الإخوان والسينما .. الجزء الثاني

الإثنين 17/مارس/2014 - 03:53 م
طباعة الإخوان والسينما
 
بعد أن استعرضنا بعض كتابات صلاح شادي ومحمد عثمان الديب وإبراهيم هلال وكريمان حمزة وزيبن الغزالي، وهم من المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين، أو من المتعافين معهم على الأقل والمحسوبين عليهم، حول السينما ومخازيها ومفاسدها وضرورة محاربتها والحد من شرورها، نواصل الرحلة مع الكاتبين أحمد جاد ويوسف كمال، وصولاً إلى محطة رئيس تحرير المجلة، الأستاذ صالح عشماوي.
*الأفلام الماجنة*
في العدد رقم "39"، أغسطس 1979، تنشر "الدعوة" مقالاً للدكتور أحمد جاد، عنوانه: "من ذا يقول لقادة الإعلام.. رمضان شهر شعائر المسلمين"، ويحمل الكاتب بقسوة على ما يُعرض في التليفزيون، خلال الشهر الكريم، من أفلام يصفها العنوان الجانبي بأنها "ماجنة"، والمزيد من التفاصيل عن هذا المجون نجدها في قوله: "وإذا انتقلنا نقلة أخرى إلى بعض ما يُقدم في رمضان، وبناء على ما مضى من تجارب، وجدنا في لياليه وأيامه مساحات زمنية عريضة، يشغلها هذا الإسفاف الطافح الذي يُسمى "الأفلام العربية".. ولا أدري لماذا الإصرار هنا على وصفها بالعربية.. في الوقت الذي تتنكر فيه لبعض ما هو عربي. ومن المعروف أن معظم الأفلام التي يعرضها التليفزيون هي من الأفلام التي لفظتها دور السينما وابتذلها التداول، ولا تحمل فكرة سامية، ولا تقدم علاجًا نقيًا، وكل ما يرشحها عند التليفزيون أنها رخيصة الثمن!..ونقول له: رخيصة أيضًا فيما دون ذلك، وأكثرها ما هو إلا كباريهات متنقلة.. أو غرف بلا نوافذ!! وما هي غلا تصوير لحياة من يمثلونها أو أشباههم من المرفهين الذين أفرزهم مجتمع الحرب العالمية والاحتلال الأجنبي والغزو الاستعماري والحكم الاستبدادي".
لاشك أن كثيرًا من الأفلام المصرية تتسم بالإسفاف والابتذال، ولا يليق عرضها تليفزيونيًا في شهر الصيام أو غيره من الشهور، لكن المغالطة واضحة في تصور الكاتب أن التليفزيون لا يشتري إلا ما هو رخيص ماديًا وفنيًا، فعديدة هي الأفلام التي يعرضها الجهاز الجماهيري وتتسم بالجودة والاحترام، ولابد أن يكون التقييم "فنيًا" لا يجرم فكرة السينما ولا يحرم الفن. ومن ناحية أخرى، فإن الخلط غير المحسوب بين الذاتي والموضوعي يقود إلى نتائج وخيمة، ويصل إلى تجاوزات لا تليق. ومن أعطى للدكتور جاد حق أن يصف ممثلي الأفلام السيئة بأنهم يجسدون ما يعيشونه في حياتهم؟! وكيف يصل التعميم إلى المزج، في سلة واحدة غير متجانسة، بين الاحتلال الأجنبي وأغنياء الحرب والغزو الثقافي والحكم الاستبدادي؟! خطورة مصطلح مثل "الغزو الثقافي"، وبخاصة عند استخدامه في المجال السينمائي، أنه يخلو من التحديد والوضوح، وما أكثر الأفلام الغربية والأمريكية، الجادة والجيدة، التي تُتهم ظلمًا بأنها جزء من "الغزو" المزعوم، ولا شيء يؤخذ عليها إلا التعبير الصادق عن مجتمعات تختلف عن مجتمعنا؟!.
ويستمر الدكتور أحمد جاد في حملته، التي يخاطب فيها الأستاذ منصور حسن، وزير الإعلام، فيقول في نبرة لا تخلو من الخطابية والإنشائية: "وخطورة مثل هذه الأقوال والمواقف مدمرة للناشئة، بعد أن جعلت هذه (الأوثان الجديدة) هي المثل العليا أمام تطلعاتهم، وزورت لها الهالات، وأقيمت لها أعياد التكريم إذ أرصدت لها الجوائز".
يؤكد الدكتور من جديد أنه ضد "فكرة" الفن السينمائي، وليس معاديًا للسئ والمبتذل منه فحسب. في تعبير "الأوثان الجديدة" مبالغة تستهين بوعي المتلقين من جمهور الشباب، وكأنهم مسلوبو الإرادة وعاجزون عن التمييز، أما الهجوم على أعياد الفن وجوائزه فمن ثوابت مجلة "الدعوة"، فهي لا تتوقف عن تسفيه الفنانين وحفلات تكريمهم والجوائز التي يحصلون عليها من أموال الشعب المسلم!.

*مؤامرات العصريين*

معمر القذافي
معمر القذافي
من المقالات المهمة التي تعلي من شأن نظرية المؤامرة، حيث تتحول السينما إلى أداة من أدواتها، ما نشره الدكتور يوسف كمال في العدد رقم "55"، نوفمبر 1980، تحت عنوان: "العصرية.. فرقة جديدة في القرن الرابع عشر". يقع المقال في أربع صفحات، ويذهب كاتبه إلى أن "العصرية" مذهب جديد، يحي آراء الخوارج والمعتزلة، ويلتف حوله أعداء الإسلام والمسلمين، من اليسار واليمين. وبعد أن يشرح الدكتور فلسفة هذا المذهب، ويحمل بعنف على بعض من يرى أنهم رموزه، مثل محمد عمارة وحمد رضا محرم وعبد الله العلايلي وحسن الترابي ومحمود محمد طه، مرورًا بمصطفى كمال أتاتورك ومعمر القذافي!، ينتقل إلى "أهداف العصرية"، والهدف الخامس منها هو: "الترويج للفن والسينما والمسرح"!. ولكن ندرك أهمية هذا الهدف، لابد من الإشارة إلى أن الهدف العام يتمثل في "تعطيل السنة"، ومن الأهداف الموازية للتبشير بالسينما والمسرح رفض الخلافة، تمييع الجهاد، تعطيل الحدود، إباحة الربا، الدعوة إلى السفور والاختلاط!. "كارثة" السينما إذن لا تقل هولاً وخطرًا عن الكوارث التي يستهدفها العصريون، فما الذي يمكن فهمه واستنباطه إلا التجريم والتحريم والإدانة الحاسمة الصارمة؟!.
