انتصارات الخرطوم ومعركة دارفور: الجيش يوسّع قبضته والدعم السريع يرد بالمسيّرات
الخميس 22/مايو/2025 - 11:48 م
طباعة

يشهد المشهد السوداني تصاعدًا عسكريًا وسياسيًا حادًا، مع استمرار الصراع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع للسيطرة على مفاصل الدولة. ففي وقت تُوسّع فيه القوات المسلحة نطاق سيطرتها ميدانيًا، خصوصًا في وسط وغرب السودان، تتجه في الوقت ذاته لتعزيز موقعها السياسي من خلال خطوات نحو إدارة مدنية مؤقتة تأمل أن تُكسبها اعترافًا دوليًا. هذه التطورات تأتي في أعقاب معركة طويلة للسيطرة على العاصمة الخرطوم، التي أعلن الجيش استعادتها بالكامل في 20 مايو، في تحول يُعدّ الأكبر منذ اندلاع الحرب الأهلية في أبريل 2023.
في المقابل، ترد قوات الدعم السريع على الخسائر العسكرية بتصعيد هجماتها بالطائرات المسيّرة، في محاولة لتعطيل جهود الجيش نحو بسط الاستقرار وفرض إدارة مدنية فعالة في المناطق المحررة. وتستهدف هذه الحملة بنية تحتية حساسة في الشرق والشمال، لا سيما في بورتسودان، لإرباك الإمداد اللوجستي للقوات المسلحة، وإضعاف قدرتها على مواصلة التقدم في جبهات القتال الرئيسية، خاصة في دارفور وجنوب كردفان.
الجيش السوداني يوسع هجماته
صعّدت القوات المسلحة السودانية عملياتها العسكرية ضد قوات الدعم السريع في وسط البلاد، في مسعى لتهيئة الطريق نحو استعادة السيطرة على مناطق غرب السودان. وتمكنت وحدات الجيش منتصف مايو من استعادة مدينة "الخواي" وعدد من المواقع الأخرى الواقعة على الطريق السريع الرئيسي الذي يربط شرق السودان بغربه. وتكتسب "الخواي" أهمية استراتيجية نظرًا لقربها من مدينة "النهود" – البوابة الإدارية والعسكرية إلى إقليم غرب السودان.
وكانت القوات المسلحة قد سيطرت على "النهود" و"الخواي" في فبراير ضمن تقدمها من مدينة الأبيض – عاصمة شمال كردفان – نحو الغرب، إلا أن الدعم السريع شنّ هجومًا مضادًا في أوائل مايو أعاد فيه السيطرة على هذه المناطق. وتبعد "النهود" نحو 215 ميلًا شرق مدينة "الفاشر" – عاصمة ولاية شمال دارفور – حيث تحاصر قوات الدعم السريع منذ أبريل 2024 مواقع الجيش السوداني على الطريق الاستراتيجي الرابط بين دارفور وبقية السودان.
وتكمن أهمية "النهود" كذلك في اتصالها بعدد من الطرق الثانوية التي قد يستخدمها الجيش للتوغل نحو دارفور من عدة محاور. ومنذ يونيو 2024، باتت المدينة مركزًا إداريًا للقوات المسلحة في ولاية غرب كردفان، وتضم مطارًا محليًا لم تُسجل فيه أي حركة طيران موثقة خلال العام الأخير رغم نشاطه في تتبع المركبات.
في الجنوب، تقدمت القوات المسلحة السودانية من مدينة الأبيض حتى أصبحت على بُعد 32 ميلًا فقط من "الدلنج" في جنوب كردفان، وذلك في 13 مايو الجاري. وكان الجيش قد تمكّن جزئيًا من كسر حصار قوات الدعم السريع على "الدلنج" من الجنوب في فبراير 2025، ويواصل الآن التقدم من الشمال لاستكمال فك الحصار المستمر منذ عامين. ويمثل تحرير "الدلنج" خطوة محورية تتيح للجيش فتح جبهة جديدة نحو الغرب لفك الحصار عن قواته في غرب كردفان، ومنها إلى عمق دارفور.
أما في شمال السودان، فقد استغل الجيش انشغال قوات الدعم السريع بجبهات الوسط ليستعيد، مع القوة المشتركة المتحالفة معه، منطقة "الأترون" شمال دارفور في 18 مايو، بعد تحرك عسكري من منطقة "الدبة". ويرجح مرصد حرب السودان أن قوات الدعم السريع سحبت بعض عناصرها من الشمال لإسناد جبهات القتال في الوسط، ما أتاح للقوات الحكومية استعادة بعض المواقع دون قتال مباشر.
