تصعيد إرهابي يختبر صلابة المجلس العسكري في مالي ويهدد بتفجير الداخل
الخميس 09/أكتوبر/2025 - 04:05 م
طباعة

تشهد مالي واحدة من أخطر مراحل التوتر الأمني في تاريخها الحديث، وسط تصعيد ميداني غير مسبوق تقوده جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين"، الفرع المحلي لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.
في الوقت الذي تسعى فيه السلطات الانتقالية، بقيادة المجلس العسكري، إلى ترميم الدولة ومؤسساتها الأمنية، يجد هذا المشروع نفسه أمام اختبار وجودي قاسٍ، قد يعيد البلاد إلى فوضى ما قبل الدولة، أو يؤسس لمرحلة حاسمة من فرض السيادة الكاملة.
حرب استنزاف متعددة الجبهات
المشهد الميداني معقد ومتسارع. فالتنظيم الإرهابي كثف من عملياته في الجنوب والشمال، لا سيما في سيكاسو وتمبكتو، مستهدفًا مواقع عسكرية، قوافل لوجستية، وحتى مدنيين على الطرق العامة، هذه الهجمات لم تكن مجرد عمليات خاطفة، بل تضمنت احتلالًا مؤقتًا لمواقع عسكرية، وحصارًا خانقًا لمدن حيوية، وعمليات اختطاف ممنهجة.
تزامن هذا التصعيد مع أزمة وقود حادة، فاقمت من اختناق الاقتصاد الداخلي، وحركت الشارع في باماكو ومناطق أخرى، ناقلات الوقود المحمية من الجيش أصبحت أهدافًا مباشرة، ما يعكس رغبة التنظيم في شل مفاصل الدولة وتعطيل دورة الحياة اليومية.
في هذا السياق، لم تتردد القوات المالية، مدعومة بمقاتلي "الدوزو" – وهم ميليشيات محلية تقليدية – في الرد عبر عمليات ميدانية مكثفة، خصوصًا في إقليم سيغو، حيث تم الإبلاغ عن انتهاكات خطيرة، شملت إعدامات ميدانية ومجازر بحق مدنيين من عرقيات الفولاني والبامبارا والبوذو، هذه الوقائع تعكس هشاشة الوضع الأمني، والانزلاق المتزايد نحو العنف الطائفي والانتهاكات خارج القانون.
فوضى أمنية وتصدع اجتماعي
لم تتوقف الجماعة الإرهابية عند العمليات العسكرية فقط، بل تبنت تكتيكًا موازيًا يتمثل في اختطاف المسؤولين المحليين، عمليات مثل اختطاف عمدة كونا، ورئيس المجلس الإقليمي لسيغو، تعكس محاولة التنظيم شل الإدارة المحلية وزرع مناخ الخوف وعدم الاستقرار السياسي في المناطق الريفية والنائية.
هذه الفوضى المتصاعدة تهدد النسيج الاجتماعي ذاته، وتضعف قدرة الدولة على بسط سلطتها، ليس فقط عسكريًا، بل أيضًا إداريًا وخدميًا، وفي ظل هذا التدهور، فشلت الوساطات المحلية كما حدث في موبتي في التوصل إلى أي حلول عملية، خصوصًا لفك الحصار عن المحروقات والسلع الأساسية.
رسائل استراتيجية مزدوجة من القاعدة
التحليل السياسي لهذا التصعيد يكشف عن نوايا أعمق من مجرد ضربات تكتيكية. فبحسب المتخصصين في الشأن الأمني بمنطقة الساحل، تحمل هجمات "نصرة الإسلام" رسائل مركبة فهي من جهة تسعى إلى زعزعة ثقة المواطنين بالسلطات الانتقالية، ومن جهة أخرى توجه إشارات سلبية للمجتمع الدولي، مفادها أن مالي غير قادرة على تأمين أراضيها دون دعم خارجي.
ومع انسحاب قوات دولية أبرزها "برخان" الفرنسية وتوجه باماكو نحو الاعتماد الكامل على قدراتها الذاتية وشراكاتها الجديدة (بما فيها غير التقليدية)، فإن هذه المرحلة تمثل لحظة مفصلية في معركة "التحرر الأمني"، بكل ما تحمله من مخاطر وفرص.
استراتيجيات الرد العسكري والرهان الشعبي
رغم التعقيدات، تظهر السلطة العسكرية تمسكًا بخيار المواجهة الجيش المالي، الذي شهد خلال العامين الماضيين إعادة هيكلة جزئية وتدريبات مكثفة، بدأ يحقق مكاسب موضعية، أبرزها استعادة السيطرة على مناطق كانت خارج سلطة الدولة تمامًا.
ويرى محللون أن الاستعانة بالقوى التقليدية، مثل "الدوزو"، قد تكون سلاحًا ذا حدين؛ فهي توفر دعمًا ميدانيًا سريعًا ومرنًا، لكنها تفتح في المقابل الباب أمام انتهاكات حقوقية قد تقوض شرعية الدولة الانتقالية.
ورغم التحديات، يحظى المجلس العسكري حاليًا بدعم شعبي نسبي، مستمد من وعوده بالسيادة الوطنية، ورفضه للوصاية الدولية، ومحاولته الحثيثة لبناء جيش وطني مستقل، هذا التأييد الشعبي هو السند الحقيقي لاستراتيجية باماكو، لكنه قد لا يصمد طويلًا إن استمرت الفوضى الأمنية والاقتصادية دون حلول ملموسة.
خيارات مرة
مما لا شك فيه أن الأحداث الأخيرة تضع مالي أمام خيارين لا ثالث لهما: إما تعزيز قدرة الدولة المركزية على احتواء التهديدات، وتحقيق اختراق نوعي في معركة الأمن، أو الانزلاق مجددًا إلى فوضى السلاح والإرهاب والولاءات الإثنية.
فالتنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها "جماعة نصرة الإسلام"، لن تتراجع طوعًا، وهي تراهن على إطالة أمد الفوضى لاستنزاف الدولة من الداخل، وربما دفعها إلى التفاوض أو التنازل.
كما يواجه المجلس العسكري اختبارًا عسيرًا، ليس فقط على المستوى الأمني، بل أيضًا على صعيد الشرعية السياسية، وتماسك الجبهة الداخلية، ومصداقية مشروع الدولة السيادية، لذا يتوقف مستقبل مالي، على مدى قدرة سلطاتها على الجمع بين الحسم العسكري، والإصلاح المؤسساتي، والإنصاف الاجتماعي، في معركة مفتوحة لا تقبل أنصاف الحلول.