تتبنى مجلة "الدعوة" منظومة فكرية متكاملة متجانسة، والعداء للفن السينمائي مبدأ راسخ لا هوادة فيه. وإذا كان التنصل ممكنًا من بعض الآراء التي توقفنا عندها، من منطلق أنها اجتهادات فردية لا تلزم الإخوان بشيء، أو أنها صادرة عن كتاب لا ينتمون تنظيميًا إلى الجماعة ولا يعبرون عن مبادئها، فلعل وقفة متأنية أمام مقالات الأستاذ صالح عشماوي، رئيس التحرير، تكشف بمزيد من الوضوح والدقة عن الموقف الحقيقي الذي لا يمكن إنكاره أو التنصل منه.

*الشيوخ الأفاضل*

صالح عشماوي
صالح عشماوي
في العدد الثاني، أغسطس 1976، مقال للأستاذ صالح عشماوي، عنوانه: "إلى متى تستمر هذه الحملة على الإسلام؟"، ويقول فيه: "وفي عالم الفن نجد أفلامًا وتمثيليات عديدة تحت عناوين مختلفة تلمز دين الأمة وتهاجم عقائدها في تستر أو وضوح، وتتهجم على كتاب الله ونبيه وهو المثل الأعلى للإنسان الكامل. وأكنها بذلك تردد بشكل عملي وأخطر تأثيرًا.. كل ما افتراه المستشرقون ومازالت الشخصيات التي يثيرون بها ضحك الجماهير الساذجة على المسارح وفي الأفلام هي الشخصيات التي تطلق لحاها وترتدي زي شيوخنا الأفاضل، وما ذلك كله إلا من محاولات التهجم على الإسلام في شخص رجاله.. بكل السبل وشتى الطرق".
ما الأفلام التي تهاجم عقيدة الأمة وتتهجم على كتاب الله وشخصية الرسول عليه الصلاة والسلام؟. يخلو تاريخ السينما المصرية من هذه الأفلام، أما السخرية من بعض "رجال الدين"، انطلاقًا من سلوك مشين لا يخلو منه الواقع، فيقابله تقديم عديد من النماذج الإيجابية الجادة. الخطيرة المريب أن الكاتب يخلط عن عمد بين الإسلام ومن يقول إنهم رجاله، وكأن لهؤلاء الرجال حصانة تعفيهم من النقد، وكأن مجلة "الدعوة" نفسها لا تشن حملات قاسية ضد بعض رجال الدين هؤلاء!.
سخرية السينما المصرية لا تقتصر على بعض "شيوخنا الأفاضل"، ففي تاريخها الطويل لا تكاد تخلو مهنة أو تنجو من التعرض لسياط التهكم اللاذع: الضباط والمحامون والمدرسون ورجال الأعمال والأدباء والفنانون والسياسيون والموظفون وغيرهم، فلماذا يتجاهلون الأستاذ صالح كل هذه المهن، ويتوقف أمام الشيوخ وحدهم؟. هل ينكر الرجل أن بعض هؤلاء الشيوخ جديرون بالهجوم والنقد، وأن النماذج الإيجابية المحترمة هي الأكثر انتشارًا في الأفلام؟.
الأكثر خطورة وإثارة للدهشة، وهي ما يقوله الأستاذ صالح نفسه بعد سطور قليلة من مقولته السابقة: "ولست من رواد السينما ولا من مشاهدي أفلامها بنظام أو غير نظام، ولكن يلفت نظري كثيرًا ما يتردد حولها وحول محيطها من شكاوي تنفطر لها قلوب المؤمنين في بلد الإسلام دينه".
كيف له إذن أن يحكم على ما لا يشاهده، ويحاكم من خلال الاستماع والقراءة؟ ولماذا يثق في أصحاب الآراء السلبية، دون نظر إلى الآراء الإيجابية المضادة؟.
ويواصل الكاتب حملته: "قرأت في جريدة الأخبار الصادرة في صباح الجمعة 9-7-1976 في باب "إلى محرر الأخبار" رسالة من أحد الأخوة المواطنين جاء فيها. بلاغ للنائب العام .. بلاغ إلى علماء الدين. أصابتني الصاعقة عندما شاهدت منظرًا سخيفًا في الفيلم المعروض حاليًا بسينما الأوبرا.. كان المشهد رجلاً يمارس الجنس مع امرأة. وعندما سألوع عما كان يفعله في الحجرة. قال: كنت أهبد أربع ركعات!. كيف مر هذا المنظر على الرقيب أو الرقيبة.؟ فهي سيدة في هذا الزمن الذي انقلبت فيه كل الأوضاع. والأدهى من ذلك وأمر كيف سمح الرقيب أو الرقيبة بهذا الكلام المخزي توضيحًا للموقف المشين؟ هل الرجل حين يزني.. يصلي أربع ركعات.. او يخرج من عالم الإسلام النظيف الرحب إلى عالم الشرك بعفونته ومفاسده؟ وهل يستوي من يسجد للرحمن ومن يسجد للشيطان؟ أرأيتم أي حد تمرغنا في الوحل والطين؟ وكيف بلغت الاستهانة بالصلاة أبرز شعائر الإسلام.. وأقوى أركان الدين؟".
يغيب اسم الفيلم موضع الشكوى، لكن المغالطة تنبع من قراءة حوار الفيلم من منظور واقعي، دون التفات إلى طبيعة الشخصية التي "تهبد" الركعات الأربع!. أليس أن الواقع الذي نعيش فيه ملئ بالخطاة والكاذبين ومرددي الكلمات البذيئة المسفة؟. الأستاذ صالح يحاسب الفيلم وكأنه يبشر بالموقف الدرامي ويتحمس له، وينسى أن الحقيقة الفنية أمر مختلف. والأدهى والأمر أنه يرى في وجود مديرة للرقابة، ويقصد السيدة اعتدال ممتاز، دليلاً على انقلاب الأوضاع، فكأنه لا يليق بالمرأة، مهما تبلغ قدراتها، أن تتولى مثل هذا المصب!.
المواطن الذي كتب إلى "محرر الأخبار" يتربص بالفيلم ويترصد له، والأستاذ صالح يسايره ويزايد عليه، ويجعل من المشهد العابر قضية خطيرة، تمثل جزءًا من الحملة ضد الإسلام!.