وفي تطور متصل، أعلنت الإدارة المدنية التابعة لقوات الدعم السريع في غرب كردفان حالة الطوارئ في 18 مايو، ووجهت نداءً عامًا إلى قادتها الميدانيين والمقاتلين للالتحاق بخطوط المواجهة ضمن تعبئة عسكرية شاملة.
تقوض لوجستيات الدعم السريع وتقطع خطوط الإمداد
تمكّنت القوات المسلحة السودانية من السيطرة على منطقة العطرون في شمال دارفور، ما يشكل ضربة استراتيجية لقوات الدعم السريع، إذ يقوّض هذا التقدم قدراتها اللوجستية ويُعيق جهودها في توسيع نطاق الهجمات في شمال السودان. وتكمن أهمية "العطرون" في وقوعها على طريق رئيسي يربط شمال دارفور بولاية الشمالية، مما يمنح الجيش موقعًا دفاعيًا متقدمًا يمكن استخدامه كمنطقة عازلة ضد هجمات الدعم السريع، وكذلك كنقطة انطلاق لأي عملية عسكرية مستقبلية في دارفور.
ويُعد الاستيلاء على العطرون أيضًا تطورًا مهمًا في قطع خطوط الإمداد القادمة من جنوب وغرب دارفور، إضافة إلى تقليص عمليات التهريب عبر الحدود المفتوحة مع ليبيا وتشاد، التي تعتمد عليها قوات الدعم السريع لتوريد الأسلحة والوقود والمركبات بالتعاون مع جماعات مسلحة وشبكات تهريب.
ضربة لمطار الدعم السريع في الشمال
استخدمت قوات الدعم السريع مطارًا بالقرب من العطرون في عملياتها، سواء لتلقي الإمدادات أو لشنّ هجمات بالطائرات المسيّرة ضد مدن تقع تحت سيطرة الجيش. وباستعادة هذه المنطقة، يكون الجيش السوداني قد نجح في تحييد قاعدة جوية كانت تشكل تهديدًا مباشرًا لمواقعه الحيوية في شمال البلاد.
ورغم هذا الإنجاز، فإن موقع العطرون، الذي يبعد نحو 525 ميلًا عن مدينة الفاشر، لا يُعد نقطة انطلاق مثالية لهجمات واسعة النطاق، خاصة بعد أن استولت قوات الدعم السريع في مارس/آذار على منطقة "المحلية"، الواقعة على بعد 110 أميال فقط شمال الفاشر، والتي تتمتع بأهمية استراتيجية أكبر.
في تحول مفصلي، أعلنت القوات المسلحة السودانية فرض سيطرتها الكاملة على ولاية الخرطوم في 20 مايو، بعد استعادة آخر قاعدة عسكرية لقوات الدعم السريع في أم درمان يوم 19 من الشهر ذاته. وبذلك تكون القوات المسلحة قد أكملت إعادة بسط نفوذها على مدن العاصمة الثلاث: الخرطوم، بحري، وشرق النيل، بعد أن بدأت عملياتها في أم درمان خلال أبريل.
عقب هذا التقدم العسكري الحاسم، عينت القوات المسلحة مسؤولين سياسيين جددًا في الحكومة الانتقالية التابعة لها، في خطوة تهدف إلى تعزيز شرعيتها المحلية والدولية، واستعادة الحد الأدنى من مؤسسات الحكم والإدارة في العاصمة، تمهيدًا لمرحلة جديدة من التفاوض السياسي المحتمل.
جهود للشرعية السياسية تقابلها حرب بالطائرات المسيّرة
تزامنت المكاسب العسكرية التي حققتها القوات المسلحة السودانية مؤخرًا مع تحرّكات سياسية تهدف إلى كسب الشرعية الدولية وتقديم إدارة مدنية فعالة في المناطق التي استعادت السيطرة عليها. ففي خطاب ألقاه في فبراير 2025، أعلن الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش، عن نيّة القوات المسلحة تشكيل حكومة تكنوقراط لوضع دستور جديد والتحضير لانتخابات بعد استعادة العاصمة الخرطوم.
