التصعيد العسكري والدبلوماسي: آثار الغارة الإسرائيلية على قطر وملف الرهائن

الأربعاء 10/سبتمبر/2025 - 02:26 م
طباعة التصعيد العسكري والدبلوماسي: حسام الحداد
 
في 9 سبتمبر، نفّذت إسرائيل غارة جوية دقيقة على مقر قيادة حركة حماس في العاصمة القطرية الدوحة، مستهدفةً بشكل رئيسي كبير مفاوضي الحركة خليل الحية. ولم تكن العملية مجرد محاولة اغتيال محدودة، بل حملت دلالات استراتيجية واسعة تشير إلى تحول كبير في نهج إسرائيل تجاه الحركة. تأتي هذه الضربة بعد نحو عامين من الحرب الشاملة التي أعقبت هجمات 7 أكتوبر 2023، والتي أدت إلى خسائر فادحة وأثّرت على الديناميات العسكرية والسياسية في المنطقة. وقد فُسّرت العملية على أنها رسالة لإظهار العزم الإسرائيلي على التعامل مع قادة الحركة خارج غزة بنفس حزم التعامل معهم داخل القطاع، وكأن إسرائيل قررت توسيع نطاق المواجهة ليشمل كل مواقع القيادة الفلسطينية.
يمثل الهجوم تحولًا في سياسة إسرائيل التي كانت تعتمد سابقًا مزيجًا من الدبلوماسية والضغط العسكري المحدود، حيث كان الهدف غالبًا السيطرة على الوضع دون إثارة أزمات دبلوماسية كبيرة مع الدول العربية المضيفة. لكن بعد 7 أكتوبر، تبنّت الحكومة الإسرائيلية استراتيجية تعتمد القوة العسكرية أولاً، متجاهلة أي اعتبارات دبلوماسية، بما في ذلك المخاطر على حياة الرهائن المحتجزين والتوترات المحتملة مع الحلفاء الإقليميين والدوليين. وتعكس الغارة على الدوحة هذا التحول الصارخ، مؤشراً على أن إسرائيل مستعدة لتوسيع نطاق عملياتها ضد قيادة حماس في الخارج، مع التركيز على الرسائل الرمزية والسياسية بقدر التركيز على التأثير الميداني.

التحول في الحسابات العسكرية والسياسية
تاريخيًا، اتسمت العمليات الإسرائيلية في الدول العربية الصديقة أو المحايدة بالحذر الشديد، نظرًا للمخاطر الدبلوماسية والقانونية التي قد تنجم عنها. فقد أثبتت محاولات سابقة لاستهداف قيادات حماس خارج قطاع غزة، مثل محاولة اغتيال خالد مشعل في الأردن عام 1997، أنها قد تفضي إلى نتائج عكسية، إذ اضطرت إسرائيل إلى إطلاق سراح سجناء بارزين من الحركة بعد احتجاز عملاء الموساد، وتعرضت لانتقادات دولية واسعة. كذلك أثارت عملية اغتيال القائد العسكري محمود المبحوح في دبي عام 2010 إدانة من قبل المجتمع الدولي، مما دفع إسرائيل إلى التعامل بحذر مع أي عمليات مماثلة في الخارج.
غير أن أحداث 7 أكتوبر 2023 شكّلت نقطة تحول جذرية في الاستراتيجية الإسرائيلية. فالحكومة الإسرائيلية، بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، تبنّت نهجًا أكثر صرامة يعتمد على القوة العسكرية المباشرة لمواجهة حماس، متجاهلة الاعتبارات الدبلوماسية التقليدية. وقد شملت هذه الاستراتيجية حملة عسكرية موسعة في غزة، خلفت أكثر من 64 ألف قتيل فلسطيني، بالإضافة إلى توسيع نطاق العمليات إلى دول ومناطق أخرى في الشرق الأوسط.
امتدت العمليات الإسرائيلية لتشمل ضربات ضد حزب الله في لبنان، بالإضافة إلى غارات جوية على مواقع الحوثيين في اليمن، في إطار ما وصفته إسرائيل بمحاولة منع أي توسع لنفوذ الفصائل المسلحة التي تعتبرها تهديدًا لأمنها. كما شملت الاستراتيجية عمليات دقيقة في سوريا وإيران، مستهدفة البنية التحتية النووية وبعض القيادات الرئيسية، في خطوة تُظهر أن إسرائيل تتعامل مع تهديداتها بمنظور إقليمي شامل، وليس فقط على مستوى قطاع غزة.
يُشير الهجوم على مقر قيادة حماس في الدوحة إلى أن إسرائيل لم تعد تميّز بين قيادة الحركة داخل غزة وخارجها، وأن الهدف قد أصبح القضاء على الحركة بشكل كامل، سواء من الناحية الرمزية أو العسكرية. كما تعكس هذه الضربات تحولًا في مفهوم الحرب الإسرائيلية من مجرد الرد على الهجمات إلى حملة تفكيك منهجية، تهدف إلى تقويض قدرة حماس على التحكم في ساحة الصراع الفلسطينية والعلاقات الإقليمية المحيطة بها.