*الرقابة هي الحل*
ويعود الأستاذ صالح في العدد الرابع، أكتوبر 1976، ليكتب مقالاً آخر عن "الإسلام.. والسياحة والسينما في مصر". وفضلاً عن الهجوم الضاري على السياحة، وما تسمح به من "تهتك" للسائحات، فإنه يتوقف طويلاً أمام صفحة "أخبار السينما" في جريدة "الأخبار"، ومن أبرز موضوعاتها مقال عن "مهرجان القاهرة السينمائي". يشن عشماوي هجومًا عنيفًا على محرر الصفحة، وينقل عنه ما نصه: "وقد كتب محرر الصفحة يقول إن استمرار الرقابة على العمل الفني لا يمكن أن يصنع فنانًا. ثم استطرد قائلاً: وقد وقفت الرقابة على المصنفات الفنية في مصر موقفًا عظيمًا(!) عندما منعت مقصها الشهير من التدخل في أفلام المهرجان حتى لا تشوهها (كذا) وعرضت أفلام تتضمن مشاهد (جنسية طبعًا) لم ير مثلها جمهور مصر على شاشاته من قبل".
انتهى المقتبس الذي لا يخلو من تدخلات دالة، مثل وضع علامة التعجب "!" للإعراب عن الاستنكار، والتعليق بكلمة "كذا" على تجنب التشويه، والتطوع بإضافة "جنسية طبعًا" للتعريف بالمشاهد التي لم تُحذف!. بعدها يأتي التعليق ساخنًا ملتهبًا، كأنها خطبة تحريضية أمام حشد متحفز: "وإذا كان المصلحون ودعاة الخير والفضيلة قد صرخوا حتى بحت أصواتهم من استنكار المناظر الجنسية المثيرة التي تعرضها شاشات السينما والتليفزيون في مصر رغم تدخل مقص الرقيب، فيا ترى ما هي المناظر التي عُرضت في أفلام المهرجان والتي وردت إلينا من هولندا وانجلترا وأمريكا وروسيا ولم يتعرض لها مقص الرقيب، والتي يصفها المحرر بقوله: لم يرد مثلها جمهور مصر".
الانحياز إلى الرقابة، التي يعاديها كل مثقفي مصر ويطالبون بتقليص دورها ونفوذها، موقف ثابت راسخ عند عشماوي وجماعته، بل إنهم يطالبون بالمزيد والمزيد، تحت شعارات الدفاع عن الفضيلة وحماية الأخلاق العامة وغير ذلك من المصطلحات الفضفاضة التي يمكن أن تقود إلى إعدام الفن السينمائي!.
ويأبى صالح عشماوي إلا أن يستعين باعتراضات بعض نقاد السينما على مشاهد بعينها، متوهمًا أنه ينتصر بذلك لقضيته، وغافلاً عن حقيقة أن هؤلاء النقاد ينطلقون من أرضية لا تعادي السينما، ولا تحاكم الإبداع من منظور ديني أو أخلاقي.
ممدوح سالم
ممدوح سالم
وينهي الكاتب مقاله بتوجيه النقد لرئيس الوزراء، ممدوح سالم، لأنه افتتح المهرجان، وهو الذي أقسم اليمين على احترام الدستور!، وكأن مشاركة الرجل في لافتتاح مخالفة دستورية تستوجب المساءلة، وكأن السياحة والفن مما يناقض الشريعة الإسلامية!.
*المزيد من الرقابة*
في العدد رقم "31"، ديسمبر 11978، يكتب الأستاذ صالح "على هامش الحوادث والأخبار"، تعليقًا قصيرًا عنوانه "أفلام الجنس في السوق السوداء"، ويفتتح التعليق بقوله: "نشرت الصحف أنه تم ضبط 400 فيلم جنسي مصري وأجنبي لدى اثنين، أحدهما ترزي قمصان والآخر سمسار.. وكان المثير في الأفلام المصرية أنها بألوان وأنها تصور فنانين وفنانات مصريين ومصريات في غرف النوم وفي أوضاع فاضحة مخلة بالآداب!. واعترف الترزي بأن هذه الأفلام عبارة عن لقطات تم تصويرها في أفلام مصرية كانت معدة للعرض على المواطنين من رجال ونساء.. ولكن الرقابة اعترضت عليها.. وقام الرقيب بقص هذه اللقطات. ولكن بطريقة ما وصلت هذه اللقطات المقطوعة إلى يد الترزي الذي قام بتجميعها في شكل أفلام عديدة تمثل مناظر جنسية فاضحة مثيرة".
حذفت الرقابة مجموعة من المشاهد الجنسية، وتسربت المواد المحذوفة إلى سوق تجارة الجنس، فمن يتحمل المسئولية.. وكيف يكون العلاج؟. إجازة السيناريو مرحلة أولى في العمل الرقابي، والتنفيذ الفعلي قد يتجاوز المسموح به، من وجهة نظر رقابية، ومن هنا تظهر فكرة الحذف، وتتعدد المشاحنات بين صانعي السينما والرقابة، ذلك أن الاتفاق مستحيل على مفهوم ما هو "فاضح" و"مسئ" و"مشين" وغير ذلك من المفردات النسبية المراوغة!.
يتناسى الأستاذ صالح أن الفنانين والفنانات "يمثلون" أمام حشد من العاملين في الفيلم، وأن الأفلام الجنسية تملأ الأسواق، قبل أن تظهر الفضائيات بعشرات من المحطات الجنسية الصارخة، التي لا يمكن إخضاعها للرقابة. مطلب الأستاذ عشماوي بالتحقيق مع نجوم الفن لا موضع له: "أليس من العدل والإنصاف والحزم أن نحقق مع نجوم الفن من رجال ونساء: كيف سمحتم لأنفسكم ولأنفسكن أن تقفوا أو تقفن هذه المواقف الفاضحة في غرف النوم أمام مصور يلتقط لكم هذه المناظر؟ وهؤلاء المخرجون الذين خططوا ورسموا هذه المناظر المخجلة في غرف النوم مع من عاونهم من مساعدين ومصورين.. أليسوا جميعًا قد شاركوا في الجريمة.. ويجب أن يشملهم التحقيق لينالوا جزاءهم العادل من العقاب؟".
هل نحاسب ممثلاً يقوم بدور اللص أو يتاجر في المخدرات؟ هل نحاسب ممثلاً قام بأداء دور ملحد أو سكير؟. الموقع الذي يحتله الجنس في الحياة الإنسانية، وفي الفن بالضرورة، لا يمكن إهماله أو إغفاله، والاختلاف مبرر ومنطقي حول "حدود" هذا الدور، أما أن يتحول تمثيل المشاهد الجنسية، في سياق درامي إلى "تهمة"، وكأنه فعل واقعي، فيكشف عن جهل فادح فاضح بالفن السينمائي والحياة الإنسانية معًا!.