وفي 19 مايو، عيّن البرهان كامل إدريس، المسؤول الأممي السابق، رئيسًا للوزراء، ضمن خطوة ترمي إلى إظهار الجدية في الانتقال نحو الحكم المدني. كما ضمّ مجلس السيادة الانتقالي بقيادة الجيش امرأتين للمرة الأولى، وجرّد المجلس من سلطاته الرقابية على الحكومة التنفيذية، في إشارة إلى الرغبة في إرساء فصل واضح بين السلطات.
وبحسب ما نقلته صحيفة "سودان تريبيون"، فإن هذه الإجراءات تُعدّ جزءًا من خطة متكاملة لإعادة عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي، والتي جرى تعليقها عقب الانقلاب المشترك بين الجيش وقوات الدعم السريع في عام 2021. ورغم ترحيب الاتحاد الأفريقي بتعيين إدريس، إلا أن مصادر مطلعة داخل الاتحاد لا تزال تشكك في قرب رفع تعليق العضوية، مشيرة إلى ضرورة اتخاذ خطوات أكثر مصداقية نحو الحكم الديمقراطي.
ردّ الدعم السريع: تصعيد مسيّر لإرباك الحكم وإعاقة الإمداد
وفي مقابل هذه الخطوات السياسية، لجأت قوات الدعم السريع إلى تصعيد لافت في حملات الطائرات المسيّرة بهدف تقويض شرعية القوات المسلحة السودانية وإثبات قدرتها على المنافسة في عموم السودان. تسعى قوات الدعم السريع من خلال هذا التصعيد إلى جعل المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش غير قابلة للإدارة، فضلًا عن استهداف البنية التحتية الحيوية وتعطيل خطوط الإمداد.
وقد بدأت قوات الدعم السريع هذه الحملة منذ مطلع 2025، مستهدفة منشآت حيوية مثل سد مروي ومطاري دنقلا وعطبرة، قبل أن توسّع نطاق عملياتها لتصل إلى بورتسودان، العاصمة الإدارية الفعلية للقوات المسلحة، في مايو الجاري. وشنت مسيّرات الدعم السريع غارات يومية استمرت لتسعة أيام على الأقل، استهدفت خلالها منشآت تخزين الوقود، مستودعات الذخيرة، محطة كهرباء، قاعدة عسكرية، ومطار المدينة.
وفي هجمات لاحقة، استهدفت مسيّرات الدعم السريع سجنًا في الأبيض في 10 مايو، وثلاث محطات كهرباء في أم درمان في 14 مايو. ويُنظر إلى هذه الهجمات باعتبارها محاولة واضحة لإعاقة قدرة القوات المسلحة على إدارة المناطق الشرقية وتعزيز جبهاتها في الوسط والغرب، عبر ضرب مراكزها اللوجستية ومحاور الإمداد الرئيسة.
خاتمة:
تتخذ الحرب في السودان منحى متداخلًا ومعقدًا، إذ لم يعد الصراع مقتصرًا على الجبهات العسكرية فحسب، بل باتت المعركة على شرعية الحكم وإعادة بناء الدولة في قلب المعادلة. تسعى القوات المسلحة السودانية لاستثمار انتصاراتها الميدانية لإعادة تشكيل المشهد السياسي، عبر تقديم حكومة تكنوقراط وإجراءات رمزية لتوسيع التمثيل المدني، بينما يظل المجتمع الدولي مترددًا في منح الشرعية الكاملة ما لم تقترن هذه التحركات بإصلاحات جوهرية ملموسة.
في المقابل، تواصل قوات الدعم السريع استخدام وسائل الحرب غير التقليدية، مثل الطائرات المسيّرة، لإبقاء يدها فاعلة في ساحة الصراع، وتعطيل خطوط الإمداد الحيوية لقوات الجيش. هذه الهجمات لا تستهدف الأهداف العسكرية فحسب، بل تطال البنية التحتية الحيوية، في مسعى واضح لإفشال أي مشروع لاستعادة الحكم المركزي.
يبقى مستقبل السودان معلقًا على توازن القوة بين طرفين يتنافسان على الأرض والشرعية. وبينما يسعى الجيش إلى حسم عسكري يوازيه تقدم سياسي، تراهن قوات الدعم السريع على حرب استنزاف طويلة قد تمنع خصمها من تحقيق الاستقرار المطلوب. وفي ظل استمرار انقسام المجتمع الدولي، وغياب أفق لحل تفاوضي شامل، فإن السيناريوهات تظل مفتوحة على مزيد من التصعيد، أو انكفاء مؤقت بانتظار جولة جديدة من المواجهة.