الإرهاب الرقمي في أوروبا.. صراع بين التكنولوجيا المتطرفة والأمن السيبراني
الأربعاء 10/سبتمبر/2025 - 01:14 م
طباعة

بات الإرهاب الرقمي يشكل أحد أخطر التحديات التي تواجه الاتحاد الأوروبي، في ظل التحولات العميقة التي يشهدها المشهد الأمني العالمي، حيث أصبحت الجماعات المتطرفة تعتمد على التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي كأدوات استراتيجية لبث خطاب الكراهية والتجنيد والتنسيق العملياتي عبر الحدود، مستفيدة من السرعة الفائقة التي يوفرها الفضاء الإلكتروني، وسهولة الوصول إلى جمهور واسع دون حاجة إلى تحركات ميدانية.
ومع تصاعد استخدام هذه الجماعات لتطبيقات مشفرة، ومنصات تواصل اجتماعي، وخوارزميات متطورة لتوليد المحتوى المضلل، أصبح من الصعب على المؤسسات الأمنية في أوروبا تتبع هذه الأنشطة أو التصدي لها بأساليب تقليدية، ما فرض ضرورة مراجعة شاملة للسياسات القائمة واعتماد استراتيجيات أكثر حداثة وشمولاً.
الرد الأوروبي لم يأتِ متأخرًا، لكنه يواجه فجوة واضحة بين التشريعات والأدوات الرقمية المعاصرة، فالاتحاد الأوروبي اعتمد اللائحة (2021/784) التي دخلت حيز التنفيذ في يونيو 2021، والتي تلزم منصات الإنترنت ومزودي خدمات الاستضافة بإزالة المحتوى المتطرف خلال ساعة واحدة من تلقي أمر رسمي من سلطة مختصة، مع وضع ضمانات تحمي حرية التعبير وحق الحصول على المعلومات.
وجاءت هذه اللائحة في سياق قانوني أوسع يتضمن قانون الخدمات الرقمية "DSA" وقانون الذكاء الاصطناعي "AI Act"، بهدف وضع أطر واضحة وشفافة لاستخدام التكنولوجيا بما لا يخل بالقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
لكن على الرغم من هذا الحراك التشريعي، فإن التطبيق العملي يواجه صعوبات عدة، أبرزها التفاوت الكبير في استجابة الدول الأعضاء داخل التكتل، ففي حين أظهرت دول مثل فرنسا وألمانيا وبلجيكا جاهزية أكبر لاعتماد وتنفيذ هذه القوانين من خلال سن تشريعات وطنية داعمة، وتشكيل وحدات متخصصة لمراقبة المحتوى المتطرف، لا تزال بعض الدول الأخرى تعاني من ضعف الإمكانيات، أو تردد سياسي في تطبيق إجراءات صارمة خوفًا من المساس بالحريات المدنية؛ ما يخلق فجوة أمنية تتيح للمتطرفين استغلال المساحات غير المنضبطة لنشر دعايتهم والتحرك دون رقيب.
منصة تنسيقية حيوية
في هذا الإطار، برز دور اليوروبول كمنصة تنسيقية حيوية، من خلال مركز مكافحة الإرهاب الأوروبي "ECTC"، الذي يتولى جمع وتحليل المعلومات الاستخباراتية، ورصد المحتوى المتطرف، وتوفير الدعم الفني والتقني للدول الأعضاء. وقد أطلق مشاريع مثل SIRIU لتعزيز التحقيقات الرقمية، وPERCI لإزالة المحتوى الإرهابي بالتعاون مع المنصات الكبرى.
كذلك شهد التعاون بين الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو دفعة جديدة من خلال توقيع اتفاق مشترك في يناير 2023 يهدف إلى حماية البنية التحتية من التهديدات السيبرانية، وتبادل المعلومات بين فرق الاستجابة للطوارئ، في خطوة تعكس إدراك المؤسسات الأوروبية بأن الأمن الرقمي أصبح جزءًا لا يتجزأ من الأمن القومي الشامل.
وفي موازاة هذه الإجراءات، لجأت أوروبا إلى توظيف الذكاء الاصطناعي في رصد وتتبع المحتوى الإرهابي بشكل أكثر دقة وسرعة، من خلال استخدام تقنيات تحليل اللغة الطبيعية، وتصنيف النصوص، والتعرف الآلي على الصور والفيديوهات التي سبق استخدامها في حملات دعائية متطرفة.
كما تم تطوير أدوات لمطابقة المحتوى المحذوف والكشف عن أنماط السلوك المشبوه، إلى جانب تطبيق آليات الحذف الفوري TERREG التي تُنفذ أوامر الإزالة في غضون ساعة واحدة.
غير أن هذا التوسع في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي أثار أيضًا تحفظات حقوقية، حيث حذرت منظمات عدة من أن غياب المعايير الواضحة والرقابة المؤسسية قد يؤدي إلى انتهاكات للخصوصية وفرض قيود غير مبررة على حرية التعبير، خاصة في الحالات التي تُعالج فيها البيانات بشكل آلي دون تدخل بشري أو تقييم موضوعي للسياق.
وفي ضوء تصاعد وتيرة التطرف الرقمي، بات من الضروري إدراك أن المعركة أصبحت تدور في ساحات غير مرئية من الخوادم المشفرة والمنصات الاجتماعية، حيث يتحول كل هاتف ذكي وكل خوارزمية إلى أداة محتملة لنشر العنف أو التجنيد أو التحريض.
وما يزيد من تعقيد المشهد هو الربط المتعمد الذي تجريه بعض الجماعات المتطرفة بين القضايا الساخنة في الشرق الأوسط وأفريقيا، وبين خطابها الموجه إلى المجتمعات الأوروبية، حيث تستخدم مشاعر الغضب والاحتقان لتبرير العنف واستقطاب عناصر جديدة، مستغلة غياب السرديات المضادة وضعف المناعة الرقمية لدى فئات معينة من السكان.
تهديدات إرهابية عابرة للحدود
ولأن التهديدات الإرهابية باتت عابرة للحدود وتزداد تعقيدًا بفعل التقنيات الحديثة، فإن الاستجابة الأوروبية يجب أن تقوم على ثلاثة أركان رئيسية، أولها، تحقيق التكامل الفعلي بين الدول الأعضاء من حيث التشريعات والتنفيذ، بما يضمن عدم وجود ثغرات تستغل داخل الفضاء الأوروبي، ثانيها، تحديث الإطار القانوني بما يتماشى مع تسارع التكنولوجيا، مع ضمانات قانونية تحمي حقوق الأفراد ولا تسمح بإفراط الرقابة، وثالثها، تعزيز الاستثمار في بناء القدرات الرقمية لدى أجهزة الأمن والسلطات القضائية، وتوسيع برامج التوعية المجتمعية للحد من قابلية التأثر بالدعاية المتطرفة.
ورغم أن الاتحاد الأوروبي اتخذ خطوات مهمة في هذا الاتجاه، إلا أن استمرار التفاوت في قدرات الدول الأعضاء، والانشغال المتزايد بقضايا السياسة الدفاعية والهجرة، قد يؤخر من بناء منظومة متماسكة لمكافحة الإرهاب الرقمي، وإذا ما استمرت هذه التباينات، فإن ذلك قد يضعف فعالية التدخلات الوقائية، ويتيح للجماعات المتطرفة فرصة إعادة التمدد داخل المجتمعات الأوروبية، مستغلة حالة الانقسام وضعف الاستعداد القانوني في بعض الدول.