أنقرة ترحب بخطوة "العمال الكردستاني" وتقرأها كبوابة لتصفية الصراع

الثلاثاء 28/أكتوبر/2025 - 12:54 م
طباعة أنقرة ترحب بخطوة محمود البتاكوشي
 
في تحول لافت على الساحة التركية، وصفت الرئاسة التركية قرار حزب العمال الكردستاني (PKK) سحب عناصره من داخل الأراضي التركية ومن الشريط الحدودي مع العراق بأنه "خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح"، معتبرة أنه تطور قد يسهم في تعزيز المسار الديمقراطي وفتح آفاق جديدة أمام مشروع المصالحة الداخلية.
القرار، الذي أعلنه الحزب بعد أنباء عن حل نفسه استجابة لدعوة زعيمه التاريخي عبد الله أوجلان، حظي بترحيب رسمي من أنقرة، وسط مراقبة دقيقة من الأجهزة السياسية والأمنية لتطورات التنفيذ على الأرض.
نائب الرئيس التركي جودت يلماز كتب عبر منصة "إن سوسيال" أن "إبعاد مقاتلي التنظيم الإرهابي عن بلادنا والحدود خطوة إيجابية تستحق الترحيب"، مشددًا على أن تركيا تتابع هذه العملية "عن كثب"، وأن ما تنتظره الآن هو تحول هذه الخطوة الرمزية إلى عملية تصفية كاملة للتنظيم وعناصره.
وأضاف يلماز أن انتهاء مرحلة السلاح والعنف سيمهد لحقبة جديدة من الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي، مؤكدًا أن السلام الدائم لن يتحقق إلا بإزالة ما وصفه بـ"ظلال الإرهاب" التي خيمت لعقود على جنوب وجنوب شرق البلاد.
من زاوية أخرى، حملت تصريحات يلماز دلالات سياسية أبعد من مجرد الترحيب، إذ أشار إلى أن "خلو تركيا والمنطقة من الإرهاب هو شرط أساسي لسلامنا ورفاهنا، ولرفاه جيراننا أيضًا"، معتبرًا أن ذلك يشكل ردًا حاسمًا على القوى التي تسعى لنسج فخاخ إمبريالية في منطقتنا.
 هذه الإشارة فسرت على نطاق واسع باعتبارها اتهامًا مبطنًا للقوى الغربية التي طالما استخدمت ورقة التنظيمات الكردية كورقة ضغط في علاقاتها مع أنقرة.
وبحسب مصادر مطلعة، فإن عملية سحب العناصر المسلحة إلى شمال العراق تجري بإشراف مباشر من مقربين من أوجلان، وبما يتماشى مع دعوته السابقة إلى حل الحزب ووقف العنف.
وينظر إلى هذه الخطوة كأول تنفيذ فعلي لتوصيات الزعيم الكردي المعتقل منذ عام 1999، والتي لطالما دعت إلى تحويل النضال من المسار المسلح إلى المسار السياسي والاجتماعي.
خطوة تكتيكية أم تحول استراتيجي؟
رغم الأجواء الإيجابية التي تحيط بالقرار، لا تزال الأوساط السياسية التركية منقسمة حول تفسيره، فبينما يرى البعض أنه بداية النهاية لتنظيم العمال الكردستاني، يعتبر آخرون أنه تكتيك جديد لإعادة التموضع في ظل الضغوط العسكرية والاستخباراتية المتواصلة من الجيش التركي داخل الأراضي العراقية والسورية.
ويرى محللون أن توقيت الخطوة يتزامن مع تغيرات إقليمية مهمة، أبرزها التفاهمات الأمنية بين أنقرة وبغداد، وبدء تنسيق أوسع مع حكومة إقليم كردستان العراق لضبط الأنشطة المسلحة في المناطق الجبلية الحدودية، هذا المناخ الإقليمي قد يكون أحد العوامل التي دفعت قيادة الحزب إلى تجنب مواجهة مفتوحة مكلفة، وإعادة ترتيب صفوفها سياسيًا بدلًا من عسكريًا.
ومع ذلك، يبقى الاختبار الحقيقي في مدى التزام الحزب فعلًا بتصفية هياكله المسلحة وعدم استخدام مناطق شمال العراق كمجرد ملاذ مؤقت، خاصة أن تجارب مماثلة في السنوات الماضية لم تكتمل بسبب انقسامات داخلية وصراعات قيادة.

