استراتيجية باكستان الجديدة.. مواجهة مفتوحة مع الخلايا الإرهابية

الإثنين 06/أكتوبر/2025 - 10:00 م
طباعة استراتيجية باكستان محمد شعت
 

تشهد باكستان منذ مطلع العام 2025 تصعيدًا لافتًا في المواجهات الأمنية مع الجماعات المسلحة، في وقت تُعيد فيه الحكومة والجيش رسم معادلة الردع ضد الخلايا الإرهابية التي تستنزف البلاد منذ عقدين. آخر فصول هذا التصعيد جاء في بلوشستان، حيث قُتل أربعة عناصر من تنظيم "فتنة الهندستان" المرتبط بالهند، خلال اشتباكات مع القبائل المحلية في منطقة كوركي، بعد يوم واحد فقط من عملية أمنية كبرى في خوزدار أسفرت عن مقتل 14 مسلحًا من التنظيم نفسه.

هذه المواجهات، التي تعكس حجم التوتر الأمني في الإقليم الغربي، ليست حوادث متفرقة بقدر ما هي مخرجات مباشرة لاستراتيجية باكستانية جديدة ترتكز على "الضربات الاستباقية، وتوسيع التنسيق مع القبائل، ورفع مستوى الجاهزية الاستخباراتية" في مناطق التماس مع أفغانستان والهند.

 

تكتيكات جديدة.. وبيئة أمنية متفجرة

 

وفق مصادر أمنية باكستانية، فإن الاشتباكات الأخيرة في كوركي وخوزدار تمثل جزءًا من سلسلة عمليات تستهدف ما تصفه إسلام أباد بـ"الخلايا الإرهابية المدعومة من الخارج"، لا سيما تلك المرتبطة بوكالات استخبارات هندية. ويقول مسؤولون أمنيون إن هذه الخلايا تسعى لزعزعة استقرار إقليم بلوشستان وإشغال الجيش عن مهامه الحدودية.

تشير البيانات الميدانية إلى أن القوات الباكستانية نفذت خلال الأشهر الثلاثة الماضية أكثر من 40 عملية واسعة النطاق في بلوشستان وخيبر باختونخوا، من بينها عمليات نوعية في مستونغ، وزُهُوب، وكويتا، أسفرت عن مقتل العشرات من المسلحين، وتدمير مخابئ وأنفاق تحت الأرض. كما اعتمدت قوات الجيش على "الضربات الجوية المحدودة" والطائرات المسيرة لتقليل خسائرها في المناطق الجبلية الوعرة.

ويقول مركز البحوث والدراسات الأمنية (CRSS) في أحدث تقرير له إن باكستان شهدت ارتفاعًا بنسبة 46% في العنف خلال الربع الثالث من العام الجاري، مع تسجيل 329 حادثة، أسفرت عن مقتل 901 شخصًا بينهم 516 من الخارجين عن القانون. أكثر من 96% من تلك الحوادث وقعت في إقليمي خيبر باختونخوا وبلوشستان، ما يعكس تركز النشاط الإرهابي في المناطق الحدودية المتاخمة لأفغانستان، والتي تمثل ـ وفق تقييمات أمنية ـ "الحلقة الأضعف" في منظومة الأمن القومي الباكستاني.

وتعتمد الاستراتيجية الجديدة على "تفكيك خطوط الإمداد اللوجستي" لتلك الجماعات وقطع التواصل بينها وبين داعميها الخارجيين، مع تعزيز التعاون بين الجيش وجهاز الاستخبارات (ISI) في عمليات الرصد والتحليل المسبق للتهديدات. كما كثف الجيش من الاعتماد على وحدات "الرد السريع" التي تتمركز في مناطق القبائل، وتتحرك فور رصد أي نشاط إرهابي مشتبه به.

 

إسناد القبائل

 

اللافت في العمليات الأخيرة أن القبائل المحلية باتت تلعب دورًا مباشرًا في التصدي للمسلحين، في مشهد يذكّر بمرحلة "اللجان الشعبية" التي شكلتها الدولة عام 2015 لمواجهة تنظيم طالبان باكستان. فبعد هجوم "فتنة الهندستان" على سكان كوركي، بادرت القبائل إلى الرد بالسلاح قبل تدخل الجيش، ما يعكس حالة من التماهي بين المؤسسة الأمنية والمجتمع المحلي، الذي بات يعتبر الإرهاب تهديدًا وجوديًا لحياته ومعاشه.

وتشير مصادر محلية إلى أن القبائل البلوشية أبلغت السلطات مسبقًا بتحركات الجماعة الإرهابية في المنطقة، وأن المعلومات التي قدمتها ساعدت القوات الخاصة في تنفيذ عملية خوزدار بدقة عالية. وبحسب مسؤول أمني، فإن الجيش يعمل على "دمج القبائل في منظومة الإنذار المبكر" عبر خطوط اتصال مباشرة، تتيح تبادل المعلومات الميدانية خلال دقائق.