الهدف الحقيقي للأستاذ صالح يتجلى بوضوح في نهاية التعليق: "إذا كانت هذه الفضيحة الكبرى قد حدثت رغم وجود وزارة الثقافة والرقيب فأية فضيحة يمكن أن تقع لو رُفعت اليد تمامًا وتركت الفن والفنانين أحرارًا لا يتحكم في عملهم إلا ابتزاز الجمهور واستغلال الشهوات وإيراد شباك التذاكر؟".
المزيد من الرقابة هو الهدف، وتكبيل الحرية النسبية المتاحة هو المطروح، ولابد أن تكون الرقابة البديلة أكثر قسوة وحزمًا، فلا تسمح بشيء يثير الشهوات ويحرك الغرائز!. البديل الذي يقدمه الإخوان المسلمون يفضي موضوعيًا إلى "إلغاء" السينما، فإذا كان الرقباء على شاكلة الأستاذ صالح عشماوي وأمثاله، فإنهم لن يسمحوا بشيء، ولن يتسامحوا مع الحد الأدنى من متطلبات العمل السينمائي!.
*العلة يا دكتور*
في مقال عنوانه: "تلك هي العلة يا دكتور"، العدد رقم "37" في يونيو 1979، يقوم الأستاذ صالح عشماوي بالرد على بعض آراء وأفكار الدكتور مصطفى محمود، وما يعنينا في هذا المقال هو الجزء المتعلق بالسينما والمسرح: "ويستطرد د.مصطفى محمود في دفاعه عن الأوضاع الفاسدة ووسائل الهدم وضياع الأخلاق بحجة غريبة فيقول "هل نلقي الفن والمسرح والسينما والإذاعة والتليفزيون والموسيقى والتصوير والنحت وهي أمور درج الناس عليها وخالطت دمهم الأكثر من ألف عام)..".

مصطفى محمود
مصطفى محمود
الموقف بالغ الوضوح، فالدكتور مصطفى محمود – كما يقول عشماوي- يدافع عن الأوضاع الفاسدة ووسائل الهدم وضياع الأخلاق!، وبعد أن ينتهي المقتبس المنسوب إلى الدكتور مصطفى، يرد الأستاذ عشماوي قائلاً : "أليست هذه هي الحجة التي كان يقولها كفار قريش (قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباؤنا).. (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباؤنا)..".
ما معنى أن ينسب عشماوي إلى الدكتور مصطفى أنه يتسلح بحجة كفار قريش؟ الإجابة من الواضح بحيث لا تحتاج إلى بيان!.
ويواصل عشماوي رده: "ومن قال إن الحكم الإسلامي سيلغي الفن والمسرح والإذاعة والتليفزيون؟ هذه هي وسائل وأدوات إن أُحسن استعمالها أفادت ونفعت وكانت من خير الوسائل لنشر الدين والأخلاق والفضيلة فليس المطلوب إلغاء هذه الوسائل ولكن المطلوب في ظل الحكم الإسلامي هو إلغاء ما تذيعه وتبثه وتنشره من أغان خليعة وأفلام جنسية رخيصة ومسرحيات تشكك الناس في عقائدهم أو تسخر من شعائرهم الدينية أو تهدم القيم والأخلاق والفضائل في نفوسهم".
ربما توحي البداية بموافقة الإخوان على الفن، لكن تفاصيل الموافقة تكشف عن وجود شروط ترادف النفي الكامل، فالحكومة الإسلامية "تلغي" ما هو خليع ورخيص وجنسي ومشكك في العقائد وهادم للقيم والأخلاق والفضائل. لا أحد يختلف حول هذه الأهداف بطبيعة الحال، لكن الاختلاف حتمي حول مفاهيم محددة يمكن الاتفاق عليها، لتعريف ما هو خليع وجنسي ورخيص وهدام!.
وتزداد الرؤية وضوحًا في السطور الأخيرة من المقال، فالأستاذ عشماوي يجعل من الدكتور مصطفى محمود واحدًا من زمرة المتآمرين المسيئين إلى الإسلام، ويقول ما نصه: "لقد كشف د.مصطفى محمود نفسه وأعلن دهيلة أمره فهو من أنصار (العصرية) في فهم الإسلام وهو المبدأ الذي كتبنا عنه كثيرًا على صفحات هذه المجلة. إنهم يريدون إسلامًا عصريًا يتسع لخروج المرأة عارية متهتكة، وإلى اختلاطها بالرجل في كل مكان. يريدون إسلامًا باسم الفن والحرية يتسع لكل ما يذيعه الراديو ويبثه التليفزيون من أغان خليعة وأفلام جنسية وما تعرضه السينما والمسرح من روايات وتمثيليات تهدم الأخلاق وتنشر الإلحاد والإباحية. إنهم يريدون إسلامًا يجعل من جميع المنكرات التي جاء الإسلام ليحاربها ويقضي عليها أمورًا مشروعة وشرعية!! وهذه هي العلة .. يا دكتور!".
إنها علة الأستاذ صلاح وجماعته، وقد أشرنا قبل قليل إلى ما كتبه الدكتور يوسف كمال عن "العصرية"، وها هو رئيس التحرير يؤكد أن موقفهم ثابت من الإسلام العصري.. ولا يجد الرجل حرجًا في القول بأن دعوة العصرية تدعو إلى العري والتهتك، وإلى بث الأغاني الخليعة والأفلام الجنسية وهدم الأخلاق ونشر الإلحاد والإباحية!!. كيف يستبيح الرجل لنفسه توجيه مثل هذا السيل من الاتهامات الخطيرة لمن يقدمون رؤية مختلفة؟ هل قال مصطفى محمود أو غيره ما ينسبه إليهم؟ المسالة أنهم يرغبون في مسايرة روح العصر، ويبشرون بخطاب جديد يتوافق مع معطياته، فهل أساءوا إلى الإسلام عندما قالوا إن السينما، وغيرها من الفنون، جزء أصيل من الحياة التي نعيشها؟!.