ومما لا شك فيه أنه سواء أكانت هذه الخطوة تمهيدًا لتحول جذري في مسار القضية الكردية داخل تركيا، أم مناورة تكتيكية مؤقتة، فإنها تمثل من دون شك نقطة مفصلية في الصراع الممتد منذ أربعة عقود، وبين تفاؤل أنقرة الحذر، وترقب القوى الإقليمية والدولية، يبقى السؤال هل تكتب فعلًا نهاية حقبة السلاح بين الدولة التركية والعمال الكردستاني، أم أننا أمام هدنة مؤقتة في حرب لم تطوَ صفحاتها بعد؟.

ملف سوريا والعراق على الطاولة
في سياق متصل رجحت صحيفة "حرييت" التركية أن يكون قرار حزب العمال الكردستاني (PKK) سحب مقاتليه من داخل تركيا مقدمة لإنهاء نشاطه المسلح بالكامل في سوريا والعراق، في إطار مسار منسق يخضع لإشراف مباشر من جهاز الاستخبارات التركي (MİT).
الكاتب والمحلل السياسي عبد القادر صيلفي، المقرب من دوائر صنع القرار في أنقرة، أوضح أن هذا المسار "ليس مجرد انسحاب تكتيكي، بل عملية منظمة تتضمن مراحل متتابعة"، تبدأ بوقف النشاط المسلح داخل تركيا وسحب القوات إلى خارج الحدود، ثم إخلاء معاقل الحزب في شمال العراق، وصولًا إلى حل الحزب رسميًا ككيان مسلح.
وكتب صيلفي في مقاله بالصحيفة:
"المرحلة الأولى، وهي سحب المقاتلين من الداخل التركي، قد أنجزت بالفعل والآن، مع الإعلان الأخير، اكتسب المسار زخمًا إضافيًا، ما يفتح الباب أمام خطوة تاريخية نحو تصفية كاملة للتنظيم."
حل الحزب وتوجيهات أوجلان
تأتي هذه التطورات في أعقاب إعلان الحزب، في مايو الماضي، حل نفسه استجابة لدعوة زعيمه عبد الله أوجلان، المسجون في جزيرة إيمرالي منذ عام 1999، وكان أوجلان قد دعا مرارًا، من داخل محبسه، إلى تحويل النضال الكردي من المسار المسلح إلى المسار السياسي والمدني، وإلى بناء نموذج للحكم الذاتي الديمقراطي ضمن الدولة التركية.
وتشير مصادر تركية إلى أن انسحاب المقاتلين من الأراضي التركية يجري "وفق تفاهمات غير معلنة" بين أنقرة وقيادات في الحزب، عبر قنوات أمنية وسياسية بإشراف الاستخبارات.
وتؤكد المعطيات أن المرحلة التالية ستشمل إخلاء قواعد الحزب في جبال قنديل وسنجار ومخمور شمال العراق، وهي المناطق التي شكلت لعقود مركز الثقل العسكري للتنظيم.
الرمزية الميدانية والرسالة السياسية
في يوليو الماضي، شهدت مدينة السليمانية العراقية مشهدًا غير مسبوق، حين قام نحو 30 مقاتلًا من الحزب بحرق أسلحتهم علنًا، في خطوة وصفت بأنها "رمزية لكنها مشحونة بالمعنى السياسي"، إذ تعكس استعدادًا مبدئيًا لطي صفحة السلاح.
أنقرة اعتبرت الحدث مؤشرًا عمليًا على جدية المسار الجديد، لكنها في الوقت نفسه أبقت على لهجة حذرة فقد حذر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أن "أي محاولة من الحزب لعرقلة العملية السلمية أو المناورة الميدانية ستقابل برد عسكري حاسم"، في إشارة إلى أن الجيش التركي سيبقي على جاهزيته الميدانية في شمال العراق وسوريا إلى حين التأكد من التنفيذ الكامل للاتفاق.
التأثير على الساحة السورية
تسعى أنقرة، وفق تقديرات المراقبين، إلى توسيع هذا المسار ليشمل مناطق نفوذ الحزب في شمال سوريا، ولا سيما الفصائل المرتبطة به مثل وحدات حماية الشعب (YPG) وذراعها السياسي قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
 وترى تركيا أن إنهاء وجود الحزب في سوريا والعراق شرط أساسي لضمان أمنها القومي، ولبناء تسوية إقليمية جديدة مع دمشق وبغداد على قاعدة تصفية البنية المسلحة الكردية على حدودها الجنوبية.
ويرى خبراء أن المخابرات التركية تتحرك حاليًا في إطار "عملية مركبة" تستند إلى ضغط ميداني مستمر عبر الضربات الجوية على قواعد الحزب في قنديل وسنجار، بالتوازي مع قنوات سياسية مفتوحة مع الأطراف الكردية الأقل تشددًا، تمهيدًا لدمجها في ترتيبات ما بعد الحزب.