هذا التوجه، وفق محللين أمنيين في إسلام أباد، يمثل تحوّلًا نوعيًا في مقاربة الجيش، إذ لم تعد المواجهة مقتصرة على العمليات العسكرية، بل أصبحت جزءًا من "مواجهة مجتمعية شاملة" تهدف إلى عزل الجماعات المتطرفة عن حاضنتها الاجتماعية وتجفيف مواردها البشرية والمالية.

 

في السياق ذاته، يبرز البعد السياسي للاستراتيجية الجديدة، حيث يسعى الجيش إلى "ربط الأمن الداخلي بالدبلوماسية الخارجية". فالمؤسسة العسكرية كثّفت من الاتصالات مع دول الجوار لإحباط أي محاولات لاستخدام الأراضي الإقليمية كممر لتمويل أو تدريب المسلحين. كما أن إسلام أباد وجهت رسائل حادة إلى نيودلهي عبر قنوات استخباراتية، متهمة الهند بالوقوف وراء تنظيمات مثل "فتنة الهندستان" و"الجيش البلوشي الحر" من خلال ما تصفه بـ"الحرب الهجينة"، التي تستهدف ضرب الاستقرار الداخلي عبر خلايا نائمة وتمويل عمليات تخريبية.

 

الجيش في الواجهة

 

في خضم هذا التصعيد، برزت تصريحات رئيس الأركان الباكستاني، الجنرال أسيم منير، الذي أكد في أكثر من مناسبة أن "الدماء التي تسفك على أرض باكستان لن تذهب هدرًا"، وأن الجيش "سيرد بقوة على كل يد تمتد لزعزعة أمن البلاد، أياً كان مصدرها". وأضاف في خطاب أمام وحدات عسكرية في بلوشستان أن "كل من يعتقد أن بإمكانه استخدام العنف كأداة ضغط سياسي، فهو واهم".

هذه اللغة الحازمة تعكس تحولًا في "عقيدة الردع الباكستانية" التي لم تعد تكتفي بالدفاع عن الحدود، بل باتت تستهدف عمق التنظيمات الإرهابية. كما تسعى القيادة العسكرية إلى توجيه رسائل مزدوجة: داخلية تطمئن الرأي العام على قدرة الجيش، وخارجية تُحمّل الهند مسؤولية التوتر المتصاعد.

ويشير محللون إلى أن التصعيد الحالي يأتي في ظل إدراك متزايد لدى إسلام أباد بأن "التراخي" في مواجهة الإرهاب لن يؤدي إلا إلى اتساع رقعة الفوضى، خصوصًا بعد تزايد تسلل عناصر من حركة طالبان الأفغانية وتنظيم داعش–خراسان إلى الأراضي الباكستانية. ولذلك، يولي الجيش اهتمامًا خاصًا بالمناطق الحدودية المشتركة التي تُعد المعبر الرئيسي للمسلحين والسلاح، في حين تعمل الحكومة على "تعزيز التعاون الأمني مع كابول" رغم التوترات السياسية القائمة.

 

 

رسائل القوة

 

تؤكد مجمل المعطيات أن الحكومة الباكستانية تتجه نحو "مقاربة أكثر شمولًا" لمواجهة الإرهاب، تقوم على الدمج بين الأدوات العسكرية والاستخباراتية والمجتمعية، بالتوازي مع تحركات دبلوماسية لتعبئة الدعم الإقليمي والدولي. إلا أن التحدي الأكبر يتمثل في قدرة إسلام أباد على "الحفاظ على زخم العمليات دون الانزلاق إلى صراع داخلي مفتوح"، خصوصًا في ظل هشاشة الوضع الاقتصادي واستمرار التوتر مع الهند.

ويبدو أن بلوشستان، التي لطالما كانت بؤرة النزاعات الانفصالية، أصبحت اليوم ساحة رئيسية لإعادة صياغة معادلة الأمن الباكستاني، حيث تتقاطع فيها الحسابات القبلية مع المصالح الإقليمية. فنجاح الجيش في تفكيك شبكات "فتنة الهندستان" وغيرها من التنظيمات المرتبطة بالخارج سيعني توجيه ضربة مزدوجة: للأذرع الأمنية التي تحركها نيودلهي من جهة، ولشبكات التمويل والتهريب العابرة للحدود من جهة أخرى.

لكن في المقابل، يدرك صناع القرار في إسلام أباد أن "المعركة طويلة ومعقدة"، وأن القضاء الكامل على الإرهاب يتطلب معالجة الجذور الاجتماعية والسياسية التي تغذيه. فبدون استقرار اقتصادي وتنمية متوازنة في الأقاليم المهمشة، سيظل الإرهاب يجد له بيئة خصبة تعيد إنتاجه.

ورغم هذه التحديات، فإن المؤشرات الميدانية خلال الأشهر الماضية ـ من انخفاض عدد الهجمات الانتحارية، إلى تصاعد وتيرة العمليات النوعية ـ توحي بأن الجيش نجح في استعادة زمام المبادرة، وأن الرسالة الأهم التي أرادت باكستان إيصالها قد وصلت: "المعركة ضد الإرهاب لم تعد معركة دفاعية، بل حرب استباقية مفتوحة ضد كل من يهدد أمن الدولة وهيبتها".

 

شارك