انسحاب الجيش السوري من السويداء.. فراغ أمني يهدد بعودة الإرهاب من بوابة الجنوب

الخميس 17/يوليو/2025 - 02:08 م
طباعة انسحاب الجيش السوري أميرة الشريف
 
في منعطف جديد ينذر بتداعيات خطيرة على مستقبل الاستقرار في الجنوب السوري، انسحب الجيش السوري بالكامل من محافظة السويداء تنفيذًا لاتفاق وقف إطلاق النار، في خطوة أثارت جدلًا واسعًا حول تداعياتها الأمنية والسياسية، وأعادت إلى الواجهة ملف الإرهاب وخطر تحوّل المناطق المنسحبة منها الدولة إلى بؤر محتملة للتنظيمات المتطرفة.
 وبحسب وكالة "فرانس برس"، فإن الانسحاب جرى بهدوء فجري، بعد أيام دامية شهدت فيها مدينة السويداء اشتباكات عنيفة، تخللتها فوضى أمنية ونهب ودمار، ما أفضى إلى مشهد أشبه بمنطقة منكوبة، مع انقطاع كامل في الخدمات ووجود جثث في الشوارع، بحسب شهود عيان وشبكات محلية.
هذه الخطوة ، فتحت الباب واسعًا أمام فصائل درزية محلية، بعضها يحمل طابعًا مسلحًا غير نظامي، لفرض السيطرة الأمنية على المحافظة.
 وقد كلّف الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، في خطاب متلفز، هذه الفصائل وشيوخ العقل بتحمّل المسؤولية الأمنية في المنطقة، مؤكدًا أن القرار جاء "لتجنّب انزلاق البلاد إلى حرب جديدة".
 لكن السؤال المطروح هنا: هل يشكّل هذا الانسحاب تفويضًا ضمنيًا لقوى محلية غير موحّدة، بعضها يحمل أجندات غير وطنية، وربما يرتبط بمصادر تمويل وتسليح خارجية، ما قد يجعل المنطقة عرضة لاختراقات إرهابية؟
خلال السنوات الأخيرة، كانت السويداء من المحافظات التي تجنبت الانخراط المباشر في معارك النظام والمعارضة، وحافظت على قدر من الحياد النسبي. 
غير أن ذلك لم يحمِها من عمليات تسلل خطيرة قامت بها خلايا تابعة لتنظيم داعش، الذي استغل الفجوات الأمنية لشن هجمات دموية، أبرزها مجزرة عام 2018 التي راح ضحيتها أكثر من 250 مدنيًا بين قتيل وجريح. 
واليوم، مع انسحاب الدولة الرسمي، تتجدد المخاوف من عودة تلك الخلايا إلى النشاط، خصوصًا في ظل حالة الانفلات الراهنة، وعدم وضوح هوية القوى التي ستحكم السيطرة على الأرض، لا سيما في المناطق الحدودية والريفية، التي لطالما كانت مرتعًا للحركات الإرهابية ومسرحًا لعمليات التهريب.
مصادر محلية في السويداء تحدثت عن وجود قناصة ومسلحين تسللوا برفقة القوات الحكومية قبيل انسحابها، ويجري الآن تمشيط أحياء عدة من قبل الفصائل الدرزية للقبض عليهم، لكن هذه المعلومات، إلى جانب عدم قدرة تلك الفصائل على تأمين محيط المدينة بشكل كامل، تثير القلق من إمكانية عودة التنظيمات الإرهابية أو عناصر متطرفة إلى المشهد، في ظل هشاشة التفاهمات الأمنية وغياب سلطة مركزية فاعلة.
وفي هذا السياق، كشفت مصادر حقوقية أن الاتفاق الذي أفضى إلى الانسحاب، تم بوساطة أمريكية عقب تصعيد إسرائيلي ضد دمشق، ما يعكس أن الملف بات محل تجاذب دولي يتجاوز البعد المحلي، ويضع المنطقة أمام معادلة معقّدة بين التهدئة الظرفية والتفكك المحتمل للسيادة. 