معلومات عن حزب العمال الكردستاني 
تأسس حزب العمال الكردستاني عام 1978 في قرية "فيس" التابعة لمحافظة دياربكر جنوب شرق تركيا، على يد مجموعة من الطلاب اليساريين بقيادة عبد الله أوجلان، في مرحلة كانت تركيا تشهد اضطرابات سياسية وأيديولوجية حادة بين التيارات اليسارية والقومية والإسلامية. 
حمل الحزب منذ بداياته أيديولوجيا ماركسية-لينينية، ورفع شعار التحرر القومي الكردي عبر النضال المسلح ضد الدولة التركية بهدف إقامة دولة كردية مستقلة في مناطق الأكراد الممتدة بين تركيا وسوريا والعراق وإيران.
البدايات والنشاط المسلح
في عام 1984، وبعد ست سنوات من العمل التنظيمي السري، أعلن الحزب بدء الكفاح المسلح ضد الدولة التركية عبر جناحه العسكري المعروف باسم قوات الدفاع الشعبي (HPG). انطلقت العمليات الأولى في محافظتي شرناق وهكاري، واستهدفت مراكز عسكرية ومؤسسات حكومية، لتدخل تركيا بعدها مرحلة من العنف المتبادل بين الجيش والمتمردين الأكراد استمرت لعقود.
 خلال التسعينيات، بلغت المواجهات ذروتها، حيث شهدت المناطق الكردية حملات عسكرية واسعة من قبل الجيش التركي، ترافقت مع تهجير مئات القرى، وسقوط عشرات الآلاف من القتلى، معظمهم من المدنيين.
التحول الأيديولوجي والقبض على أوجلان
في عام 1999، ألقي القبض على زعيم الحزب عبد الله أوجلان في عملية استخباراتية معقدة بعد خروجه من السفارة اليونانية في نيروبي، ونقل إلى تركيا حيث حكم عليه بالإعدام، ثم خفف الحكم إلى السجن المؤبد بعد إلغاء عقوبة الإعدام عام 2002.
 من داخل سجنه في جزيرة إيمرالي، بدأ أوجلان في مراجعة فكر الحزب، داعيًا إلى تحول استراتيجي من النضال الانفصالي إلى المطالبة بحكم ذاتي ديمقراطي داخل الدولة التركية، وإلى التخلي عن فكرة الدولة القومية الكردية لصالح نموذج “الكونفدرالية الديمقراطية” الذي يقوم على الإدارة المحلية والتمثيل الشعبي.
محاولات السلام وتعثر المسار
شهدت الأعوام بين 2013 و2015 فترة ما عرف بـ"عملية السلام الداخلي"، حيث جرت مفاوضات غير مباشرة بين الحكومة التركية والحزب عبر وسطاء أكراد ونواب من حزب الشعوب الديمقراطي (HDP).
 خلال تلك الفترة، أعلن الحزب وقفًا لإطلاق النار وسحب مقاتليه من الأراضي التركية باتجاه شمال العراق، لكن العملية انهارت عام 2015 بعد تفجيرات دموية واتهامات متبادلة بخرق الهدنة، لتعود المواجهات المسلحة إلى المشهد، وإن بشكل أقل كثافة من التسعينيات.
التمدد الإقليمي والانقسامات
مع اندلاع الأزمة السورية عام 2011، برزت وحدات حماية الشعب (YPG) كقوة عسكرية كردية في شمال سوريا، تعتبر امتدادًا تنظيميًا وفكريًا لحزب العمال الكردستاني، وقد أثار دعم الولايات المتحدة لهذه القوات غضب أنقرة، التي اعتبرتها ذراعًا للحزب داخل الأراضي السورية.
 في المقابل، سعى الحزب إلى تعزيز وجوده في جبال قنديل شمال العراق، التي أصبحت مركزه الرئيسي بعد التضييق عليه داخل تركيا.
رغم ذلك، واجه الحزب انقسامات داخلية بين أجنحة تميل إلى الخط السياسي المتدرج وأخرى متشددة تؤمن بالعمل العسكري المستمر. هذه الانقسامات، إضافة إلى الضربات الجوية التركية المتكررة على قواعده في العراق وسوريا، أضعفت قدرته التنظيمية وأثرت على تماسكه الأيديولوجي.
التصنيف الدولي
يعد الحزب منظمة إرهابية وفق تصنيف تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وتستند هذه الدول إلى سجل الحزب في العمليات المسلحة التي أوقعت أكثر من 40 ألف قتيل منذ ثمانينيات القرن الماضي، إضافة إلى استهدافه مدنيين وعسكريين على حد سواء.

شارك