قد يُقال إن الأستاذ صالح عشماوي ينتمي إلى جيل إخواني عتيق، وإن شباب الإخوان أكثر وعيًا واستنارة، وأقرب إلى تقديم خطاب بديل يخلو من التشنج والتعنت والتطرف. إذا كان الأمر كذلك، فما الذي يقدمه شاب إخواني، بمقاييس السبعينيات، مثل محمد عبد القدوس؟. هذا ما نتوقف عنده، ونسعى إلى الإجابة عن سؤال محدد: هل تتغير الرؤية الإخوانية بما يساير روح العصر، أم أنها تحتفظ بجمودها وتعنتها ومرتكزاتها التقليدية؟  
محمد الغزالى-إحسان
محمد الغزالى-إحسان عبد القدوس
ينتمي محمد إحسان عبد القدوس إلى شباب الإخوان في السبعينيات، وفضلاً عن هذا الاعتبار الموضوعي، فإنه على المستوى الذاتي يبدو مرشحًا للاعتدال والعصرية، فأبوه هو الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس، وزوجه ابنه الداعية المستنير الشيخ محمد الغزالي.
القراءة التحليلية لكتابات الأستاذ محمد عبد القدوس، بعد القراءة السابقة لأفكار الجيل السابق ممثلة في مقالات الأستاذ صالح عشماوي، تهدف إلى الإجابة عن سؤال: هل تتحدد الرؤية الإخوانية التقليدية عند الأجيال الجديدة، أم أنها تستمر دون أن يطرا عليها تغيير يُذكر؟!.
*جدوى الأوبرا*
يكتب الأستاذ محمد عبد القدوس عمودًا في "الدعوة" تحت عنوان "تساؤلات"، وقد بدأ ظهوره بشكل شبه منتظم بعد حوالي عامين ونصف العام من بداية الإصدار. ويتسم العمود بتناوله لموضوعات شتى، سياسية واقتصادية واجتماعية، بأسلوب صحفي بسيط يخلو من التقعر، وللفن مكانة في تساؤلات محمد إحسان، وعند بعض هذه التساؤلات المتعلقة بالسينما نتوقف. وقد يكون مفيدًا أن نشير – في البدء- إلى ما كتبه الصحفي الشاب في العدد رقم "34"، مارس 1979: "أليس من الخير أن تُنفق الملايين في التخفيف من حدة الأزمة بدلاً من إنفاقها في بناء الأوبرا مثلاً. إن الناس لا يخسرون قليلاً ولا كثيرًا إذا بُنيت الأوبرا أو لم تُبن، يهمه أكثر أن تنفرج الأزمة الطاحنة التي تعاني منها البلاد والعباد".
قد يكون التساؤل السابق بعيدًا عن السينما، لكنه مفتاح مهم للكشف عن جوهر رؤية الكاتب الإخواني لجدوى وأهمية الفن بشكل عام، وهل مثل "الأوبرا" في تعبيرها عن أرقى وأنضج وأسمى ما يمكن للفن أن يقدمه في إطار محترم؟!.

روز اليوسف
روز اليوسف
من الناحية الشكلية والحسابية، فإن الملايين "القليلة" التي قد يتم إنفاقها لتشييد الأوبرا، بعد احتراق المبنى القديم، لم تجدي شيئًا في علاج المشاكل الاقتصادية الطاحنة المتراكمة المزمنة، التي تحتاج إلى ملايين الملايين، ولن تمثل ميزانية بناء "الأوبرا" عبئًا إضافيًا يستدعي الغضب والسخط. ومن الناحية الموضوعية، فإن ما يكتبه الأستاذ محمد ينم بوضوح عن ازدرائه للفن ورسالته السامية، فهو يتكلم باسم الناس زاعمًا أنهم "لا يخسرون قليلاً ولا كثيرًا إذا بُنيت الأوبرا أو لم تُبن"، وإذا فرضنا جدلاً أن العاديين من أبناء الشعب ينصرفون عن الفن الرفيع الراقي الذي تقدمه "الأوبرا"، فإن المطلب هو جذبهم إلى الفن المحترم، وليس مسايرتهم في الابتعاد عنه والسخرية منه والانصراف إلى الأسوأ والأدنى!.
الأزمة الحقيقية عند محمد عبد القدوس، معبرًا في ذلك عن الاتجاه الإخواني بشكل عام، أنه لا يرى في الوسائل الفنية المختلفة إلا أدوات لنشر الانحلال والفساد، وفي العموم نفسه تتجلى رؤيته هذه عندما يقول: "كيف يمكن أن تثمر سياسة الانضباط في الشارع دون أن تُطعم بالقيم الأخلاقية والروحية، بالقضاء على وسائل الإفساد التي تبدو فيها الكثيرات كاسيات عاريات، والتي يزيدها خطرًا ما يقدمه التليفزيون وتذيعه الإذاعة وما يُقدم في السينما والمسرح؟".
إنه يربط بين السلوك الذي يراه فاسدًا في الشارع المصري، ممثلاً في الكاسيات العاريات من النساء، وبين المواد الفنية المختلفة، المقدمة في البرامج الإذاعية والتليفزيونية من ناحية، وفي الأعمال المسرحية والسينمائية من ناحية أخرى. لا جدوى من الإصلاح الأخلاقي إذن، عند محمد عبد القدوس، بمعزل عن مقاومة "الخطر" الذي تمثله هذه الوسائل، وكأن كل ما يتم تقديمه من أفلام ومسرحيات وبرامج بمثابة دعوة تحض على الفساد وتدعو إلى الإفساد!. مثل هذه الرؤية المتزمتة تتوافق وتتناغم مع استهانته بالأوبرا، التي لا ينشغل بها الناس، ومن الأولى أن تُنفق الملايين المرصودة لها على الأزمات الأخرى التي تعاني منها البلاد والعباد!.
*انحلال وفساد*
في العدد رقم "52"، سبتمبر 1980، يكتب الأستاذ محمد: "هل سيشتد الانحلال في التليفزيون المصري بعد فصل قناتي التليفزيون وتحويل إحداهما إلى قناة تجارية تعرض المسلسلات والأفلام؟. نرجو وضع ضوابط لمنع مزيد من الانحلال في هذا الجهاز الذي اشتكى الجميع من فساده".