تأثير محدود على العمليات الميدانية
على الرغم من الأهمية الرمزية للضربة الإسرائيلية في الدوحة، يبدو أن تأثيرها العسكري على حركة حماس محدود نسبيًا. فالحركة منذ سنوات اعتمدت هيكلًا قيادة لامركزيًا، حيث تُتخذ معظم القرارات العملياتية داخل قطاع غزة نفسه، بعيدًا عن القيادات الموجودة في الخارج. هذا التوزيع في صنع القرار يُمكّن الحركة من الاستمرار في عملياتها الميدانية حتى في حال فقدان بعض قادتها خارج القطاع.
كما أن الضربة تحمل طابعًا رمزيًا ورسميًا أكثر منه تأثيرًا عمليًا مباشرًا. استهداف كبار المفاوضين والقيادات خارج غزة يبعث رسالة سياسية قوية ويُظهر عزم إسرائيل على توسيع نطاق العمليات، لكنه لا يعيق قدرة الحركة على إدارة العمليات اليومية أو التخطيط للهجمات والردود التكتيكية داخل غزة. فالقدرات الميدانية للحركة قائمة على خلايا وأجنحة مستقلة، يمكنها العمل بشكل فعال دون الحاجة لتوجيه مستمر من الخارج.
إضافة إلى ذلك، تُظهر التجربة السابقة أن فقدان قيادات خارجية لم يُحدث تغيرًا جذريًا في ديناميات الصراع داخل القطاع. فحتى مع استمرار الضربات، تظل حماس قادرة على التحكم بساحات الاشتباك، ومواءمة عملياتها العسكرية مع الوضع الميداني، ما يجعل الضربات في الخارج أداة ضغط سياسية أكثر منها وسيلة لتقويض القدرات العسكرية للحركة بشكل ملموس.

الرهانات على ملف الرهائن
تُعد الضربة الإسرائيلية في الدوحة حدثًا محوريًا على صعيد ملف الرهائن المحتجزين لدى حماس.  حيث استهدفت خليل الحية، وهو أحد كبار مفاوضي الحركة، ما يُرسل إشارة قوية على أن إسرائيل لم تعد تعوّل على أي دبلوماسية أو تفاوض لتسهيل الإفراج عن الرهائن. هذا التصعيد يقلّل بشكل كبير من فرص التوصل إلى اتفاق سريع لإطلاق الأسرى، ويُشير إلى أن إسرائيل باتت تعتمد أسلوب الضغط العسكري المباشر كوسيلة رئيسية لتحقيق أهدافها.
حاليًا، تحتجز حماس نحو 20 رهينة إسرائيليًا أحياء، بالإضافة إلى رفاة 30 آخرين. ويُظهر استهداف قيادات الحركة خارج غزة أن إسرائيل تريد توجيه رسالة واضحة بأن أي محاولات للتفاوض أو الوساطة قد لا تلقى تجاوبًا إذا لم تتغير موازين القوى على الأرض. هذا الأمر يعقّد أي جهود لإعادة الرهائن ويزيد من المخاطر المرتبطة بأي مسار تفاوضي مستقبلي، سواء كان تحت رعاية قطر أو أي طرف دولي آخر.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الضربة تُظهر كيف يمكن للتحركات العسكرية أن تؤثر على الملفات الإنسانية والدبلوماسية في الوقت نفسه. فحتى مع استمرار العمليات البرية في غزة، فإن فرص تحقيق أي انفراجة في ملف الرهائن تبدو ضئيلة، إذ تتسم ديناميات الأزمة بالتعقيد والتشابك بين الاعتبارات العسكرية والسياسية، ما يجعل أي حل قريب صعب التحقيق دون تغيير جذري في الاستراتيجية الإسرائيلية أو موقف حماس.