وهنا تبرز المعضلة الكبرى، إن كانت السلطة قد انسحبت استجابة لضغوط خارجية، فهل ستتخلى لاحقًا عن مناطق أخرى في مواجهة الضغوط ذاتها؟ وإن كانت السويداء حالة استثنائية نتيجة خصوصيتها الطائفية، فهل سيغري ذلك التنظيمات الإرهابية بالتسلل إليها من جديد، بذريعة الدفاع عن الأقليات أو استثمار الغياب الأمني لبناء خلايا جديدة؟
الرئيس الانتقالي أحمد الشرع حمّل في كلمته إسرائيل مسؤولية السعي إلى نشر الفوضى، محذرًا من محاولة "تحويل أرضنا إلى ساحة فوضى دائمة تسعى من خلالها لتفكيك وحدة شعبنا".
 لكن الخطاب، رغم لهجته الوطنية، لم يُجب عن الأسئلة الجوهرية المرتبطة بالفراغ الأمني الذي قد يُنتج لا فقط فوضى، بل بنية حاضنة لعودة الإرهاب. 
ويزداد القلق عندما نعلم أن بعض الفصائل المحلية المكلّفة بالأمن، لا تمتلك الخبرة الكافية للتعامل مع التهديدات الإرهابية، ولا تملك أجهزة استخباراتية أو تقنيات متقدمة في الرصد والملاحقة، ما يجعلها هدفًا سهلاً للاختراق.
كما أن التحركات الإسرائيلية الأخيرة، التي شملت ضربات دقيقة استهدفت مواقع عسكرية قرب دمشق وفي الجنوب، تشير إلى نية واضحة في إعادة رسم خطوط التماس داخل سوريا، ربما في إطار تقويض نفوذ حلفاء دمشق. 
وقد عبّرت الخارجية الأمريكية عن هذا التوجه بشكل واضح، عندما حضّت القوات السورية على مغادرة السويداء، في موقف أثار تساؤلات حول حقيقة التفاهمات الجارية خلف الكواليس، ومدى إمكانية أن تكون هذه التفاهمات قد أغفلت – عمدًا أو سهوًا  مخاطر تمدد الإرهاب في حال غياب قوة الدولة.
التاريخ الحديث أثبت أن أي منطقة سورية تشهد فراغًا أمنيًا، تصبح تلقائيًا مهددة بتحوّلها إلى نقطة ارتكاز لتنظيمات متشددة. 
من الرقة التي سيطر عليها داعش، إلى إدلب التي باتت معقلًا لهيئة تحرير الشام، كانت البداية دومًا في انسحاب الجيش وترك الساحة لفاعلين محليين غير موحدين، لينتهي المشهد بفوضى تفرّخ الإرهاب. 
والسويداء، رغم اختلافها ديموغرافيًا، ليست بمنأى عن هذا المصير، خصوصًا مع ازدياد تعقيد المشهد الإقليمي، وتداخل الأطراف الدولية والإقليمية في القرار السوري.
وتبقى مسألة الأقليات، التي حاول النظام لسنوات تسويقها كورقة حماية مركزية، ساحة مفتوحة للتجاذب والاختراق، لا سيما من أطراف إقليمية تستخدم خطاب "حماية الطوائف" كذريعة لتبرير تدخلها أو دعمها لفصائل بعينها.
 وفي هذا الإطار، فإن أي خلل أمني أو تصعيد طائفي في السويداء، قد يوفر الذريعة المثالية للتنظيمات المتطرفة لإعادة التموضع تحت راية "الدفاع عن الهوية"، وهو ما أثبتت تجارب العراق ولبنان أنه مسار خطير يؤدي غالبًا إلى تحويل المناطق إلى ساحات مفتوحة للصراعات بالوكالة.
في المحصلة، فإن انسحاب الجيش السوري من السويداء، وإن تم تحت غطاء اتفاق سياسي ووساطة دولية، لا يخلو من تبعات أمنية عميقة قد تتجاوز حدود المحافظة. 
ويري مراقبون أن حالة الفوضى التي خلفتها المعارك الأخيرة، وعدم وجود قوة نظامية واضحة على الأرض، تطرح أسئلة مقلقة عن احتمالية عودة الإرهاب من بوابة الجنوب، وهو ما يتطلب مراقبة دقيقة للمنطقة في الأيام والأسابيع المقبلة، وسط دعوات داخلية بضرورة الحفاظ على وحدة القرار الأمني، ومنع تحوّل السويداء إلى ساحة جديدة لتجارب التطرّف.

شارك