في سطور قليلة، لا يتجاوز عدد كلماتها الثلاثين، تتكرر مفردات "الانحلال" و"الفساد"، وتطل الدعوة السافرة إلى إضافة "الضوابط"، وكأن المزيد من الرقابة هي البديل الوحيد لمواجهة ما يتوقعه الكاتب من الانحلال. يرى الصحفي الإخواني، منذ البدء، أن الانحلال موجود، وتخوفه الجديد أنه سيشتد ويتفاقم، والأمر رهين بالمسلسلات والأفلام التي ترادف الانحلال والفساد، ويشكو فيها الجميع!. كيف يمكن التعليق على احتكار الأستاذ محمد للتعبير عن آراء "الجميع"، فهو لا يتواضع قليلاً ويقول "الأغلبية" مثلاً، لكن الفكرة الجوهرية تتمثل في محورين متكاملين: الأول هو الفساد القائم، والثاني هو توقع المزيد من الفساد مع تزايد عرض مسلسلات وأفلام، لابد أن تكون سيئة مسيئة!. لو لم يكن معاديًا لمبدأ الإبداع الفني نفسه، لكان المنطقي أن يطالب بحسن الاختيار والتركيز على عرض ما هو جيد ومحترم، لكنه لا ينشغل  كثيرًا بطبيعة ومستوى ما يُعرض من الأعمال الفنية، ذلك أن البضاعة كلها فاسدة ولا جدوى منها!.
هل ينفصل الفن عن الفنانين؟ أليس أن الموقف السلبي من الفن ينعكس بالضرورة على التعامل مع الفنانين وتوجيه النقد للدولة التي تغدق عليهم بلا حساب؟!. في العدد رقم "53"، سبتمبر 1980، يتساءل الأستاذ محمد: "بأي حق أو منطق تنفق الدولة آلاف الجنيهات على الفنانين رغم هبوط مستوى الفن بينما المشاكل التي يشكو منها الشعب شملت كافة مجالات حياته؟. إن كان بغرض رفع شأن الفن فقد هبط على أيدي الفنانين الحاليين الذين يأخذون المكافآت والتقديرات.. والأجدر مؤاخذتهم على ما سببوه من هبوط الفن؟
أهو الحرص على آلاف الجنيهات التي تنفقها الدولة، أم أنها الكراهية العميقة الأصيلة لفكرة الفن؟!. إنه لا يحدد طبيعة الإنفاق الذي يرفضه، وبخاصة بعد سياسة الحكومة في التراجع عن المشاركة في الإنتاج السينمائي، فما هي المجالات التي يستمر فيها مثل هذا الإنفاق الذي يحمل عليه ويدينه؟. يتحول "الشعب" إلى "فزاعة" يتم استدعاؤها واستثمارها للهجوم على ظاهرة الاهتمام بالفنانين وتكريمهم، فالأستاذ محمد يرى أن الشعب أولى بالملايين التي قد تُخصص لبناء الأوبرا، والآلاف التي تُمنح للفنانين الذين هم –عنده- يستحقون المؤاخذة والعقاب، لأنهم تسببوا في "هبوط" الفن وتدهور مستواه. القراءة الموضوعية المحايدة لظاهر كلماته قد تقود إلى إنه ضد الهابط المسف من الفن، وليس ضد فكرة الفن نفسها، لكنه سرعان ما يخلط الأوراق عندما يواصل التعليق في الفقرة التالية: الذي دفعني إلى طرح السؤال الفائت ما قرأته من أن هناك مخرجًا قد تقاضى من التليفزيون 21 ألف جنيه لإخراجه إحدى المسلسلات، وأن ممثلاً كهلاً في نفس المسلسل كان يتقاضى 600 جنيه عن كل يوم يعمل فيه.. نعم في اليوم وليس في الشهر.. فهل هذا معقول؟".
المعروف أن أجور الممثلين في السينما والمسرح والتليفزيون، في العالم كله وليس في مصر وحدها، تخضع لقانون العرض والطلب، وأن أحد الممثلين قد يتقاضى أضعاف المبلغ الذي يشير إليه الأستاذ محمد، لأنه يحقق بوجوده نجاحًا للعمل ويساعد على ترويجه وتحقيقه للربح، ولا معنى هنا للحديث عن الممثل "الكهل"، وكأن الكهول لا يحق لهم العمل والحصول على أجور مرتفعة، وكأن بعض الأعمال بالغة الجودة والامتياز لا تنجح إلا بفضل هؤلاء الكهول!.
يعرف الأستاذ محمد أنه لا علاقة للدولة بتحديد اجور الفنانين، وربما يرى الكثيرون من أبناء "الشعب" أن ما يحصل عليه أحد الكتاب أجرًا لمقال يكتبه، دون نظر إلى مستوى الكتابة وحجم المبلغ، أعلى بكثير مما يستحق. ويعرف الأستاذ محمد أيضًا أن بعض "الدعاة" يتقاضون مبالغ طائلة، مقابل الكتابة أو المشاركة في الندوات واللقاءات التليفزيونية، وقد يكون العائد من مقال أو لقاء أضعاف ما يتقاضاه موظف مصري في سنة كاملة، فهل يحق لأحد أن يتباكى باسم "الشعب" رافضًا لهذه المغالاة؟!.
*الأعياد والمهرجانات*
يتخذ الأستاذ محمد عبد القدوس موقفًا عدائيًا راسخًا تجاه الاحتفالات والأعياد الفنية ومهرجانات السينما، وكالعهد به دائمًا فإنه يرفع راية "الشعب" ويتذرع بها لتجميل موقفه، ولا ينسى أن يشكك في قيمة وجدوى وأهمية ما يتم الاحتفال به وعرضه وترويجه.
في العدد رقم "30"، نوفمبر 1978، يتساءل محمد عبد القدوس: "هل الفن بصورته الحالية يستحق أن يُقام له عيد يحضره كبار رجال الدولة؟ وهل هذا التصرف يرضي مشاعر الشعب؟ وهل يمثل هذه التصرفات تنهض الأمة من كبوة الفن الماجن الرقيع؟".
محمود مرسي- فاتن
محمود مرسي- فاتن حمامة
لا يرضيه الفن بصورته القائمة، لكنه لا يقدم تصورًا عن الفن البديل الذي يستحق الاحتفال والتكريم، ولا يطرح اسمًا واحدًا لفنان محترم يراه جديرًا بالتقدير والإشادة. قد يكون مفهومًا أن يبدي اعتراضًا على تكريم فنان بعينه، والمنتظر في هذه الحالة أن يقدم الأسماء التي يراها أولى بالاهتمام. هل تخلو مصر من ممثلين محترمين مثل محمود مرسي ومحمود المليجي وغيرهما؟ ألا تزدحم الساحة الفنية بممثلات رفيعات المستوى فنيًا وخلقيًا مثل فاتن حمامة ومديحة يسري وأمينة رزق؟ ألا يستحق مخرجون من أمثال صلاح أبوسيف وكمال الشيخ وشادي عبد السلام أن يُكرموا؟!. إذا كان الفن السائد الجدير بالهجوم والنقد ماجنًا رقيعًا، فهل يكون العلاج في استئصال فكرة الفن، أم في السعي إلى إنتاج رفيع محترم ملتزم؟. وإذا كان الأمر كذلك، فبم نفسر هجوم الأستاذ عبد القدوس على الأوبرا، وهي التي لا تقدم إلا الرفيع والشامخ من الفن؟. إنه يتجنب الإعلان عن عدائه الكامل، ويجعل من المراوغة والتعبيرات الفضفاضة وسيلة للتحايل، فكأنه يطالب بفن أخلاقي يتوافق مع الإسلام ومبادئه، ولا يعرف هو – شخصيًا – كيف يمكن تقديمه!.