قطر في قلب الصراع الدبلوماسي
يُشكل الهجوم الإسرائيلي على الدوحة نقطة توتر كبيرة في الحسابات الدبلوماسية الإقليمية. فالضربة لم تقتصر على البعد العسكري أو الرمزي، بل حملت تبعات سياسية مباشرة على قطر، الدولة التي لعبت دورًا محوريًا في الوساطة بين إسرائيل وحماس، خاصة عبر المفاوضات غير المباشرة لملف الرهائن والتهدئة في غزة. ويُظهر هذا الحدث كيف يمكن للعملية العسكرية الواحدة أن تهز التوازن الدبلوماسي في المنطقة وتضع دولة كانت تعتبر وسيطًا موثوقًا في مواجهة موقف حرج.
قطر لطالما ساهمت في تقديم الدعم المالي والإنساني لقطاع غزة، بما في ذلك تمويل مشاريع إعادة الإعمار والمساعدات الأساسية للسكان المدنيين. وقد كانت هذه الجهود جزءًا من استراتيجية دبلوماسية لإبقاء الوضع الإنساني تحت السيطرة وتقليل تصاعد التوترات، مع الحرص على تقديم دعم غير مباشر للفلسطينيين دون الانخراط مباشرة في الصراع العسكري. لكن الضربة الإسرائيلية أعادت تعريف دور قطر، إذ اعتبرت إسرائيل استضافة قيادات حماس تهديدًا أمنيًا مباشرًا، ما جعل أي تحرك دبلوماسي قطري في المنطقة أكثر حساسية وتعرضًا للانتقاد.
بالإضافة إلى ذلك، تُعكس الضربة تحديات معقدة للعلاقات القطرية مع الولايات المتحدة وحلفائها في الخليج. فاستضافة الدوحة لقاعدة جوية أمريكية حيوية لعمليات الشرق الأوسط يجعل أي عمل عسكري إسرائيلي في أراضيها حساسًا للغاية. ومع ذلك، فقد أظهرت إسرائيل، عبر الضربة، أنها مستعدة لتحمل مخاطر التوتر الدبلوماسي، ما يضع قطر في موقف محرج بين الالتزامات الإقليمية والدولية وبين دورها كوسيط يسعى للحفاظ على مصالح الفلسطينيين وتجنب تصعيد النزاع.

تعقيد الاستراتيجية الأمريكية
وفق تقارير إعلامية وتحليلات دبلوماسية، أبلغت إسرائيل الحكومة الأمريكية بالهجوم على مقر قيادة حماس في الدوحة قبل تنفيذه، ما أثار تساؤلات حول مستوى موافقة واشنطن أو تسامحها مع العملية. هذا الإجراء وضع الولايات المتحدة في موقف حساس، حيث أن أي مشاركة أو قبول ضمني بالهجوم قد يُفسّر على أنه دعم لسياسات إسرائيل العسكرية في المنطقة، ويُثير انتقادات من قبل المجتمع الدولي وحلفاء واشنطن في الشرق الأوسط.
تستضيف قطر قاعدة جوية أمريكية كبيرة تُعتبر محورًا للعمليات الأمريكية في المنطقة، ما يجعل أي عمل عسكري إسرائيلي على أراضيها قضية معقدة للغاية. فوجود هذه القاعدة يعني أن أي تصور لتواطؤ أمريكي، حتى لو كان ضمنيًا، قد يضعف مصداقية واشنطن في التعامل مع أطراف أخرى، ويعقد جهودها في الوساطة لحل النزاعات أو استعادة الرهائن المحتجزين لدى حماس.
بالإضافة إلى ذلك، يسلط الهجوم الضوء على التحديات الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة. فواشنطن مضطرة للموازنة بين دعم إسرائيل كحليف رئيسي، والحفاظ على الاستقرار الإقليمي، وضمان استمرار دور قطر كوسيط موثوق في النزاعات الفلسطينية. أي تراجع عن هذه التوازنات قد يؤدي إلى تصعيد جديد، ويُضعف قدرة الولايات المتحدة على إدارة الملفات الإنسانية والسياسية، بما في ذلك ملف الرهائن والتسوية المحتملة للأزمات في غزة والمنطقة الأوسع.

