحركي للأحداث. القراءة هنا تتطلب قارئًا مهيأ فكريًا لاستيعاب الإطار التحليلي والمصطلحات المستخدمة.
يونس يعتمد على أدوات تحليل الخطاب والتاريخ الفكري؛ يستعمل الإحالات النظرية، تصنيف التيارات، وقراءة النصوص بوصفها خطابًا أيديولوجيًا متكاملًا. هذا يمنحه قدرة على تفكيك البنى الداخلية للأفكار، وإظهار الروابط البنيوية بين مسارات فكرية تبدو متفرقة عند القارئ السطحي. النتيجة عمل يمكن أن يُستخدم كأساس لمزيد من البحوث أو كمرجع في الدراسات السياسية والفكرية.
ثمن هذا العمق أنه يقلل من سهولة الوصول: القارئ العام قد يشعر بثقل المصطلحات أو بطول الحجج، وقد يفضّل نصًا أكثر روائية أو أمثلة حية للاقتراب من الموضوع. كذلك، قد تُقرأ الكتابات الأكاديمية بأنها قليلة الحماسة أو بعيدة عن "النبض" الشعبي، ما يحد من تأثيرها المباشر على النقاش الإعلامي اليومي رغم قوتها في إطار النقاش العلمي الطويل.
من ناحية الأثر العام، يونس يقدّم مادة قوية لصنع القرار الفكري والسياسي على المدى المتوسط والطويل: منظّرو السياسات، الباحثون، والمؤسسات التعليمية هم من يستفيدون أكثر من نتاجه. لكن تأثيره على الرأي العام قصير المدى أقل من تأثير النمنم؛ النص الأكاديمي معرض لأن يختزل أو يُنقل بمعالجات مبسّطة عندما يحاول الإعلام تحويله إلى مادة شعبية.

خامسًا: النقد والموازنة
أ. كتاب حلمي النمنم (منفعة وحدود القراءة الشخصية والدرامية)
فائدة النمنم واضحة ومباشرة: يقدم صورة إنسانية حية لسيد قطب، تسلّط الضوء على النوايا، الانفعالات، والمحطات الدرامية التي مرّ بها. هذا الجانب يجعل من كتابه مدخلاً ممتازاً للقارئ العام، لأنه يشرح كيف تحوّلت مشاعر وتجارب فردية إلى دافع عملي للتغيير الفكري، ويمنحنا إحساساً بقرب الشخصية من واقعها النفسي والاجتماعي.
الأسلوب الشخصي والدرامي عند النمنم ينجح في خلق تعاطف وفهم سريع للمسارات الحياتية، لكنه أحيانًا يطغى على التحليل المفاهيمي. عندما تصبح الحكاية الشخصية هي محور التفسير، قد تُهمَل عوامل بنيوية أو إرثٌ فكري واجتماعي أوسع أسهم في إنتاج الأفكار.
منهجيًا، يعتمد النمنم كثيرًا على السرد والوثائق الصحفية والشهادات، وهذه مصادر قيّمة لكنها عرضة للتحوير أو الذاكرة الانتقائية. النتيجة أن بعض الاستنتاجات قد تبدو مقنعة على مستوى الانطباع لكنها تحتاج تدعيمًا أكثر صرامة حين يُراد استخدامها في حقل التحليل الأكاديمي.
عمليًا—وبالتالي نقديًا—ينصح باعتبار كتاب النمنم مدخلاً سرديًا لا غنى عنه لمن يبدأ البحث في شخصية قطب أو يريد مادة جذابة للتأطير العام، لكن ينبغي أن يُستكمل بقراءات نقدية ومنهجية أخرى إن كان الهدف إنتاج تحليل علمي يُبنى عليه.

ب. كتاب شريف يونس (قوة التحليل البنيوي وحدوده الإنسانية)
قوة يونس تكمن في عمق الإطار التحليلي: يفكك النصوص، يربط الأفكار بتاريخها الاجتماعي والسياسي، ويعرض تطور الفكرة كنتاج لتراكمات تاريخية وبنيوية. هذا يوفّر تفسيرًا أعمق لأسباب الصعود الأيديولوجي ويمكّن الباحث من فهم العلاقة بين النص والسياق.
من ناحية أخرى، يتحوّل هذا العمق أحيانًا إلى تجريد مبالغ فيه، إذ تقلُّ المساحات التي تُعرض فيها التفاصيل الحياتية الدقيقة التي قد تكشف عن دوافع نفسية أو لحظات مفصلية لم تتسنّ للمنهج البنيوي إبرازها. بالتالي قد يخسر القارئ الإنسانيّ البعد العاطفي الذي يضفي وضوحًا على التحولات.
نقد منهجي مهم: الكتاب يفضّل الاستدلالات البنيوية والإحالات النظرية على السرد الحسي، ما يجعله أقل سهولة للقارئ العام وأحيانًا مكثفًا جدًا بالنسبة لمن يريد أمثلة وحكايات توضيحية. كذلك قد يزداد خطر اختزال الفرد إلى تمثيل لبنيات أكبر بحيث يفقد الباحثان توازن التفسير بين الفاعل والبنية.
خلاصةً، يونس يقدم مرجعًا ضروريًا لدراسات الفكر والأيديولوجيا ولطلاب العلوم السياسية والتاريخ الفكري، لكنه يستفيد لو أُرفِق بنصوصٍ سردية أو دراسات حالة قصيرة تكسر جمود التجريد وتربط الفرضيات بالخبرة الحياتية لقطب.

ج. الدمج بين الكتابين: تكامل معرفي مع شروط نقدية
الجمع بين النمنم ويونس يتيح رؤية تكاملية: النمنم يضيء البعد الفردي والدرامي الذي يفسّر «لماذا» على مستوى الإنسان، ويونس يموضع هذا «لماذا» داخل شبكة «كيف» التاريخية والبنيوية. القراءة المزدوجة تسمح للقارئ بأن يرى المستويين ولا يظل أسير تفسيرٍ واحدٍ ضيّق.
هذا التكامل مفيد بحثيًا؛ فهو يتيح للباحثين مزج مصادر وأدوات — من شهادات ووثائق إلى تحليل خطاب ونظرية تاريخية — ما يعزّز موثوقية الاستنتاجات ويقلّل احتمال الانزلاق إلى أحكام أحادية الجانب. كما يساعد صانعي السياسات والمختصين على استخلاص استنتاجات عملية أكثر توازنًا.
مع ذلك هناك توتر ممكن: تباين النغمة والأسلوب قد يربك القارئ أو يولّد استنتاجات متضاربة إذا لم تُقَرأ الأعمال نقديًا. على سبيل المثال، تفسيرُ التحول كصدمة شخصية قد يبدو متعارضًا مع تفسيره كنتيجة بنيوية — لكن الأمر واقعياً: كلا العوامل مهمتان ويجب توليفهما بدلًا من تبني أحدهما حصراً.

خاتمة
إن المقارنة بين هذين العملين تكشف كيف يمكن لاختلاف المنهج والخلفية أن ينتج سرديات متعددة عن الشخصية نفسها. سيد قطب، في النهاية، ليس مجرد سيرة ذاتية أو مشروع فكري؛ بل هو عقدة تلتقي فيها تحولات السياسة والفكر والدين في مصر القرن العشرين. وقراءة النمنم ويونس معًا لا تمنحنا فقط فهمًا أوسع لقطب، بل تذكّرنا بأن التاريخ الفكري يُكتب بعيون متعددة، وأن المسافة بين الصحفي والأكاديمي ليست مجرد اختلاف أسلوب، بل اختلاف زاوية الرؤية ذاتها.

شارك