ولأنه حريص على "مشاعر الشعب"، وكأنه لا عمل للناس إلا متابعة ما تتكلفه الأوبرا وتكريم الفنانين، فإنه يكتب في العمود نفسه: "ما الذي استفاده الشعب من إنفاق ألوف الجنيهات من أموال الدولة على مهرجان السينما الأخير؟".
مفهوم "الفائدة" هنا يستدعي وقفة متأنية، فهل يعني بكلمته هذه الجدوى الاقتصادية أم الفكرية؟. إذا امتدت الخيوط على استقامتها، فإن باب المزايدة ينفتح واسعًا أم أسئلة سفسطائية مماثلة: ما الذي يستفيده الشعب من طباع الكتب وإنشاء المكتبات العامة؟ ما العائد المادي الملموس من إقامة التماثيل وتزين الميادين بالنافورات وتنسيق الحدائق؟!. لا يتحتم أن تكون الفائدة مادية مباشرة، ولا تفسير لذلك التعنت الواضح، عندما يتعلق الأمر بمهرجان سينمائي، إلا أن يكون الفن عديم الجدوى على المستويين المادي والروحي، ولا مبرر للاهتمام به والاحتفاء بأنشطته.
مهرجانات السينما وسيلة مهمة للتواصل الثقافي والاطلاع على أحدث ما تم إنتاجه في السوق السينمائي العالمي، وما أكثر المهرجانات التي يتلهف العالم كله على متابعتها، في "كان" و"برلين" وغيرهما من مدن العالم، لكن الأستاذ محمد عبد القدوس، وجماعة "الإخوان" بشكل عام، يناصب مهرجان القاهرة السينمائي عداء لا هوادة فيه، وينصب التركيز على ما يصاحب الاحتفالية من ظهور بعض الفنانات، المحليات والعالميات، بملابس عارية مثيرة، فضلاً عن عرض أفلام لا يتعرض لها "مقص" الرقيب!. إنهم لا يرون في المهرجان إلا إطاره الجنسي الذي ينشر الرذيلة، ومثل هذه الرؤية الأحادية تحجب عنهم الأبعاد الأخرى الجديرة بالمتابعة والاهتمام.
في العدد رقم "42"، نوفمبر 1979، يكتب الأستاذ محمد من جديد: "الأموال الطائلة التي أنفقت على مهرجان السينما الأخير.. ألم يكن من الأجدى أن تُنفق لحل مشاكل الشعب العاجلة وهي كثيرة؟. حقًا إنه تصرف لا يليق بالقائمين على جهاز السينما في بلد مسلم. هذا إلى أن السينما ماتزال حتى اليوم عامل تحلل وانحلال وإفساد".
من يقرأ للأستاذ محمد عبد القدوس، وغيره من كتاب مجلة "الدعوة"، يتخيل أنه لا علاج لمشاكل الشعب، في التعليم والإسكان والصحة والطرق والمواصلات، إلا بتوفير "آلاف الجنيهات" التي تُخصص للإنفاق على الاحتفالات والمهرجانات السينمائية!. إنهم على دراية كاملة بأن المشاكل المتراكمة التي تعانيها مصر، تحتاج إلى ميزانيات هائلة، وحيث الآلاف يبدو عبثيًا وهزيلاً عند معرفة حقيقة الأرقام المطلوبة للإصلاح. ثم ما الذي يعنيه الأستاذ عبد القدوس بالتصرف الذي لا يليق من جهاز السينما في بلد مسلم؟!. أهو يقصد تنظيم المهرجان، أم يعني إنفاق الأموال "الطائلة"، وهي ليست كذلك، في أنشطة غير إسلامية؟.
جوهر الموقف الرافض يتجلى في كلماته بالغة الوضوح: السينما عامل تحلل وانحلال وإفساد، وبمثل هذا التصور لا يمكن أن يرضى الإخوان إلا بإلغاء ومنع ما يسبب الفساد ويشجع الانحلال، والفن السينمائي في طليعة عوامل الفساد التي يطالبون بالقضاء عليها والحد من شرورها!.
*تجريم وجوائز*
في العدد رقم "47"، أبريل 1980، يكتب الأستاذ محمد: "لقد ضج الشعب من كل عيب يهدد أخلاقه.. فإلى متى سيستمر؟".
وسرعان ما ينتقل إلى موضوعه الأثير، مكررًا المفردات نفسها التي لا يمل من استخدامها: "برامج التليفزيون التي تتنافى مع كل القيم، والأفلام الهابطة التي تثير الغرائز.. لماذا لا يتم تجريمها بدلاً من إعطائها جوائز؟".
الأفلام السينمائية التي تحصل على الجوائز، لابد أن يتوافر فيها الحد الدنى من القيمة الفنية والفكرية، وعندما يهاجم الأستاذ محمد أفلامًا مثل هذه، ويكشف عن "تجريمة" وإدانته لما يراه النقاد والمتخصصون جديرًا بالتفوق، فإنه ينم عن موقف غرائبي يتجاوز رفض "الردئ" إلى كراهية الإنتاج في مجمله. إذا كانت الأفلام التي تحصد الجوائز مثيرة للغرائز، فكيف الحال بالنسبة لغيرها من الأفلام؟!. يواصل الكاتب الصحفي حملته: "إن ما يُسمى بعيد الفن هو عيب يجب وضع حد له لأن الذين يُكرمون فيه هم الذين يقومون بكل ما تعرضه أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، الأمر الذي ضاق به كل ذي خلق ودين.. فلماذا لا توضع نهاية لهذه المهزلة؟".