تصعيد مستمر بلا نهاية واضحة
رغم الضربة الإسرائيلية على مقر قيادة حماس في الدوحة، تظل الحركة الطرف المسيطر على المشهد في قطاع غزة. ويعود ذلك جزئيًا إلى غياب أي بديل فلسطيني فعّال يمكنه تحدي سيطرة الحركة على الأرض، وليس بالضرورة نتيجة دعم شعبي واسع. فقد خلقت السنوات الطويلة من النزاع فراغًا مؤسسيًا وسياسيًا داخل القطاع، مكن حماس من الحفاظ على هيمنتها، حتى في مواجهة الضغوط العسكرية المكثفة والهجمات المستمرة من قبل إسرائيل.
تعكس الضربة في الدوحة تحولًا واضحًا في العقيدة الإسرائيلية تجاه الحركة الفلسطينية. فاستراتيجية إسرائيل لم تعد تقتصر على الرد الانتقائي أو استهداف المواقع داخل غزة فقط، بل توسعت لتشمل كل القيادات الخارجية، مع تقليل الاعتماد على الوسطاء الدبلوماسيين. هذا التحول يشير إلى اعتماد إسرائيل على الضغط العسكري المكثف كوسيلة أساسية لتحقيق أهدافها، حتى على حساب تصعيد التوترات الإقليمية والدبلوماسية.
إضافة إلى ذلك، تحمل هذه العمليات العسكرية رسائل سياسية واضحة للمنطقة بأسرها. فهي تُظهر استعداد إسرائيل لقبول ردود فعل محتملة من الدول المجاورة أو الأطراف الإقليمية، مقابل تحقيق أهدافها الاستراتيجية. وبذلك، يتحول النزاع من مجرد مواجهة محدودة إلى معركة موسعة تشمل الأبعاد العسكرية، السياسية، والدبلوماسية، مع استمرار حالة عدم اليقين حول نهاية واضحة للتصعيد أو التسوية المحتملة في المستقبل.

رهانات استراتيجية للولايات المتحدة
تشكل الضربة الإسرائيلية في الدوحة اختبارًا دقيقًا للاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، إذ تطرح أسئلة معقدة لإدارة بايدن أو أي إدارة أمريكية مستقبلية. أول هذه التساؤلات يتعلق بتوافق أهداف الحرب الإسرائيلية مع الأولويات الأمريكية الأساسية، مثل استعادة الرهائن المحتجزين لدى حماس والحفاظ على استقرار المنطقة. فالأعمال العسكرية المكثفة التي تتجاوز غزة وتستهدف قيادات الحركة في الخارج قد تُعيق جهود الوساطة الأمريكية وتقلل من فرص الوصول إلى حلول دبلوماسية فعالة.
ثانيًا، يثير دعم الولايات المتحدة لإسرائيل تساؤلات حول مدى قدرة واشنطن على الموازنة بين الالتزام بحلفائها والحفاظ على دورها كوسيط موثوق في النزاعات الإقليمية. فالضغط العسكري الإسرائيلي، الذي يتضمن استهداف مواقع قيادية خارج غزة، قد يُفسّر داخليًا وخارجيًا على أنه تصعيد غير متوافق مع التزامات السلام الإقليمي، ما يُضعف الثقة الأمريكية لدى الدول العربية والوساطات الدولية، ويزيد من صعوبة تنسيق الجهود الدبلوماسية لإدارة الأزمة الإنسانية والسياسية في قطاع غزة.
أخيرًا، تضع الضربة إدارة الولايات المتحدة أمام رهانات طويلة الأمد تتعلق بالاستقرار الإقليمي والتحالفات الاستراتيجية. فالدعم غير المشروط لإسرائيل، رغم أهميته للحفاظ على العلاقة الثنائية، قد يؤدي إلى نتائج عكسية تتمثل في تصعيد النزاعات، تقويض الجهود الدبلوماسية، وزيادة المخاطر على المدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء. وبذلك، تصبح الولايات المتحدة مضطرة لإعادة النظر في استراتيجيتها، بحيث توازن بين دعم الحليف الإسرائيلي وتحقيق أهدافها في السلام الإقليمي وحماية مصالحها في المنطقة.
الخلاصة
ضربة الدوحة ليست مجرد عملية عسكرية؛ إنها نقطة تحول استراتيجية في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وتشكل اختبارًا لمرونة الوساطة الأمريكية والدبلوماسية الإقليمية، مع انعكاسات واسعة على الاستقرار في الشرق الأوسط.

شارك