يبدأ العمود بالتعليق على "قانون العيب"، الذي تحمس الرئيس أنور السادات لإصداره، والكاتب الإخواني يتحفظ على القانون، وله في ذلك كل الحق، لكن المشكلة أنه يرى "العيب" الحقيقي في اسم "عيد الفن"، وفي "تكريم" من يشاركون في صناعة الأعمال الفنية التي يراها مبتذلة وكريهة، ويضيق بها "كل ذي خلق ودين"!. السؤال الذي لا يقدم له إجابة: كيف توضع النهاية المناسبة لهذه المهزلة؟!.
محمد أنور السادات
محمد أنور السادات
لقد أشرنا من قبل إلى ما كتبه رئيس تحرير "الدعوة"، الأستاذ صالح عشماوي، عن ضرورة "محاكمة" الممثلين والممثلات الذين شاركوا في المشاهد الجنسية التي حذفتها الرقابة، وتسربت إلى بعض تجار الجنس، وكان ذلك في العدد رقم "34"، الصادر في ديسمبر 1978، وعن قضية مشابهة يكتب محمد عبد القدوس في العدد رقم "64"، أغسطس 1981، وهو آخر أعداد مجلة "الدعوة" قبل توقفها عن الصدور: "لماذا لم يُعاقب كبار الممثلين الذين تم ضبطهم في أوضاع فاضحة بأفلام الفيديو؟ وإلى متى السماح لهؤلاء بنشر الفساد متسترين تحت اسم الفن؟".
أي فنانين يقصد؟، وما الأفلام التي يتحدث عنها؟، ومن أفلت من العقاب المستحق؟!. الكلمات مرسلة غامضة لا تفصح عن شيء، والاتهامات بعيدة عن التحديد، وتعبير "كبار الممثلين" يوحي بالكثير ولا يعني شيئًا في الوقت نفسه. ما أكثر الإشاعات والأقاويل والأفلام المخلة التي يتم توليفها بحثًا عن المزيد من الرواج والانتشار، وليس من خلق المسلم أن يبادر بإلقاء التهم جزافًا، فإن كانت لديه بينة موثقة لا يتطرق إليها شك، فعليه أن يعلن الأسماء، لا أن يكتفي بالإشارة العامة التي قد يُضار منها برئ لا ذنب له إلا أنه من كبار الممثلين. تورط بعض هؤلاء لا يسئ إلى مهنة الفن، فالفساد موجود في كافة المهن، لكنهم يسيئون إلى أنفسهم. إنهم لا يقومون بمثل هذه الأعمال المشينة لأنهم فنانون، بل لأنهم منحرفون فاسدون، وما أخطر الخلط المتعمد لإثارة المشاعر الدينية والأخلاقية، وتشويه مهنة كاملة، تضم أغلبية شريفة وأقلية فاسدة.
*أجيال متعددة.. ورؤية واحدة*
هل يختلف الجديد الجديد من الإخوان المسلمين، بمفهوم السبعينيات من القرن الماضي، عن الأجيال القديمة؟!. لا تختلف المبادئ والأفكار الإخوانية الجوهرية، والموقف من الفن والسينما متشابه. الأستاذان صالح عشماوي ومحمد عبد القدوس ينتميان إلى جيلين مختلفين، ويقفان على أرضية واحدة. المشترك بينهما هو العداء الشديد الراسخ للسينما، دون تمييز بين الجيد الحاد والردىء المسىء من أفلامها. ويتفق الكاتبان أيضًا في رفع شعارات دينية وأخلاقية لإدانة الفن السينمائي، والحط من شان الفنانين، كما يشتركان في شيوع مفردات بعينها فيما يكتبان، ومن ذلك كلمات مثل "الابتذال" و"المجون" و"الفساد" و"الانحلال"، وغير ذلك من الكمات ذات الإيحاء السلبي.
أهمية محمد عبد القدوس لا تنبع فحسب من انتمائه إلى شباب الإخوان قبل عدة عقود، وكان المأمول فيهم أن يكونوا اكثر اعتدالاً واستنارة، لكنها تقترن أيضًا بالعنصر الذاتي ممثلاً في العائلة الفنية العريقة التي ينتسب إليها. إنه حفيد الممثلة المسرحية العملاقة السيدة فاطمة اليوسف، وحفيد الممثل الكبير ذي الحضور المتوهج محمد عبد القدوس، اما والده فهو من أكثر أدباء مثلا ارتباطًا بالإنتاج السينمائي، كمًا وكيفًا، وقد ترك المرحوم الأستاذ إحسان عبد القدوس بصمة لا يمكن إنكارها أو إهمالها في تاريخ السينما المصرية، وتحولت معظم رواياته وقصصه إلى أفلام مثيرة للجدل. وسوف نتوقف فيما بعد أمام ما تعرضت له بعض هذه الأفلام، مثل "أبي فوق الشجرة" و"امبراطورية ميم"، من هجوم عنيف يفتقر إلى الاحترام والموضوعية، على صفحات مجلة "الدعوة" نفسها.
القضية ليست شخصية أو فردية بطبيعة الحال، ولا يمكن أن تكون، ومن حق الأستاذ محمد عبد القدوس أن يختلف عن أبيه، وأن يعارضه ويتبنى أفكارًا مغايرة، لكن المشكلة في لغة الحوار والأسلوب المتبع في الإعلان عن الاختلاف.
من حق الإخوان المسلمين أن يطالبوا بفن سينمائي إسلامي، يتفق مع مبادئهم وأفكارهم، ومن حق المعارضين لهم، سياسيًا وفكريًا، أن يطالبوا برؤية كاملة متماسكة، تعينهم في فهم المقصود من الفن البديل الذي يبشرون به. مثل هذا المطلب المشروع، يبدو مستحيلاً في ظل الهجوم الجارف على "فكرة" و"مبدأ" السينما. إنهم لا يجدون حرجًا، بخلاف الأغلبية العظمى من المبدعين والمثقفين، في الحث على إحكام الرقابة ومنحها المزيد من الصلاحيات. وإذا كان الدكتور عمارة نجيب، أحد أبرز كتاب "الدعوة"، فمن ينشغلون بالهجوم على المسرح أكثر من اهتمامه بالسينما، فإن كتابًا لا تخلو من التفات إلى آثام ومخازي وجرائم وتجاوزات السينما المصرية!. وتكتمل اللوحة إذا توقفنا أمام كتابات أخرى متفرقة، تعلي من شأن الرقابة، وتطاب بتدخلها الحاسم البائر لإقرار الفضيلة، وفرض الالتزام الخلقي، ومحاربة ما يرون أنه انحراف وفساد وانحلال. 

شارك

موضوعات ذات صلة